نصوص أدبية
محمد الدرقاوي: زيارة...
هبت من نومها على طرقات صباحية تقرع باب البيت، تمطت ثم فركت عينيها ظانة أن أحد الأقارب قد اقبل لزيارتها، رمت ساعة هاتفها بنظرة؛ العاشرة والنصف صباحا؛ كيف سرقها النوم الى ساعة متأخرة من صباحها؟ ..الطرقات تتوالى على الباب لكن بدرجة أخف من الأول.. تثاءبت قبل أن تفتح الباب لتجد أمامها رجلا مربوعا، أشعث الشعر، كث اللحية، شاحب الوجه، بادرها وقد أوشكت ضجرة أن تسد الباب في وجهه مرددة: "الله يسـهـل"..
ـ أتوسلك سيدتي قطعة سكر، "كرموسة " أو ثمرة، أي شيء حلو فاني أنهار ..
تريثت وصوت الرجل يأتيها متقطعا كأنه يخرج من بئرعميقة، تمعنت في وجهه، شحوبه وصوته يوحيان أنه على وشك أن يفقد وعيه ..
" ربماهبوط السكر في دمه ".. تركت الباب نصف مفتوح وهرولت الى الداخل لتعود بصحن من فواكه؛ شدت الرجل من يده ودعته الى داخل البيت؛ بلهفة تسلم الصحن منها، تربع البلاط، وصار يزدرد مما فيه. كانت تنظراليه بعيون تحجرت الدموع في مآقيها.. لم تنبعث في مخيلتها غير صور والدها تترى أمام عيونها يوم فقد وعيه ذات مساء وقد هبطت نسبة السكر في دمه، انشغلت عنه زوجته بزينتها في غرفة نومها فلم يجد من يقدم له أي شيء ينقد به حياته، فصعدت الروح الى بارئها ..
إلتهم الرجل موزة وحبة ثمر، واتكأ على جدار خلفه واضعا رأسه بين يديه، كأنه يستعيد أنفاسا منه قد ضاعت. عرق يتصبب من وجهه وذراعيه رغم برودة النهاركأنه ينزف سيلا، بادرته بكاس ماء فصبه دفعة واحدة في جوفه ..
استعادت عيونه بعض لمعانها، وشرع يتأملها ولسانه يلهج بدعاء؛ حاول القيام فمسكت بيده، وبدل أن يستدير الى الباب ألحت عليه في الولوج الى صالون قريب فامتنع، مشيرا الى ثيابه وقدميه الحافيتين الوسختين؛ شدت يده وأصرت على دخوله الصالون، تركته يستريح على فراش وثير وخرجت لتعود بألبسة وشبشب وفوطة بيضاء كبيرة ثم وجهته لدخول الحمام، لم يمانع، وقبل أن تقفل الباب خلفه قدمت له موسى للحلاقة وقالت: "لا تستعجل الخروج، خذ كامل نظافتك واطرق الباب متى انهيت حتى أفتح لك "
أسرعت الى المطبخ وشرعت تعد فطورا لها ولضيفها الزائر ..
لم يكن الرجل يشغلها بتفكيرعمن يكون، أو يثير فيها أثرا من خوف فتقدر حجم الخطر الذي قد يداهمها من ثقتها به، والسماح له بدخول البيت وحمام البيت، وليس في البيت غيرها، ما كان يشغلها هو خوفها من أن ينهار أمامها ويموت .. فصورة ابيها وذكراه الأليمة هي ما يملا كل جزيئة من تفكيرها يوم دخلت من عملها ووجدته يتوسد الجدار، فمه مفتوح كأنه قد نادى ولم يلب أحد له نداءا، وقد عقد يمناه بالشهادة؛ ما ضر زوجته لو أخرت زينتها قليلا تتريث عودتها بدل أن تتركه وحيدا وهي تعرف ان زوجها قد نخره السكري ومعرض لغيبوبة كثيرا ما كانت تفاجئه بلا إشعار؟؟..
جفلت كسحابة أريق ماؤها وهي تفتح للزائر باب الحمام وقد وقف أمامها متورد الوجه، رغم الضنى المطل من عينيه، حليق اللحية، حييا وقد استرسل شعر رأسه لامعا ممشوطا الى الخلف يكاد يغطي أذنيه.. أثارها طول الرجل عما رأته وهي تستقبله بالباب وكأن حرارة الحمام قد مددت من قامته، ساءلت نفسها:
"هل حقا هو نفس الرجل من دخل بيتها ثم حمامها؟ ..!!
هوى على يديها بقلب وجل يشكرلها صنيعها وهي تدعوه لمائدة الفطور؛استقام وهو يقول:
ـ ماذا بقي من خير ياسيدتي لم تقدميه الي؟ سأظل لك مدينا بهذا الفضل ما بقيت الروح تصاعد في جسدي ..
تبسمت من بين دموعها وعليه ردت:
ـ لم افعل الا ما أمرني به ربي و الواجب الإنساني، هيا لتتناول فطورك أولا !!..
كانت تتابعه بنفس مطمئنة وهو يرفع اللقيمات الى فمه بتأن وسكينة نفس، يمضغها بمهل مستلذا بطعمها، ولا يرد عن سؤال منها الا اذا وضع يده على فمه تأدبا، لم يداخلها خوف من وجوده، فالرجل لم يرفع بصره ليدقق فيما حوله، ولا زاغت له عين يتملاها وهي شابة جميلة على عتبة الأربعين، تلفت بنظر وتثير بقد وأنوثة طاغية .. كانت حركاته تدل على أصل وانتماء خليق، وحدها تقلبات الزمن ربما هي من حولته الى اشبه بمتشرد يستعطي البيوت.. كانت تتلهف لتسمع قصة حياة تكشف وبالتفصيل عمن يكون وما ظروفه؟
لم ينتظر أن تسأله فقد قرأ على وجهها لهفة السؤال الذي احتارت كيف تسوقه ..
"أنا ابن عائلة كبيرة ياسيدتي كنت واسطة عقد إخوتي الأربعة، لم أكن لهم شقيقا، فأمي من جبال الشمال في حين أن أمهم من شرقها ، نلت حظا من علم، لكن شغفي بالتجارة قد جعلني أدخل في مشاريع تجارية من صغري وأحقق فيها نجاحات أبهرت إخوتي الذين رفضوا الاستمرارفي الدراسة بقدر ما جرت علي حقدهم وحسدهم، كان أبي يؤثرني عليهم جميعا، فأوكل الي الكثير من أعماله التجارية التي فاقمت من غيرة إخوتي وحقدهم على أمي التي استطاعت أن تزرع في نفسي حب التجارة الذي يتميزبه أخوالي، نصبوا لها فخا واتهموها بإخفاء حشيش جلبه أخ لها من بلاد كتامة وهو لم يطأها أبدا، أحد إخوتي من دسه في غرفة نومها، ثم استطاعوا الوصول لها وهي في السجن عن طريق احدى الحارسات وتم قتل أمي والإعلان عن انتحارها خوفا من أن تفضحهم بعد خروجها من السجن؛ بعد موت والدنا استطاعوا تزوير وثيقة كتبها لهم أحد السياسيين كان ينافس أبي في الانتخابات كشهادة أني لست أخاهم وأن أمي كانت عاقرا بشهادة ادعوا أن أبي هو من تركها، وثقوها باثني عشرة شاهدا من شهود الزور فحرموني من حقي في الإرث ثم سجلوا ضدي دعوى تزوير، واستطاع محامي من حزب السياسي كاتب الرسالة، شاركهم المؤامرة أن يزجني ظلما وزورا في السجن ..
نلت من الظلم والقهر والبطش ما يشيب له الولدان ـ ياسيدتي ـ، وكان القصد تصفيتي لولا ألطاف الله الذي يمهل ولا يهمل فقد تراجع بعض شهود الزور عن أقوالهم بعد ان انتبه أحد القضاة أن أحد الشهود متعود على بيع شهادته لكل من يدفع بعد تكرار حضوره في أكثر من شهادة أمام القاضي، واعترف المحامي وكان يحتضر بعد حادثة سير مميتة إثر فتح تحقيق دقيق بأمر من الوكيل العام ان شهادة والدي بعقم أمي كانت كاذبة كما اقر بكل صغيرة وكبيرة حول ما وقع حتى يتم ابعادي عن كل ما خلفه ابي والطعن في ماضيه السياسي ..
استغربت المرأة لما كان يخترق أسماعها، كيف يتحول الاخوة من سند للزمان الى أعداء يكيد بعضهم لبعض؟ رمت بدموعها سواقي وهي ترى رجلا بكل هذا القد يكاد ينهار بين لحظة وأخرى وهو يحكي ظلم إخوته، كل غصة تتصاعد منه هي حريقة تأكل صدره ودموع تدمي أجفان عيونه..
إخوته نهبوه، حقدوا على أمه التي أعلنت تميزها بقدرات نفثتها في أبنها فلم يكفهم سجنها بزور وخديعة بل سلطوا عليها من قتلها خوفا مما قد يأتيهم منها .. لم يكن دافعهم من كل ذلك غير السطو على ثروة الأب بغير وجه حق ..
ماذا أصاب الناس؟ لا يد عادت تصافح يدا ولا قلب يقبل قلبا !!.. كل إنسان صارلبني الانسان حفار أخاديد، تعسفا وظلما ونهبا بلا رحمة، أنانية فاقت الصور والأوصاف، لفت الناس بلعنة أبدية ..حتى السياسيون المؤتمنون على مصالح من انتخبوهم تحولوا الى لصوص صارت لهم لازمتهم:" النجاة مضمونة فأيكم كان أوفرحظا؟اطحن ولا تخش معارضة فالكل سواء"
تنفست بعمق، وعلى خيالها قد تداعى زوجان، أتاها الأول عاشقا متيما ومن سنته الأولى تحول من سقسقة ماء وخرير نهر الى طوفان يريد أن يجرف وبالقوة ما ورثته عن أبيها، بعد استيلائه كل شهر على راتبها حتى صيرها تستعطيه ماتسد به أغراضها، وحين قالت: "توقف !! . إني حرة في مالي، ولي حاجاتي ورغباتي" ثار وعصف كريح عاتية وقال لها:"ما أريد أو الطلاق" وكأن الله قد أنطق الحق حلا على لسانه اذ هي كلمة الصدق التي قالها منذ ارتباطهما فلم تتردد أو تطلب حتى حقا من حقوقها بعد الطلاق .. بعد سنة بادرها الثاني بخطبة تقليدية عن طريق خالتها التي صورت لها الرجل لفة قطن قادر أن يولد مسارات الحب الذي ضاع من الزوج الأول ثقة وحنانا، ولئن كان اصغر منها بسنتين فهو كالحمل الوديع ويده ذهب كحرفي يكسب رزقه بجهده وعرق جبينه؛ فهي مطلقة وكل مطلقة وصمة فساد وقناصة رجال، لهذا وافقت وإن كان الفارق في التكوين والنشأة كبيرا ..
سنتان من زواج فجر بعدهما رغبته الأكيدة في ذرية تملا حياته، وبعد زيارات متعدد لأطباء اتفقوا ان الرجل عقيم وليس أمامها غير الحقن، فشرع يفاوضها من خلال مقايضة دنيئة، الحقن أو الطلاق، وحين امتنعت أن يدخل رحمها ماء أجنبي قدم طلبا للطلاق فناله..
تنهدت غصة حارقة و سألت زائرها:
ـ أين تعيش الآن وكيف؟
ـ خرجت من السجن فاقد كل أمل وقد تضاعف يأسي حين علمت أن إخوتي قد باعوا كل ما نهبوه بالتزوير والدس، وكل واحد منهم قد رحل الى دولة اجنبية كإرهابي او قاطع طريق ومرتزق خوفا من المتابعات..
صمت قيلا ثم تابع بعد غصة حزن كاوية:
ـ حالتي التي كنت عليها قبل أن يكرمني بيتك تعرفك بمأواي ومقامي وأنا بذلك سعيد فثقتي في ربي بلاحد ..
كانت تقرأ من رده مصالحة بين حياته وموته، فهو قنوع بما يعيشه بعد معاناة ظلم إخوته ومطمئن لما قد يأتيه ويحياه، وعي بالحياة وبالموت، ذلك مبلغ تفكيره الى أن يعود الى ترابه، تفكير لا يعني الخمود والجمود وانما يعني اليأس من الانسان كشريك حياة بلا قيمة يرعاها أو ربما هو عمق ما وقر في دواخله بعد سلسلة من الضربات صورت له الحياة بلاجدوى مادام الظلم هو قانونها الأسمى، ورغم هذا فثقته بخالقه لم تتزحزح..
اتكأ على يديه وهم بالوقوف وكأنه ينهي رحلة قصيرة من عمره، وقد أعادته عبر لحظاته مع من أكرمته أن في الحياة طيبة قد أسكنها الله في بعض خلقه تصدر عن بعض بني الانسان لتخفيف فظاعات بعضهم..
وضعت يدها على كتفه وقالت:
ـ تمهل، الى أين؟ هل شبعت منا أم عليك قد اثقلت بسؤال؟
ارتمى على يديها يريد أن يقبلهما، وقد خنقته غصة تفجرت لها دموعه:
أشبع منك !! .. لست ناكر جميل ولن أكون، وخيرك هو ما أعاد الي الثقة في بعض بني الانسان، ويشهد الله أني خجلت أن أطلب منك مساعدتي على عمل يقيني مذلة التسول ووسخ البدن، سأكون قانعا بأي مبلغ اسد به الرمق وأعيش منه بكرامة نفس وبأمان من الظلم بدل حياة الشوارع ومذلة اليد السفلى ..
عانقته بحرارة وقالت: ابق، أنت اليوم ضيف وغدا يفعل الله مايريد..
***
محمد الدرقاوي ـ المغرب