نصوص أدبية
ناجي ظاهر: زائرة ثقيلة
سحبني من نومي في آخر الليل طرق على باب شقتي الصغيرة. فتحت عيني ثم أغمضتهما، لعلّ الطارق يخجل على نفسه ويدعني اواصل نومي الجميل في تلك الليلة الليلاء، ألا أن الطرق ما لبث أن تواصل. عندما أيقنت أن الطارق معنّد ولن يفك عني.. فكّرت في أن أفتح الباب له. إلا أن سلطان الكرى ما لبث أن الحّ عليّ غامزًا بعينه.. نم يا رجل.. نم آلان.. والصباح رباح. تواصل الطرق دب فيّ نوعٌ من القلق، هل حصل شيء للأحباء وجاء مَن ينذرني؟ هل خشي علي مُحب أن أقضي في شقتي الوحيدة ولاحقه كابوس رأى فيه أنني أموت ويتحلّل جسدي في شقتي الوحيدة دون أن يعلم بي أحد؟.. هذه الاسئلة دفعتني إلى نوع من اليقظة.. فتحت عينيّ وسط تواصل الطرق، وكان لا بد هذه المرة من المواجهة فإما.. وإما.. توجّهت نحو باب شقتي. دون أن أفتح الباب سالت مَن الطارق؟ فأجابني صوت أنثوي.. افتح الباب.. اعتقدت أنها إحدى الجارات.. أو إحدى الصديقات جاءت تطلب المساعدة في أمر ضروري لا يحتمل التأجيل، فبادرت إلى فتح الباب. رفعت نظري في صاحبة ذلك الصوت لأتفاجأ بأنثى أشبه ما تكون بالملكة، بل هي ملكة تضع على رأسها التاج وتتراقص قُبالتي:
-مَن أنت سألتها؟ فردّت: أنا السيدة كورونا.. ألا ترى علامتي المميزة على رأسي؟.
ما أن سمعت كلماتها هذه حتى بادرت إلى اغلاق الباب، غير أنها دفعته ودخلت غصبًا عنّي، تراجعت إلى الوراء وأنا أشعر أن بدايتي انتهت، وأن كلّ أحلامي في كتابة القصص وإقناع العالم كله بأن تشيخوف آخر ظهر في الناصرة.. ذهبت أدراج الوهم.
جلست السيدة كورونا على مقعد قبالتي، وغمزت لي بعينها سائلة:
-ممَ أنت خائف؟ ما أنا إلا زائرة.. قد أمكث عددًا من الايام معك هنا في شقتك الدافئة.. بعدها قد أرحل.. وتختفي آثاري إلى لا رجعة.
-ماذا تريدين منّي أيتها السيدة.. قلت وأضفت مرسلًا نحوها نظرة توسّل: ألا يمكن أن تكوني اخطأت الطريق؟ ودخلت شقتي بطريق الصدفة؟
عندها أخرجت دفترًا من تاجها وتمتمت قارئة فيه.. ورفعت رأسها غارسة عينيها في عيني الوجلتين الخائفتين:
-ألست ناجي ظاهر.. الكاتب المعروف؟
التقطت كلمة المعروف من فمها وأهملت اسمي في محاولة مني للنجاة بجلدي. قلت لها:
-إما انني ناجي ظاهر فهذا صحيح.. وإما أنني أنا الكاتب المعروف.. فإنني لا أعتقد.. أنا أشعر بأن حضوري وغيابي لا يعنيان أحدًا.
ضحكت السيدة الجالسة قُبالتي:
-لنتفق أولًا.. ألست ناجي ظاهر؟
هززت رأسي موحيًا إليها أنني أنا ناجي ظاهر بلحمه وشحمه. ضحكت الزائرة:
-إذا وافقتني على أنك المقصود من طلعتي هذه الليلة الشتوية الباردة. بإمكانك أن تترك لي أمر انك كاتب معروف أو غير معروف. فأنا مَن يقرّر هذا الامر وليس أنت.. يا كاتبنا الجميل.
ما إن سمعت كلماتها هذه حتى انتابني شعور بالنهاية.. غلى الدم في عروقي.. شعرت برعدة تزلزل أركاني.. توجّهت إليها:
-والآن ماذا ستفعلين بي أيتها الملكة المبجّلة؟
افترّ ثغر السيدة الزائرة عن ابتسامة حفلت بكمّ هائل من السخرية. نهضت من مكانها وسط تجمّد أطرافي خوفًا منها. دنت مني. ربّتت على كتفي:
-لا تخف. كل ما أرجوه حاليًا هو أن يتسع سريرُك الضيّق لاثنين، أنت وأنا، سأمكث هنا في زيارتك، فإما أن آخذك معي بعد فترة من الزمن وإما أتركك تواصل كتابة القصص.. وأمضي في طريقي عائدة من حيث أتيت. وباحثة عن صيد أسمن منك.
-لماذا لا تتركيني الآن وتذهبي في حال سبيلك؟ لماذا لا تختصرين عليّ أحمالًا تنوء بحملها الجبال من الهموم؟ هتفت بها، فابتسمت مرة اخرى:
-تروَّ يا صديقي.. تروَّ قليلًا لا تكن متسرّعًا عجولًا.. سأمكث معك هنا في هذه الشقة الوحيدة المشوّشة.. سأقوم باصطحابك فترة من الزمن.. فإذا أنست إلى صحبتي أخذتك معي وأرحتك من هذه الهموم التي تعيشها ليلًا نهارًا، أما إذا عرفت كيف تتعامل معي.. فقد أدعك لمواصلة أحلامك الفارغة.
قالت هذه الكلمات دون أن تترك لي مجالًا للردّ عليها.. طلبت مني أن أسترخي على سريري.. وعندما فعلت مدّت يدها إلى جانبي موحية لي أنه لا مفرّ أمامي من إفساح المجال لها لأن تنام بقربي وإلى جانبي. استلقت إلى جانبي.. وأغمضت عينيها فأغمضت عينيّ.. بعد قليل فتحت عيني لعلّي أكتشف أن كلّ ما حدث حتى تلك اللحظة ما هو إلا اضغاث أوهام، إلا أنني فوجئت بها تتحرّك إلى جانبي وتفتح عينيها.. عندها أيقنت أنني أعيش لحظات قد تكون الاصعب في حياتي الصعبة أساسًا.. فزائرتي.. تلتصق بي كلّما مرّت لحظة أكثر فأكثر.. ورغم محاولاتي الهرب منها كانت تفلح في كل مرة في الالتصاق بي.. الغريب المريب أنها كانت تفلح في كل اقتراب لها.. في حين أنني كنت أفشل في المقابل..
عند هذا الحدّ شعرت بالنعاس يهاجمني من كلّ جهة وناحية، وكان لا بدّ لي من النوم. فنمت..
كانت تلك من أصعب الليالي في حياتي..
فتحت عيني بعد ثلاثة أيام من النوم والمعاناة.. لأجد نفسي أطلق السعلة تلو الاخرى.. وليأتيني صدى سعلتها إلى جانبي مماثلًا لسعلتي.. في كل شيء.. لقد باتت السعلة واحدة.. والتنفسة الضيقة واحدة.. موحّدة.. هل انتهى كل شيء. لا أعرف.. لأنتظر.. ماذا سيحدث ولأكن يقظًا كعادتي.. فأنا اؤمن أنه لا يُطلب منّا أحيانا في لحظات القسوة خاصة.. إلا أن نمرّر الوقت.. لأمرّر الوقت إذن ولأنتظر لحظة الفرج.. لأتخلّص من زائرتي .. ضيفتي الثقيلة.
في الليلة التالية في الهزيع الاخير منها.. سمعت طرقًا خفيفًا على باب شقتي. شعور غامر بالأمل والتساؤل حملني لأن أتوجّه إلى الباب. رفعت رأسي رفعت السيدة الزائرة رأسها. مشيت نحو الباب فمشت إلى جانبي. ألا يمكنك أن تتركيني أيتها الثقيلة ولو لحظة واحدة؟ الغريب أنها هزّت رأسها علامة الرفض.. لا لن أتركك.. إلا عندما تنجح في الامتحان فإما تكرم بالحياة وإما تهان بالموت.. طيب سنرى أيتها الزائرة. سنرى.. على كلّ لنرى مَن يطرق بابي الأن.. سمعت طرقة أخرى على الباب.. فعرفت مَن الطارق.. أنا أعرفها.. أعرفها من طرقتها اللطيفة.. خمسون عامًا مضت علي وأنا أستمع إلى طرقتها.. إذن هي القادمة.. هي .. هي.. هي.. قصتي الرائعة الجميلة.. مددت يدي إلى اكرة الباب وكلّي أمل أنها هي.. وأتاني صوت زائرتي أشبه ما يكون بفحيح أفعى توشك أن تختنق:
-لا تفتح الباب لها.. شقتك الصغيرة المشوشة لا تتسع لاثنتين. أذا كانت القادمة أنثى سيكون علي أن أذهب.. لا تفتح الباب.
شعور بالقوة والامل يجتاح أطرافي.. هل أتى الفرج بتمرير الوقت؟ ما أذكاك يا ناجي ظاهر.. عرفت كيف تدير المعركة أخيرًا.. قصتك ستخلّصك من ضيفتك الثقيلة.. ما أحلى هذا.. آه ما أحلاه.. ومددت يدي بسرعة غريق طرق بابه أمل الخلاص.. مددتها إلى اكرة الباب،، وفتحته بكل ما لدي من قوة وحلم.. لتدخل تلك.. ولتخرج هذه.. الزائرة الثقيلة.. بل اللعينة..
***
قصة ناجي ظاهر