نصوص أدبية
ذكرى لعيبي: لقاء في المكتب
الفصل (10) من رواية: غابات الإسمنت
بعد العشاء أقبلتْ الحارسة وطلبت مجموعة منّا، أنا ونجاح، مديحة أيضا كانت معنا وأم نظيم، كنت في حالة انهيار تام بعد إعدام كريمة، وباشرتُ عملي في التدريب على الحلاقة بتشتت مفرط، تخيلت نفسي مكانها أتأرجح على الحبل وتساءلت:
يا ترى ماذا طلبت أن تأكل أو تشرب قبل أن تصعد إلى منصة الموت؟ ماذا قالت؟ بمَ شعرت؟ هل تراخت مثانتها؟
وربّما كنت رأيت فيما ترى النائمة المرهقة المتعبة التي أثقلها التفكير والقلق، أن الهواء حبل ممتدّ من السماء إلى الأرض ليلتقطني أو يطاردني، ثم أرى قطة تتحول إلى حبل أو لأرى كلبا يصبح مشنقة.
لقد ماتت الأحلام السيئة حين سمعتُ الحكم عليّ بثمانية أعوام بديلة عن الموت، ثم عادت إليّ في بضع ليال بعد الحكم على رفيقتي، كأنني أنا التي حُكم عليها لا هي، وحاولتْ نجاح مواساتي فلم تفلح، رغم أن وجودها كان يخفف الكثير عنّي، ومما زادني يأسا وقلقا أن أسبوعا مرّ على حادثة الموت ولم تطلبني السيدة النقيب.
توجهنا إلى غرفة الإدارة، فوجدتها جالسة خلف مكتبها ومعها في الغرفة مفوّض شابّ وسيم طويل القامة، خفق قلبي وتأكدتُ أن شيئا ما يحدث، بدأتْ كلامها بصوت جاد رزين:
ـ اسمعي يا مديحة، بعد أيام ستطلبكِ جهة ما إلى التحقيق، ليس من شأني أن أعرف، المهم أن ننفذ الأوامر... أما أنتِ يا إنعام فسآتي غدًا لأصحبكِ إلى دائرة الشؤون القانونية، لننقلك إلى سجنٍ آخر في مدينة أخرى.
ـ أين سيدتي؟
ـ فيما بعد ستعرفين... كل ما أقوله أن هناك لجنة اجتماعية نفسية في سجن آخر، ستقوم بأخذ عيّنة من السجينات، للتطبيق عليها في دراسات اجتماعية ونفسية تخص الجامعات، المهم، لا يراودكما القلق.
ـ حاضر سيدتي.
تساءلتْ مديحة:
ـ هل أحضّر نفسي؟
ـ ليس الآن... لكن ليس ببعيد.
ـ نعم سيدتي.
ـ والآن سأغادر، مَنْ منكنّ ترغب في أن تقضي الليلة مع الحارسة؟ والتفتتْ إلى المفوض: سياستي أن اخفف عن السجينات، فالسجن تأديب وليس انتقاما، كل ليلة تأتي سجينة لتبقى مع الحارسة وترتاح.
ـ فكرة ممتازة سيدتي.
انبرت أم نظيم قائلة:
ـ أنا أرغب... لكنْ؛ سيدتي معظم الليل تقضيه أحدانا هنا تتلهى في مشاهدة التلفزيون أو شرب الشاي وخدمة الضابطة الخفير، وفي النهار يقع عليها عمل، إما غسل الملابس أو الدورة التدريبية فلا ترتاح.
ـ حسنا، من الآن أصدر أوامري، أن التي تأتي لتساعد الحارسة ترتاح اليوم التالي.
نهضتْ ونهض المفوّض يؤدي لها التحية، وسرعان ما خرجنا وبقيت أم نظيم في غرفة المطبخ، وفي الصباح عند الساعة السابعة جاءت إليّ... كنت أحلم طول الليلة بلقائها، أصبحتُ لا أستغني عنها، تقلّبت كثيرًا في الفراش، الشيء الذي ارتحت له أن الكوابيس التي داهمت نومي بعد إعدام كريمة كانت قد غادرتني، سأقضي نصف المدة هنا بفضلها، وأخرج بين حين وآخر لأقضي الليل في شقتها، أشعر أني معها إنسان كامل، أملك كل حقوقي، تراني أكثر من أنثى، رجل وامرأة أغنيها عن العالم، وبدأت أراها كذلك.
أقتنع تماما: إني لا اشعر بالذنب.
الحياة فكرة زيتها النفس... هذا ما توصلتُ إليه بعد حفنة الأزمات التي تعرضتُ لها، فقررتُ أن تكون فكرتي كما أشاء لأعيش كما أريد.
وضعتْ القيد في يدي وجعلتني خلفها، ثمّ قادت السيارة.
ـ المفوّض المتدرب "ناجح العابد"؛ أمه وأمي بنات خالة... سيبقى معنا أسبوعًا.
سالت دمعة من عيني، ولمحتني باستغراب.
تبكين؟
بقيتُ صامتة، واسترسلتْ:
حبيبتي والله عندي شغل، ثمّ إنني لا أستطيع أن أصحبك معي كل ليلة، أو بين ليلة وأخرى، كل ما يذهب إليه تفكير الحارسة أنك تأتين معي لتخدمينني وتنظّفي الشقّة؛ ولكي لا تشكّ أيّة من السجينات، فإنّي جعلت مديحة تبيت عندي بحجّة تنظيف الشقّة، صدّقيني يصعب علي ذلك؛ لكنّ هذا أفضل.
كانت دموعي تفيض، فأوقفتْ السيارة، وفكّت قيدي، لبستُ الجلابية العريضة فوق ملابس السجن، وقالت: هيا اجلسي جنبي.
بقيت صامتة وتحدثتْ وهي تمدّ يدها إلى يدي فتعصرها بحنان:
ـ ها سعيدة؟
وعندما وصلنا شقتها، وحالما دخلت اندفعتُ نحوها، ضربتُ صدرها بيديّ المضمومتين ضربات خفيفة، وانهرتُ بالبكاء وأنا أقول: لماذا لم تفعلي المستحيل لإنقاذ كريمة؟
كأنّي بتلك الضربات أتحرر من كل الكوابيس المقيتة، وأحس أن يديّ اللتين لبستا القيد هما حرتان به أو من دونه، فلا أهوي بقبضتي عليها بعنف.
كنت أضرب نفسي بقبضتي.
أحس أني أضرب صدري.
تركتني وأشاحت بوجهها عني، ثم قالت بنغمة فيها حيرة:
والله عملت المستحيل، ذهبت إلى أكثر من مسؤول أمني رفيع، فعرفت أن قضيتها يائسة مائة بالمائة، امرأة قتلت زوجها مدّعية أن زوجها الأول حرّضه على الانتقام منها بالنشوز، ليست كقضيتكِ، وجدتِ زوجك مع عشيقته عاريين.
في قضية كريمة اعتبارات قانونية وعشائرية، الدولة نفسها لا تتحكم بها، ألم تري أني لم أخرجها بحجة المرض أو التحقيق لتبيت مع مسؤول له سلطة على القضاء، لقد هان عليّ أن تقضي ليلة مع رجل من دون مقابل وهو حياتها.
واستدارت إلي وهي تلهث كأنها جاءت تهرول من مسافة بعيدة، فاندفعت نحوها أدفن رأسي بصدرها وهمست:
- أعشقكِ
أخذت يديّ بيديها، ورفعتهما إلى فمها تقبلهما وتقول:
ـ أنا أكبر إخلاصك وها أنا أقبّل هاتين اليدين، كانتا تهبطان على صدري مثل جناحي ملاك، لقد أحسست أنك لا تفعلين ذلك بعنف، قلبكِ لا يطاوعك!
ولم أكن أتوقع أن تحملني بكل رشاقة وخفّة كما لو كنت ريشة في يديها، على الرغم من أني لم أكن خفيفة الوزن، ................................
بدأتُ أغيب معها في عالم شفّاف.
لا ألم ولا خوف.
لذة فقط.
وهالة من الجمال والنعمة والدفء.
هالة شفّافة.
...........................................
نهضتْ من على السرير، زرّرتْ قميصها، طبعت على شفتي قُبلة وهي تقول:
ـ مجنونتان ... هذا أفضل .
ـ أحبكِ أعشقكِ.
وواصلت حديثها:
ـ سأغادر الى المركز ساعة أو ساعتين وأعود، استحمّي لكي آخذك إلى الكوافير، استحمي وأعدّي لكِ طعام الفطور، وسأجلب طعام الغداء من المطعم.
ـ بل ستأكلين من يدي.
ـ لا ليس اليوم، لأنني أريدكِ بعد الحمّام والفطور، أن تجلسي على مكتبي وتكتبي تقريرًا مفصلًا عن حياتكِ في السجن.
ـ حاضر يا عمري.
ـ اعتبري نفسكِ منذ اليوم تعملين في دائرة مهمّة ولكِ راتب.
ـ حقًا؟
ـ خذيها منّي، بالمناسبة... هل أخبرتكِ مديحة أن زوجها سياسي وأنهم وجدوا في بيتها مخدرات؟
ترددتُ ثم قلتُ نعم، هذه أمور عامة يمكن أن تكون حكتها للجميع.
ـ كل شيء ينفع.
ونظرتُ إليها نظرة ذات معنى وقلت:
ـ اسمعي حبيبتي ابتسام ... أرجوك، أنت تعرفين أن خيانة زوجي دمّرتني ... دفعتني إلى أن أقتل اثنين، أرجوكِ.
وقاطعتني بنرفزة:
ـ محال أن أخونك، أنت لستِ ظاهرة عابرة في حياتي، محال ... لا تفكّري بذلك، أقسم لك، كل ما فعلته كان لدرء التقوّلات ... لقد اطمأن قلبي إلى مديحة أكثر حين لم تخبرك ، سيدة أمن يوثق بها .
اندفعت قائلة:
ـ أين نامت؟
ـ في الصالة، لم أرد أن أجعلها ترقد في المطبخ، وفعلته مع سجينة أخرى رفيقتك؛ الحلاقة الساذجة، نظفت الشقة في الصباح، وكانت قد فرشت لها في المطبخ، وأخبرت بعض نزيلات السجن ممن تختصهن بصداقتها عن كرمي، ألم تخبرك؟
ـ بلى، وقد مدحتك كثيرا!
ـ إنها لا تصلح للعمل مخبرة، أرأيت؟ كل هذا من أجلك أنت، أفعل المحال، أحبك، أنا أعبدكِ.
ـ حبيبتي.
ـ احضرتُ لك بدلة ستلبسينها لتخرجي معي؛ لكن لا تفتحي الباب لأي أحد.
سأغلقه بجهاز الأمان، وأية لمسة من الداخل سيؤشّر عندي، وابتسمت وأكملت: أما إذا أردتِ الهرب فأنتِ وضميركِ.
ـ أين أذهب؟ أنتِ لي كل شيء، وواصلتُ بحنو، ألم أقل لك يوم أخبرتني عن وفاة أمك أنني سأكون لك كل شيء؟
ـ أنا وأنتِ كلانا يكمل الآخر.
خطفتْ قُبلة سريعة ثمّ عدّلت هندامها، وضعتْ عصا التبختر تحت أبطها وغادرتْ، وما زلتُ على السرير أحدق بسقف الغرفة الأبيض الزاهي.
ولا أعرف لماذا شعرت أن عمري أكبر بكثير مما عليه، نضجتُ وكبرتُ بحجم أوجاعي اليومية، وكل يوم وجعه يعادل عامًا كاملًا، سوى أني لا أريد بعد اليوم أن آسف على شيء فاتني قط.
***
ذكرى لعيبي