شهادات ومذكرات
جمال العتابي: الـطبيب حيدر علي.. يد تشفي وأخرى تبتكر الجمال

ما يسجله تاريخ المدنية في العراق، والثقافة والفن والعمارة على وجه الخصوص من مآثر انها كانت تتلمس الطريق نحو الحداثة والتجديد، وتبحث في مطلع الخمسينات عن آفاق جديدة للحياة، على يد نخبة من المثقفين والفنانين والمعماريين، ثمة نبرة مضيئة بدأت تنمو وتنتشر، كانت المقدمات لتيار او حركة تأصل في قادم الأيام، نشير بهذا الصدد إلى خالد القصاب وقتيبة الشيخ نوري، ومهدي مرتضى ومصطفى نصرت. سانحة أمين زكي، كمال السامرائي، ثم علاء بشير.
في متدارك هذا الإيقاع، ثمة أطباء آخرون من جيل آخر، لكنه امتداد للأول يشيدون نماذجهم بقدر كبير من الموهبة وأنساق جديدة. ومع أن النظرة العابرة لا يمكن أن تستقصي كل أبعاد تجاربهم، ولا تستطيع أن تقع على حرارة الإخلاص التي تشعّ منها، إلا أنها تستطيع أن تؤكد حقيقة هي أن هؤلاء لا يبتعدوا عن نوازعهم الإنسانية والجمالية. حيدر علي استشاري أمراض عصبية عراقي، أحد رموز الجيل الجديد، ناجح في مهنته واختصاصه، هناك أكثر من دليل: دوره الأكاديمي والعلمي المتميز، تمكنه من كسب ثقة مرضاه، موثوق في تشخيصاته وأحكامه، عيادته لا تفرغ من المراجعين، لا لأنهم كثر وحسب، بل لأنهم يعرفون أنهم يقصدون طبيباً من كينونة خاصة. في حوار ممتع وجميل، أبدأ معه بالسؤال:
لماذا لم تكن رياضياً يا صديقي؟
ـ ولماذا هذا السؤال من جنابك؟ يجيبني على الفور.
ـ لأنك تمتلك طولاً فارعاً، وجسداً رشيقاً ومرناً، هذه المواصفات كانت تؤهلك أن تكون لاعب سلة أو طائرة من الطراز الأول، أو أحد أبطال ألعاب القوى. وما دمت تمتلك العديد من المواهب، فما المانع أن تكون نجماً رياضياً؟ يضحك حيدر بابتسامة عريضة، ثم يعقب بالقول:
ـ نعم كان ممكناً أن يحصل ذلك لو كان معلم الرياضة في مدرستنا ذكياً يبحث بعناية عن مواهب طلابه. لا تنس يا صديقي ان عمر البطولات في هذا الميدان قصير، والنجومية تبدأ بالخفوت بعد الأربعين. الشيء الذي أتأسف عليه انني لم أتعلم العزف على آلة موسيقية، حاولت، ولم أستمر. وجدت بديلاً افضل في متابعتي للموسيقى العالمية واستمتاعي بسمفونيات عباقرة الموسيقى الكلاسيكية
ـ لك كل الحق، أتفهم تبريراتك!
ما أن تخطو عتبة منزله العامر حتى تدرك أنك لا تزور طبيب أعصاب، بل تدخل عالماً من الدهشة والجمال، كنا نتحاور، نضع الخطوط العريضة لمحاضرة يقدمها عبر منصة "حوار التنوير" عن علاقة الابداع بوظائف الدماغ. كنت قد شاركته إدارة المحاضرة. تساءلت وأنا أراقب انعكاس الضوء على زجاج واجهة المنزل:
ـ من صمم هذا البيت؟
أجابني بابتسامة هادئة، وعينين تتفحصان ملامح وجهي تقرأ ما فيه من أسئلة قبل أن أنطقها.
ـ أنا كنت أرسم مخططه في ليال طويلة، انظر لهذا الدرج من مكتبتي، انه يضم عشرات الكتب في الهندسة المعمارية، راجعت أغلبها، وكانت هذه النتيجة كما ترى. ثم يتابع الحديث: لا شيء يداوي الإرهاق مثل خطوط هندسية متوازية. هذا التدخل من (جنابي) في التصميم كان يزعج المهندسة المشرفة انعام البزاز بالطبع، وكثيراً ما تعلن عن رغبتها في ترك العمل، حين تجد من يقف إلى جانبها في البيت ويؤيدها، وهي زوجتي "رشا" الطبيبة في اختصاص آخر، حين تختصر الحوارات بعبارة واحدة مكثفة لتخاطبني: (أنت هوايه تتفلسف)! السيدة البزاز استاذة متخصصة في الهندسة المعمارية في جامعة بغداد، اتصلت بها فعلاً وحكت لي اشياء كثيرة عن التصميم، وعن إعجابها بالأفق الواسع لعقل حيدر.
تساءلت مع نفسي، هذا الطبيب، أيعقل أن يكون ذاته من يعالج الدماغ، ويبحث في اضطراباته؟ ولديه مشاركات واسعة في المؤتمرات العلمية، وبحوث ودراسات علمية في اختصاصه منشورة في المجلات العالمية، فضلاً عن دوره الأكاديمي، واشرافه على طلبة الدراسات العليا في المجال ذاته. قبل لحظات أدرك حيرتي وهو يراقب حركة رأسي وعيوني التي كانت تبحث عن سر، عاجلني بالقول: كل شيء موزون في الطب، أما في الفن فهناك فسحة للدهشة والخيال، أنا أحتاج كليهما.
كنت أنصت إليه بانشداد حين كان يتحدث عن وجهه الآخر الذي يحمل ملامح ذلك الزمن الذي كان فيه الطبيب فيلسوفاً، والمفكر مهندساً، والمثقف قارئاً للتراث. جلس يحدثني عن الجاحظ وكأنه التقاه بالأمس، وعن أبي حيان، وعن المتنبي كما لو كانا يتبادلان الشعر في مقهى عباسي. يتحدث بلغة سليمة، لا يخطأ في قواعدها، كان للأب مدرس اللغة في ثانويات العراق، دور في تمكن ولده من اللغة. وحين يسافر حيدر، تسافر معه الروايات، لا تفارقه الكتب حتى في المطارات والمقاهي، يتخذ من المطولات السردية زاداً لمسافات السفر الطويلة، لا يقرأ الأدب العالمي كهاوٍ، بل كمن يبحث عن إشارات الحياة لدى الشعوب الأخرى، في روايات الكتّاب الروس، وكتاب أمريكا اللاتينية، تلك الإشارات التي لا تقاس بالنبض، بل بالدهشة التي تشبه لمسة طبيب على عصب متهيج. قرأ الأدب العراقي والرواية فيه، قراءة رصينة ومتأنية، يتابع آخر ما يصدر من روايات لكتاب عراقيين، يفكك شفراتها ويحل رموزها بأدوات الناقد المتمرس. أذكر أني وجهت له دعوة لحضور جلسة احتفاء بروايتي (منازل العطراني) في قاعة اتحاد الادباء، حضوره كان مفاجأة لي حقاً، لم اتوقعها في زحمة التزاماته. في نهاية الجلسة، شكرته بالطبع، ثم قال: كنت قرأت نصف الرواية، وعزمت على الحضور، فقررت إكمال قراءتها منذ الساعة السادسة صباحاً هذا اليوم، انا لست مع حضور لا يحمل معنى. كان حيدر يحدثني عن دافنشي وكأنه زميل له في الكلية، وعن رسامين عالميين من عصر النهضة، يتحدث عن أعمالهم بلغة العارف المتخصص، وعن مدارس الفن وأساليب الفنانين في الرسم. أبو زيد عاشق للجمال، زائر محترف لمتاحف العالم، يقضي معظم ساعات زياراته فيها، أولاده يصيحون (الداد) من تبديد الوقت والمبالغة في التجوال في أروقة المتاحف، فيتركهم لحالهم! لا يفلت من ذاكرته اسم فنان، ولا تسقط من دفتره سيرة لوحة، يعرف تاريخ حركة الفن التشكيلي العالمي كما يعرف مسارات عروق الجهاز العصبي، وتلافيف الدماغ، له عين قنّاص تلتقط الجمال في أدق التفاصيل: في اللون، والحركة، والفضاء. وتناغم الظل والضوء، يقتني الاعمال الفنية، لا كوسيلة لتزيين الجدران، بل ليقيم حواراً معها، عشرات من اللوحات لرسامين عراقيين ينتمون لمدراس فنية مختلفة، يتحدث عنها كناقد تشكيلي من الطراز الأول. جدران المنزل ميدان فسيح للإبداع والجمال، فيها ما يثير دهشة العارف ويطيل وقفة المتأمل أمام التكوينات المدهشة. فلكل واحدة منها قصة وتروي حكاية. كان يمكن أن يكتفي حيدر علي بمهنته واختصاصه المعقّد محاطاً بأدعية مرضاه وابتهالاتهم، لكنه اختار أن يكون ثرياً بمعرفته على خطى الأطباء: تشيخوف، ميخائيل نعيمة، أن يقيم علاقة مع ابن رشد وسيجموند فرويد، والحلّاج، يتبادل الحوار مع ماتيس وهنري مور، ويضع لمسة في كل ما يصنع. الطريف في حياة الطبيب حيدر انه يمارس اختصاصه محاطاً يومياُ بعشرات المرضى المتوترين، الذين يعانون من انهيارات عصبية، يستقبل قلق ومخاوف وتوترات المدينة كلها، كأنه راهب في معبد بوذي في أقصى حالات الهدوء.
ـ كيف تفعل ذلك يا أبا زيد؟ سألته مرة، لم يغير نبرة صوته، وقال وهو يشير إلى رأسه: عندما ترى القلق كل يوم تحت المجهر، يصبح صغيراً جداً.
تلك الحكمة تعلمتها منه، انه يتعامل مع العصب، أصل الانفعال، ويخرج منه غير منفعل، هادئاً، مطمئناً، كمن يأكل الفلفل الحار من دون أن تسيل دموعه. قد يشعر مريضه أن رأسه على وشك الانفجار، بينما هو يتناول رشفة قهوة بهدوء، ويقول:
التوتر طبيعي...فقط لا تدعه يقود السيارة!
حيدر علي، تجسيد لشخصية نادرة، اختار أن يكون حارساً للدماغ والخلايا العصبية في جسم الإنسان. يمارس اختصاصه بيد خبيرة، يعالج مرضاه بروحه المفعمة بالجمال، هو أحد أولئك القلّة الذين لا يغويهم المال والشهرة، يمضي نحو النواميس الأزلية في الحياة كي يستمر دفق الزمن نحو المستقبل، انه كمن يكشف العلّة، ويصف الدواء، ويطمئن المريض بأنه سيحيا حياة رغيدة، لتلوح على شفتيه ابتسامة الرضا. هو تجربة تشعّ فضيلة وأملاً ليس بوسع المرء ان يتجاهل دورها الإنساني والجمالي، حياته حافلة بمعاني السخاء، خصبة، غنية، صدق في العواطف، فضاء مفتوح الى النور والقيم النبيلة
***
د. جمال العتابي