نصوص أدبية
ود جمال الهنداوي: فطائس
- هل حقا انها رحلت؟
انزل قبعته العسكرية وأنهار جالسا على الارض الباردة غارقا في دموعه التي يسفحها باسراف على محراب الحدث الجلل الذي وطأه للتو، وبعد موجة نحيب بدت نها كالهر صاح الرجل الذي استوطن غرفة الانعاش لعدة ايام بجانب زوجته المريضة نائحاً:
- كيف جعلتيها ترحل؟.
لم اعرف بماذا اجيبه بالضبط، لاني ليس من جعلها ترحل بدقة، ولم افهم سبب النظرات التي اختلطت الكراهية بها مع الدموع والتي كان يصوبها نحوي، ولماذا أنا، ليس الامر وكأنني مالك الشقة الأرضية في نهاية الشارع، صفع ايدي حين اقتربت منه ببطئ محاولة تهدئته، أدركت حينها ان كل ما اقوله الان سيستفز فاجعته. هل اواسيه؟ ام اخبره ان هناك رجل غيره يصغره في السن ويناقضه بالوسامة كان يأتي بها للمستشفى؟ وهل سيكون مفيدا لو قلت له بأني صادفتهم يدلفون الى الشقة في نهاية الشارع عدة مرات عندما كانت طرقنا تتقاطع، هل من العدل أن ابوح له بأني تفاجأت بأنه هو.. الرجل الممدد على ارضية الممر القذرة ناشجاً رحيلها.. والذي ينوح بصوت عال كطفل اضاعته أمه في سوق مزدحم.. هو زوجها الذي تحدثت لي يوما عن غيابه الطويل عن المنزل بسبب طبيعة عمله، وليس ذلك الشاب الذي كانت تبادله النظرات الولهى والابتسامات المسرفة في جمالها وعفويتها..
لم اعرف ما ينتظر سماعه مني في تلك اللحظة، وما الذي علي أن أقول.. لطالما ما ظننت ان الكراهية اسرع ترياق للسم الزعاف، هل أخباره بالحقيقة سيكون مخففا لحزنه أم أنه سيكون خلطة قاتلة من الحزن والذل والشعور الممرض بالخيانة، هل من المعقول أن يخفف عنه شعوره بالاستغفال كل تلك المدة بعض ما يمزق صدره في هذه اللحظات الرهيبة.. لحظة الموت الرهيب عندما يحط بكل جلاله كاتما على انفاسنا.
ترى هل يجب أن نسامح عند الموت؟ وهل أبراء ذمة من رحلوا فرض علينا أم خيار..مع اليقين باستمرار من سنغفر لهم في ازدراد لحمنا لو بقوا على قيد الحياة.. هل تعوضنا الحياة بدل تلك القضمات التي نكابدها من أحبتنا لحما طازجا جديدا عند الموت؟ هل تتقيأ الجثث ما لاكته من أحلامنا؟ ولم نستمر بالبحث عن الجزء اليانع في التفاحة العفنة في حين أن هناك العديد من أشجار التفاح لا تبعد عنا سوى دقات قلب.
لا داعي لكل هذا.. فلست متعاطفة تماما مع هذا الرجل الذي دخل الى المشهد متأخرا، ولا اخفى كذلك إني اعتدت على الجثث، فلا يمحي عندي موتهم أي من السوء الذي يفترض أنهم توحلوا فيه في حياتهم، ولهذا السبب لم أحس بالأسى تجاه هذا الجسد المترهل الرمادي المسجى أمامي على طاولة الموتى، لا اعلم لماذا تبدو الان تلك السيدة متعددة الشركاء اكثر زرقة وتهرئاً مما يفترض أن تكون، هل بسبب مشاعر غير مفهومة تتأرجح بين الغضب والخيبة والشفقة على هذا الرجل الذي يسفح الكثير من الدموع على حب لم يكن له من الأساس، أم للأسئلة الكثيرة التي كانت تمر على خاطري عندما كنت أرى ذلك الثنائي المتنافر بين أمرأة في أواخر العمر وفتى في مقتبله.. والتي وجدت الآن اجابة لا يمكن عدها هادلة تحت أخف الظروف.
أتسائل.. ماذا سيحدث لحبيبها اليافع الان، أو أين هو الآن على الأصح.. ترى هل كان يواعدها من اجل المال؟ ليس كانها تملكه، لم نجردها من اي مال أو مجوهرات او أي مما يدل على الرخاء عندما لفظت أنفاسها الاخيرة، وبالتاكيد ليس للجمال دور بالموضوع، مع الفارق الواضح بالسن الذي لم تفلح المساحيق باخفاءه، او ربما كانت لذلك الشاب عقد دفينة بالتعلق بالأم كتلك التي قرأتها مرة في مجلة ما أثناء استراحة عابرة لي في غرفة الانتظار.. لا اعلم.. وقد لا أعلم أبدا.. فستكون تلك المرأة وعشيقها وزوجها المنهار على الأرض مجرد ذكرى باهتة بعد سويعات قليلة.. وسيكون هناك بالتأكيد ما سيشغلني أكثر من التفكير بمصائر حيوات تلاقت في نقطة قد لا تكون المثالية في سفر الزمن الخالد.. لكن ما أنا متيقنة منه تماما.. ان هذا الرجل الحزين لا يريد سماع رأيي بزوجته الفاضلة الراحلة بالتأكيد، وفي هذه اللحظة بالذات، ولا يريد ان يعلم انه محظوظ جدا أن الأمر أنتهى على هذه الشاكلة، فلو كنت في مكانه لرميت زوجتي في مكب النفايات بدلا من انفاق دخلي لعدة سنوات من اجل مراسيم العزاء والتأبين..
***
ود جمال الهنداوي - العراق