نصوص أدبية
ناجي ظاهر: المهمة الصعبة
كان ذلك خلال زيارة أقارب لنا في الناصرة، وفدوا من الاردن، بعد حرب الايام الستة. وكنّا كلنا شوقًا لأقاربنا واهلنا هناك، فقد كنّا نعرفهم بالاسم، لكن.. بالشخص.. لم نكن نعرفهم. وقد استغرقتنا بهجة اللقاء، فتهنا فيها.. أنا لي عمّ ولي خال، الحمد لله أننا التقينا بهم أخيرًا وهاهم يفدون إلينا زائرين.. مدّة أيام سنتعرّف خلالها عليهم جيدًا وسوف نبدأ العلاقة من حيث انقطعت لتتواصل أواصرها. جلس الجميع يتبادلون الحديث والذكريات، أما نحن أبناء الجيل الجديد، فقد شرع كلّ منّا في التعرّف على الآخر وكأنما هو يعرفه من قبل.. ألسنا أقرباء؟ ألسنا من قرية واحدة، بات اسمها قريبًا جدًا من القلب لكثرة ما تردّد.. دخل كلّ منّا ضيوفًا ومستضيفين، في خانته الخاصة، فقد احتضنتْ عمّتي أخاها، فيما راحت والدتي تُقدّم واجبات الضيافة وهي تسترق النظرات إلى ابنة عمّي الصبيّة الطالعة.. طلوع البدر.. نعيمة. ضبطتُ أمي أكثر من مرة تتمعّن بابنة عمّي، فابتسمت لي كأنما هي تريدني أن التفت إلى ابنة سلفتها. لا أخفي أن ابنة عمّي كانت زهرة ذلك اللقاء، ووردته المتفتّحة الفوّاحة، وكان ما يلفت النظر فيها.. وجهها البسّام وقوامها الميّاس. ناهيك عمّا تمتّعت به من توجّهات أخلاقية أدهشتنا وأثارت مكامن محبّتنا لها.
لاحظت عمّتي اهتمامنا نحن جميعًا بابنة أخيها، فأرسلت ابتسامة رائعة مُمرّرة إياها بين الجميع تقريبًا ومتوقّفة عندي، وعندما عادت عمّتي إلى بيتها برفقة أخيها وابنته، وجدت نفسي أرافق الجميع إلى هناك، هل كان ذلك اهتمامًا بآصرة الدم المتوهجة.. أم إعجابًا بابنة عمّي؟.. في المساء استوقفتني عمّتي منادية:
- نعيم..
- نعم خالتي؟
- شو رايك بنعيمة ابنة عمّك؟
غضضت النظر أرضا ولم أجب. فعادت تقول:
- أنا بفكر انها تكون إلك.. انت شاب متعلّم وهي متعلّمة وبتفهم.. لم أفه بأية كلمة وتابعت صمتي، فجاءني صوت عمّتي من بعيد:
- السكوت علامة الرضا.. نعيمة رايحة تكون زوجتك بإذن الله.
اقتربت زيارة الاهل من الانتهاء وابتدأنا نستمع إلى كلمات الوداع تتردّد هنا وهناك في هذا اللقاء أو ذاك، إلى أن حان موعد الرحيل، وحزم زوارنا الاعزاء أمتعتهم للعودة إلى منفاهم القسري في الاردن، وما زلت أتذكّر أن عمّتي طلبت سيارة أجرة لتقل أخاها إلى الجسر، وترافقه إلى هناك، لتعود بعد ساعات وبرفقة ابنة أخيها نعيمة. وبدون أن أسألها قالت لي إنها تحدّثت إلى أخيها بخصوص ارتباطي بابنته، وانه وافق بكلّ رضا وسرور، وتركها لإجراء مراسم الزواج والبناء بي. ما إن سمعت هذا الكلام من عمّتي، حتى انتابني شعور بالخيلاء، فنعيمة ابنة عمي الرائعة ستكون زوجتي خلال فترة قصيرة من الزمن، وسوف يجمعنا بيت واحد. ما أروع هذا.
في الايام التالية تعرّفت على نعيمة أكثر.. فأكثر، وكنت كلّما تعرّفت عليها أكثر.. أزداد إعجابي بها، وما زلت أتذكّر وهل أنسى تلك النظرات التي تبادلناها في غفلة من المحيطين بنا. كنّا، هي وأنا، نعيش حالة أشبه ما تكون بحلم جميل، وكانت نظراتها الفاتنة تخترق قلبي لتقول لي إنني موجود، وإنه يحقّ لي، أنا المُهجّر ابن المُهجّر، ما يحق لكلّ الناس في العالم من هدوء وسكينة.. بيت وزوجة جميلة ومهذبة أيضًا.
هكذا وجدتُ نفسي أتردّد على بيت عمتي أكثر ممّا أتردّد على بيتنا، وكان يزيد في فرحي رضا عمتي وتشجيعها لي على الاسراع بالارتباط بابنة أخيها، يللا شدّ حالك.. بكرة بتبني أحلى بيت مع نعيمة. أنا متأكدة من انكوا، انت واياها، رايحين تكونوا أعز اثنين وأحن اثنين. بقي الامر يجرى على هذا النحو مدة شهر.. عندها جرى تغيّر في تصرفات نعيمة أخذ يظهر رويدًا رويدًا.. حتى بات السكوت عليه أشبه ما يكون بالخطأ القاتل، وقد لاحظت يومًا إثر يوم.. ولقاءً بعد لقاء لنا، نعيمة وأنا، أن حالة من الحزن ابتدأت بانتيابها، فعزوت ذلك لحنينها إلى بلدتها.. أمها وعائلتها، وحاولت أن أشرح لها موقفي دون حِكم ومواعظ، فأنا قادر على أن أعوّضها عن كلّ ما يمكن أن تخسره بانتقالها إلى بلادنا للارتباط بي. وكنت الاحظ أن نعيمة تتفهّم كلامي فتعود الابتسامة المفارقة إلى وجهها لتزيده رقةً وجمالًا.
قضت نعيمة حوالي شهر آخر إضافي.. بين مدّ وجزر، فهي حينًا فرحة وآخر مغتمة، الأمر الذي دفعني لقضاء الليالي وأنا افكّر فيها وفيما يمكنني أن افعله للتخفيف عنها، ودفعها إلى حظيرة الهدوء والطمأنينة. وأذكر أنني حرصت على تقديم ما اشتهته نفسها ورغبته روحها دون أن احوجها للطلب، فما أن كنت أشعر أنها بحاجة إلى أمر.. مهما كان صغيرًا أو كبيرًا، حتى أسعى لتحقيقه لها، الامر الذي كان يدفع عمّتي لامتداحي أمامها بصورة تبيّن لي مع مضي الوقت أنه مبالغ فيها، الامر الذي جعلني أفكّر في أكثر من اتجاه، فمن ناحية نعيمة.. كنت ألمس أنّ معاناتها تزداد يومًا إثر يوم، دون أن تبوح لي بسببها، ومن ناحية عمّتي.. شرعت في التساؤل عمّا يدفعها لامتداحي أمام نعيمة وكأنما هي تريد أن تقنعها بأمر.. لا تريد الاقتناع به. أدخلني هذا الوضع بطرَفيه، نعيمة وعمّتي، في نوع من الصراع النفسي والتساؤلات المتواصلة، فما الذي يحدث؟ وماذا عليّ أن أفعل للتخلّص من وضع لا يُحسد أحدٌ عليه؟ هكذا ابتدأت أجد نفسي في دوامة.. عليّ الخروج منها.. قبل التورّط فيها أكثر. وكان أول ما فعلته هو أن أضع نعيمة تحت المراقبة طوال الوقت، فما الذي يدفعُها إلى تلك المشاعر غير المريحة؟ وبقيت أشعر بحالة من التخبّط والتوهان إلى أن كان ذات مساء، فرأيت عمّتي توجّه كلمة لوم واضحة إلى نعيمة، الامر الذي أخرجها عن طورها، فدفعها للدخول إلى أقرب غرفة منها، وأوصدت الباب وراءها بقوة. كانت هذه الحركة الواضحة.. القشّة التي قصمت ظهر البعير، فقد فهمت أن هناك ما يجب أن أعرفه، لئلّا أندم في المستقبل. لم أنم تلك الليلة وقضّيت ساعاتها مفتّح العينين مفكرًا فيما عساني أفعله. وقرّ رأيي قبل بزوغ الفجر على أن أتخذ خطوة تمكّنني من وضع نهاية مقبولة لوضع لا أحد يُحسد عليه.
في اليوم التالي اغتنمت فرصة خروج عمّتي لشراء بعض الحاجيات البيتية الضرورية وجلست إلى ابنة عمي:
- نعيمة.
- نعم ابن عمّي.
- هل يمكنك أن تكوني صريحة معي؟
- ما سبب سؤالك؟
- منذ فترة أشعر أنك غير مرتاحة.. في هذا البيت.. هل تضايقك عمّتي؟
همت دمعة من عين نعيمة.. ألقت شعاعًا شحيحًا على ما يدور. وقد تساءلت عمّا إذا كانت نعيمة غير راضية عن الارتباط بي، فاتخذت قرارًا قاسيًا جدًا ضدّ نفسي، قبل أن يكون ضد أيّ من الناس. كان ذلك بعد أن سألت نفسي عمّا إذا كنت أروق لنعيمة كما راقت لي، وكان لا بدّ لي مِن التأكد من هذه النقطة الملتهبة. قلت لها:
- اسمعيني جيدًا.. منذ فترة أشعر أنّ هناك مشكلة بينك وبين عمّتي.. قولي لي.. هل هذا صحيح؟ قولي لي أنا ابن عمك ووجعك يؤلمني، صارحيني وتأكدي أنني سأكون عوانًا لك ولن أكون ضدك مهما كانت مُصارحتك لي. ما إن نطقت بهذه الكلمات حتى شرعت نعيمة في حديث تخلّلته الدموع والتأوهات، فهمت منه أنها تودّ العودة إلى بلدتها.. إلى أمها وإخوتها، وأن عمّتي اقتصّت منها ومنعت عنها الطعام والشراب كي تبقى. لا أنكر أنّ كلمات نعيمة هذه أدخلتني في حالة من التمزّق والضياع، إلا أنني ما لبثت تماسكت، وعدت إلى اتزاني المفقود قلت لها: هذه بسيطة.. أنا من سيذهب إلى عمّتي وأنا مَن سيقول لها إنني لا أريد الارتباط بك، أعتقد أنك بهذه الطريقة تعودين إلى بلدك وأهلك. انفرجت أسارير وجه نعيمة وظهرت عليه علامات الرضا والشكر، وعادت إليها ابتسامتها الساحرة. أما أنا فقد شرعت بتنفيذ ما وعدت به.. وقلبي يتمزّق..
***
قصة: ناجي ظاهر