نصوص أدبية
احمد القاسمي: فِعل أمر مُستغرب
كنت أسافر من وقت لآخر إلى البادية، هروبا من التّعب الذي ينالني من العمل الـمُضني بالمدينة؛ إلى أن يحين وقت للعودة أنا مُلزم به، وكانت تجمعني بابن عمتي هنالك جلسات عائلية حميمية، وكان ألذ لي هو ما يحكي علي؛ مما حدث في تلك البادية الواسعة، التي تمتد أراضيها؛ إلى سفوح، وأودية، وفجاج جبال عالية؛ تضرب بقِممها إلى الأعلى؛ إلى أن يتجمد فيها الماء؛ بانخفاض درجة حرارة الأجواء العليا، فتكسوها ثلوج في فصل الشتاء البارد...
فمِما رواه علي؛ هو ما وقع أيام الاستعمار الفرنسي للبلاد، واحتلال دولة لبلد آخر؛ فيه استضعاف وقهر، واستعراض لقُوة العَدد والعُدّة، التي لا تُقاوم ولا تُقهر، ونشرٌ لفُرق عسكرية مُدججة بالبنادق والقنابل والمدافع، والدبابات المدرّعة، وبناءُ الثكنات العسكرية، فيقوم أفراد من تلك الفُرق المنظمة باجتياح المدن والقرى والدواوير؛ المنتثرة في بِطاح البادية؛ لجهض أي محاولة دفاع عن النفس أو مقاومة، فقد يفعلون بأناس عُزّل أشياء كثيرة، ولا يعترض طريقهم إلى ذلك أي أحد، ولا يَثنيهم عنه أو يردعهم...
فماذا نطق به ابن عمتي على مسامعي؟ وكان قد شاهده بعينيه اللتين لا تُكذِّبانه، وفي لحظات من وقت حكيه كانتا تشعان بحماسة الأبطال، لأنه كان حاضرا، وإنه لَـحَظٌّ لم يُؤت لغيره، وفرصة تسنح له؛ ليُخبر أيَّ أحد بما رآه؛ يلتقي به أو يضُمّه وإياه مكان يحلو فيه سمر الحكي؛ على ضوء قمر الخلاء، وهدوء الليل المطبِق...
حكى فقال؛ وعيناه تدمعان حنينا، بأن الجو في ذلك اليوم كان صحوا، فقد خلت السماء من الغيوم، ومن ضباب قد يُغطي وجهها الصّبوح دائما، فبدت زرقتُها الغير المخفية الغامقة، فأضافت بها جمالا على الدنيا؛ جنبا إلى جنب مع خُضرة النباتات، وإزهار هذه في شهر (يونيو)، ولون بُني تصطبغ به تربة غير مزروعة، وألواح صخرية عرّتها المياه؛ فيما مر من أزمنة سحيقة في القِدم، فانشرحت الصدور بالألوان المختلفة والعديدة، وجرى ماء العيون رقراقا، ومُتلألأ بأشعة الشمس، وصهل حصان هنالك بعيدا، ونبح كلب حراسة، وسُمع ثغاءُ قطيع من الأغنام...
وفي غمرة هذه الطبيعة التي تملأها تغاريد العصافير، وتُصدر أجنحةُ الطيور المحلقة حفيفا، وبرغم كل هذا فهناك صمت البادية وسكونها الغالبان، كان يرعى ابن عمتي قطيعا من الشياه؛ غير بعيد عن جانب الطريق الـمُعبّد، الذي يربط بين المدينة وسوق أُسبوعي؛ نادرا ما تمر منه سيارة أو شاحنة أو دراجة نارية؛ في غير يوم السوق، وتسير فيه عربة واحدة أو عربتين؛ يجرها واحد، أو زوج من الخيل، أو الـحُمر، أو البغال؛ تُنقل بها أكوام تبن الحصاد، أو حُزم سنابل محصودة إلى مكان الدّرس، أو صناديق خشبية أو سلال مجدولة بالدوم؛ تحتوي على ما تُثمره الحقول المسقية؛ من خضروات وبُقول، وغير بعيد عنه؛ في الجهة المقابلة له؛ ما بعد عرض الطريق؛ راع آخر لا يتوقف عن التلويح بعصاه؛ في اتجاه خرفان ابتعدت واقتربت من جانب طريق أَسْفلت خشن، وعن التصفير بلسانه؛ مُنبِّها إياها، وكابحا جماحها واندفاعها بشراهة؛ إلى سيقان السنابل الممتدة والحلوة المذاق.
ويمضي كل واحد منهما كأنهما يتنافسان في إطلاق العنان لـمُجترّاتهِما؛ كل في حِماه، ويصل ابن عمتي في روايته إلى ما تفاجأ به وقتها، وقد طرق سمعه أصوات مُقعّرة وحادة؛ تصدر من محرك مركبات ميكانيكية، فالتفت فرأى سيارة من نوع (جيب، JEEB)؛ يجلس بانتباه إلى مقود عجلاتها عَسْكري، وإلى جانبه عسكري آخر، وكلاهما يُثبّتان قُبعتيهما الخضراوان بعناية وبحزم، تتبعهما شاحنة غير مَغطاة، يركب في جزئها الخلفي جنود يجلسون إلى حد ما بانضباط؛ كانوا يمرحون، وترتفع حناجرهم بالصياح، وترديد نشيد وطني عسكري، ومرت بهما المركبتان بهؤلاء العسكريين؛ ذوات محركات الوقود، واستمرتا في الطريق، ولم يُمِل ابن عمتي - كما قال- بوجهه عنهم، فقد ظل يتتبّعهم مُتسائلا عن المدينة أو القرية التي تؤدي بهما الطريق، وفُوجئ مرة أخرى، ودب إلى نفسه بعض الخوف، وقد شاهد سيارة (الجيب) تقف، وتُفرْمَل خلفها الشاحنة، ويدور السائق بالسيارة، فتبدو مُقدمة هذه تدنو راجعة، ويقترب صوت محركها فيُثير التوجس والوحشة في باطني الراعيين، وينظران إلى بعضهما البعض بعجب، وإلى السيارة العسكرية المرهِبة، فكان سؤال واحد يسيطر عليهما وهو: ماذا يريد هؤلاء العسكر منهما؟ أسيُسألان عما لا يعرفونه، أهو المكان الذي ينتهي به الطريق؛ هل سيخطِفون أحدا منهما؛ ليتخذوه خادما مُستسلما لقدره في ثكنتهم العسكرية؟ وسمعت الأغنام دنو السيارة، فالتحمت واضطربت، وضلت عن الاتجاه الذي ستهرب إليه، وحاول الراعي تهدئتها، وإرجاع الطُّمأنينة إليها.
ترجّل القائد، والـمُميّز في قَوامه، وفي قُبعته وبنياشِينِه، وسار قاطعا أجمات لنباتات يابسة قصيرة؛ إلى أن اقترب من الراعي، وتحدث إليه، وابن عمتي كما أكد كان يتابع ما يجري بقلق، ولم يطُل كلام القائد مع الراعي، وخطا راجعا ونادى على أربعة من الجنود، فنزل هؤلاء من الشاحنة باستجابة خُضوع وسريعة، فتلقوا أمرا من قائدهم العريض الجسم والفارع الطول، والراعي يأتي بحركات من يديه مُتضرّعا ومُستعطفا، وجرى يحاول أن يحول بين الجنود وخرفان من قطيعه، فدفعه أحدهم حتى سقط على الأرض، ولم يستسلم هو، فقام وحاول أن يضرب المتعدّي عليه بعصاه الغير الـمُقلّمة اللّحاء والناتئة الفروع، فأخذها الجندي من يده بعَنوة وبقوة، وكسرها إلى نصفين؛ بالضغط عليها على ركبته الصلبة ورماها، وعاد مرة أخرى وأبعد الراعي؛ مُهدّدا إياه بتوجيه قبضة يده المعقودة الأصابع القوية؛ إلى وجهه الممتص الوجنتين، والمحترق بأشعة شمس البادية، فخلت الأرض، ومُهّدت للأربعة المندفعين بعمى مرضي، وقبض كل اثنان منهم على كبشين أقرنين سمينين، وجروهما، والتراب ينتثر ويرتفع بالأظلاف العصية والصعبة الانقياد، ثم حملوهما في الشاحنة، وكان القائد قد أخذ مكانه على كرسي السيارة المتأهبة، وأشار بيده القابضة بالعصا المصقولة، والملمعة والمطعمة بالمعدن، وبتيْه؛ بالتحرك؛ مرفوع الرأس، فما يُنجِزه من أعمال؛ هو مستمد من نظام عسكري متماسك وصارم، ولم تكد الكتيبة تترك المكان، وتبتعد سيارة القائد والشاحنة؛ حتى شوهد فتية ونسوة يعدون حُفاة؛ في اتجاه الراعي المسلوب الخروفين والضعيف، وقد حركتهم دماء الانتماء إلى القبيلة، واستعرت فيهم عاطفة القرابة، وتحمسوا للذود والمناصرة؛ حاملين الـمَدارَى، والـمُديات، والمناجل، والهراوات، والعصي، والحجارة، ووقفوا يتوعدون أولئك الجنود وقائدهم، وقد اختفوا في إحدى مُنعطفات الطريق.
تصوّر ابن عمتي آنذاك -كما نطق بذلك- كيف سينحرون أولئك الـمُرتدِين للزيّ العسكري، الـمُحاكة خيوطه بإحكام خاص الخروفين؛ طعنا في نحريهما بالسكّين، وكيف سيشوون لحمه على جمر ملتهب بالنار، وسترتفع رائحة الشواء في أرجاء الثكنة العسكرية، وسيمزِجون قِطع اللحم الناضجة باللهيب والساخنة؛ بجُرعات من مشروب النبيذ الأحمر، وجِعة مُسكرة مُقطّرة، من حبوب نباتية، وبقُبلات يطبعونها عل وجنات وأعناق وصدور نساء؛ يحترفن مصاحبة الحاملين للبنادق، والمحافظين على دم وجه بلادهم، التي لا ينبغي أن تتقهقر عن ساحة منافسة قريناتها من الدول الأخرى؛ والمستميتة في الاستيلاء على المزيد من مساحات الأرض الجغرافية.
وقد انتهى ابن عمتي من حكايته مُتأسّفا، وغُصّة الاحساس بالاستضعاف التي ظلت في حُلوق القرويين، ما تزال في حلقه هو أيضا، لأنه فرد من دمهم، واستغربوا بعض الشيء لفعل أولئك العسكر، لأنهم لم يعهدوه، لا هم الأحياء ولا أجدادهم الأموات.
***
احمد القاسمي