شهادات ومذكرات

بدر الفيومي: عصمت نصّار مفكرٌ مسكونٌ بأوجاع الوطن

إذا كان عصمت نصار مفكر مسكون بأوجاع الوطن فهو في الوقت نفسه مشغول ببعث الأمل. وحين يُذكر المثال في الإرادة والهمّة، يقف اسم الأستاذ الدكتور عصمت نصّار شاهدًا حيًا على أن العزيمة إذا سكنت روح العالم، تجاوزت كل العوائق والظروف، لتمنحه قدرة مضاعفة على العطاء والتأثير؛ فإنتاجه الفكري شاهد على أن الأنوار الحقيقية إنما تُستمد من عمق الوعي وصفاء القلب، وأن العلم إذا اقترن بالإخلاص تحوّل إلى رسالة تتجاوز حدود الزمان والمكان.

وإذا أشرقت أسماء المجددين في الفكر العربي المعاصر؛ فإن اسم الدكتور عصمت نصّار يبرز بفرادة واتساق، لا بوصفه باحثًا موسوعيًا متبحرًا في تراث الفلسفة الإسلامية والفكر العربي الحديث والمعاصر فحسب، بل لأنه جسّد صورة العالم الذي يحمل في ضميره هموم وطنه وقضايا أمته، ويصوغها في خطاب فكري متوازن يجمع بين الدقة الأكاديمية وحرارة الانتماء الإنساني.

وقد وصفه محبوه وتلامذته بأنه مفكر مسكون بأوجاع الوطن، يرى في الفلسفة سبيلًا للنهوض، وفي النقد طريقًا للتجديد.

لقد رأى جراح الأمة وآلامها، واستشرف أزماتها الفكريّة، وأدرك أن مهمته ليست في الرصد والوصف وحدهما، بل في تقديم الرؤية التي تسهم في فتح آفاق جديدة للتفكير والتجديد.

ولعل هذا الوعي هو الذي جعله أكثر قدرة على الغوص في أعماق المشكلات، وأصدق في التعبير عن لُبّ الأزمة الحضاريّة التي نحياها.

وليس من المبالغة أن أقول إنني عشت تجربة معرفية مختلفة مع هذا المفكر الكبير؛ فهو أستاذي الذي استندت إلى رؤيته في أطروحتي للدكتوراه، وكان لي شرف مناقشته دراستي، حيث تركت بصمته العلمية والفكرية واضحة على مساري البحثي والفلسفي. ووجدت في قراءته للتاريخ والفكر الإسلامي المعاصر ما يضيء طريقي، ويمنحني منهجًا راسخًا في النظر، وأفقًا مفتوحًا في التحليل.

لم يكن  الدكتور عصمت نصار مجرد باحث يُضاف إلى سجل الفلسفة العربية، بل كان وما زال رمزًا لفكر يقاوم الجمود، وعقل يواجه التطرّف، ولسان يذبّ عن الفكرة العربية والإسلامية نقاءها من شوائب الأيديولوجيا وانحرافات الغلو. 

لذا كان أثره ممتدًا في محبيه وقرّائه وتلامذته، الذين وجدوا فيه صورة الأستاذ المعلّم والمفكر الهادي، وصوت الوطن الذي لا يخبو صداه.

ولعل خير ما يشهد على هذا الأثر ما تركه من مؤلفات نوعيّة، حملت همّ التجديد ومقارعة الانغلاق، مثل كتابه «الفكر الديني بين تجديد الخطاب وإشكالات التجديد» حيث سعى إلى تحرير العلاقة بين الدين والفكر من قيود الأيديولوجيا، وكتابه «إشكالية العقل والوعي في الفلسفة العربية المعاصرة» الذي قدّم فيه رؤية نقدية متفردة لآفاق النهضة الفكريّة، فضلًا عن «التطرف والإرهاب : قراءة في الجذور الفكريّة» الذي كشف فيه بعمق الخلفيات النظريّة لظواهر الغلو والعنف، مبرزًا سبل معالجتها بروح وسطية متوازنة.

وإلى جانب ذلك، جاءت كتبه في الفلسفة الإسلامية لتعيد قراءة التراث قراءة متجددة، تتجاوز الاستنساخ إلى الإبداع والتحليل النقدي.

إنّ الكتابة عن الدكتور عصمت نصّار ليست مجرد احتفاء بعالم جليل أو وفاء لأستاذ قدير، وإنما هي أيضًا محاولة لرد الجميل لعقلٍ كبير، اختار أن يحمل هموم أمته بقلمه ولسانه، وأن يجعل من علمه منارة لأجيال من الباحثين. إنه المثال الصادق على أن الفكر الحق لا ينفصل عن الحياة، وأن الفيلسوف الأصيل هو الذي يظل شاهدًا على أوجاع وطنه، ومبشرًا في الوقت نفسه بإمكانية النهوض والشفاء.

لقد أصبح الدكتور عصمت نصّار بما قدّمه من فكرٍ أصيل وإسهامٍ عميق أحد أبرز رموز الفلسفة والفكر في العالم العربي والإسلامي، حيث لم يكتفِ بالتنقيب في التراث، ولا بالتجديد الأكاديمي البارد، بل جمع بين حرارة الانتماء وصرامة البحث، فصار مرجعًا للمفكرين والباحثين، وصوتًا عاقلًا في مواجهة تيارات الغلو والجمود.

تجاوز أثره حدود وطنه، ليحتل مكانة رفيعة في المشهد الثقافي العربي والإسلامي، بما بثّه من قيمٍ راسخة، ورؤى مستنيرة، ورسالةٍ إصلاحية حملت في طياتها همّ الأمة وآمالها. وهكذا يظل اسمه شاهدًا على أن الفكر حين يتجذر في الصدق والإخلاص، يغدو ضوءًا لا ينطفئ في حاضر الأمة ومستقبلها.

***

بقلم: د. بدر الفيومي

 

في المثقف اليوم