شهادات ومذكرات

سعاد الراعي: ابن العمة سلام عادل.. الأسطورة المتخفية التي مشت على حافة المستحيل

أحتفظ في ذاكرتي، كما لو كانت صندوقًا سريًّا قديمًا، بمجموعة من الحكايات التي تسكنها القداسة. كانت تُروى لي ولإخوتي بصوتٍ مشحونٍ بالفخر، يتردد على لسان والديّ، عن ابن عمّتيهما حسين، الرجل الذي لم يكن شخصًا عابرًا في الحياة، بل ملحمة نضال تمشي على قدمين… حسين أحمد الموسوي، المعروف بين رفاقه باسمٍ خلّده التاريخ: سلام عادل*.

لم يكن سلام عادل بطلاً بمقاييس العاديين، بل تجسيدًا لحكمة الشجاعة ومكر الذكاء في آن. رجل يتقن فنّ التخفي كما يتقنه الضباب حين يلامس عيون الناظرين، ثم يتوارى كأن لم يكن. كان سيد الأقنعة، يُبدّل ملامحه ببراعة ساحرٍ من وقت لآخر، فلا تعرفه عين، ولا تلتقطه ذاكرة. هو الشخص الذي يظهر في كل مرة بهيئة جديدة: راعٍ بسيط، بدويّ حافٍ، شيخ أحدب، متسول أبكم، أو حتى أعرج مبتلى… وكان لكل هيئةٍ اسمٌ سريٌّ تتداوله الأسرة خفية، وكان "المعيدي" أكثر الأسماء شيوعًا حين يُبشّرون والدته بقدومه وخاصة حين لا تكون في البيت او عند الجيران.

أتذكر كيف كانت والدتي وهي تسرد لنا ذكرياتها، باعتزاز يعتصره الحنين، أن حسين طرق بابهم ذات مساء، في، هيئة متسوّل أنهكه الجوع وأذلّه العطش، بثياب بالية ونظرات تائهة لا يكاد يُعرف لها ملامح. رقّ له قلبهم، فأطعموه ما تيسّر من زاد، وسقوه من ماء الكرامة ما يُذهب الظمأ ويُنعش القلب، دون أن يدروا أنهم أمام فلذة كبدهم. وحين امتلأ جوفه وشكرهم بصوت خفيض، بدأ ينزع أردية التخفي، قطعةً تلو الأخرى، وإذا بالدهشة تنفجر في المكان كبرقٍ مباغت... لقد كان هو، حسينهم.

تواصل والدتي ذكرياتها عن ابن العمة، وهي التي كانت ابنة العاشرة آنذاك، كيف كانت بتكليفٍ وارشاد منه تمرّ بين حشود رجال الأمن، تخفي الرسائل في أرغفة الخبز، أو تخبئ المناشير تحت عباءتها السوداء ماضية بخطى الطفولة الجريئة وبراءتها حاجبة عن أعين الرقباء مهمتها لتنفيذ وإيصال ما كلفت به، ولتعود بعدها باسمة العينين.. وهي ترى ابتسامة ابن عمتها الرضية والمشجعة، وهي لم تكن تدري يومها أن خطواتها الصغيرة تلك، كانت تسهم في بناء حلمٍ كبير.

أما والدي، فكان يستعيد، بابتسامةٍ ممزوجة بالحنين، كيف كلّفه حسين بمهامٍ بسيطة لا تثير الشبهات. كان يروي لنا، بفخر، حادثة وقعت في أحد أيام الصيف الملتهبة في سوق السراي بالنجف الأشرف. لم يكن عليه سوى أن يصرخ بجملة واحدة: "يسقط الاستعمار"، ثم يدخل محل عمله بهدوء. لم تكن الجملة عادية، بل كانت شيفرة الانفجار. وما إن نطق بها، حتى امتلأ السوق والطرقات من حوله بأكبر تظاهرة شهدتها المدينة.

ان أكثر ما خلّده ابن عمتهما حسين/ سلام عادل في ذاكرتهما، تلك الحادثة التي لا تنسى والتي حُفرت في ذاكرتي إلى الأبد.. تلك الحادثة في زقاق ضيّق لا منفذ له، حين اجتمع سلام عادل برفاقه لأمر حزبيّ عاجل، فحاصرهم رجال الأمن بعد وشاية مؤكدة بمكانهم. لم يكن ثمّة مخرج، لكن عبقريّ التخفي لم يَخذله حدسه. خلع ملابسه، عفرها بتراب البيت وأوساخه، ثم ارتداها مجددًا كمن خرج من قاع البؤس، يترنح كمتسول اخرق. تقدّم نحو رجال الأمن، يمدّ يده المرتجفة طلبًا للصدقة، لينهره أحدهم قائلاً: "ابتعد من هنا أيها المجنون!"… دون ان يعلموا أنهم قد طردوا للتوّ ذات الرجل الذي جاؤوا لاعتقاله.

وفي مرةٍ أخرى، سمعت والدي يروي كيف تنكّر في زيّ عجوز ضرير، وجلس عند مدخل الجامع الكبير، يمسك مسبحة ويهز رأسه كأنه غارق في الذكر. لم يكن هناك ليتعبد، بل ليراقب مداخل الحي ويوصل رسائل خفية تحت عتبات الأبواب. أتى رجال الأمن مرارًا يفتّشون الأزقة، ووقف أحدهم فوق رأسه يحدّق فيه طويلاً، قبل أن يهزّ كتفيه ويمضي. بعد أيام، وصلت الأخبار: لقد نجا خمسة من رفاقه من كمين محكم، فقط لأن حسين كان عينهم المبصرة، وهم لا يعلمون.

وذات مساء، انتشر خبر عن "أحد أخطر الشيوعيين" المتخفّين في كربلاء، وكانت الحملة الأمنية على أشدّها للإيقاع به بأي ثمن. خرج حسين من أحد البيوت، مرتديًا زيّ "مُلّه" معمّم، وقد شدّ على خصره حزامًا عريضا من القماش يخبّئ بين طياته المنشورات وآخر التوجيهات للرفاق. دخل وسط حشدٍ من المعزين في مجلس عزاء، وجلس بقرب رجل دين معروف، وأخذ يردّد الأدعية كأنه وُلد في هذا الثوب. في اليوم التالي، انتشرت المنشورات في كربلاء كما لو أن الهواء نفسه كان يوزّعها، وانسحب حسين كما جاء، دون أثر.

ومن ملامح أسطورته أيضًا، أنه حضر باسمه وهويته، بلا قناع ولا تمويه، إحدى المؤتمرات الشيوعية الدولية في موسكو. لاحظ أن أحد المصوّرين يُصرّ على تركيز عدسته عليه دون سواه، فاقترب منه بهدوء وقال له: "أنا أيضًا أريد أن أجرّب التصوير، دعني أراك من عدستك." أخذ الكاميرا، فتحها أمام الجميع، أخرج الفيلم، ثم أعادها إليه قائلاً: "أعرف جيدًا ما غرضك… والآن، عد إلى أسيادك.

 كان حسين يعرف متى يصبح ظلًّا، ومتى يتحوّل إلى ضوء. لم يكن يهرب، بل يختفي ليعود أقوى، أنشط وأذكى. في كل مرة يتوارى، كان يخلق فرصةً جديدة للنضال، وكل مراوغة كانت فخًا يُنصب للعدو، لا خلاصًا فرديًّا.

هكذا كان سلام عادل، رجلًا يتنقّل بين الظلّ والضوء، يبني مجدًا في صمت، ويحترف المراوغة بعبقرية لا تمنحها إلا التجربة والولاء. في نظر والديَّ، لم يكن مجرد اخ او ابن عمة، بل كان الوعد المتحقق، والقصيدة التي كُتبت بالدم لا بالحبر، والأسطورة التي لم تنتهِ بانتهاء فصولها، بل بقيت متقدة في الذاكرة، حيّة في الوجدان، تتردّد كلما ذُكر الوطن أو النضال أو المعنى الحقيقي للبطولة.

في زمنٍ تُختزل فيه البطولات في الكلمات، يبقى سلام عادل شاهدًا على بطولةٍ لا تتطلّب منبرًا، بل تتجلّى في فعلٍ حقيقيّ، في ذكاءٍ نادر، في شجاعةٍ لا تعرف الانكسار، وفي حكاياتٍ رواها والدان بسيطان، لكنهما حملا إرثًا من المجد لا يبهت. وكأن البطولة لا تعرف الموت ما دام هنالك من يرويها.

سلام عادل… لم يكن مجرّد رجل. بل كان سؤالًا كبيرًا عن الحرية، عن الشجاعة، عن معنى أن تحيا مقاتلًا، وتموت واقفًا حتى الرمق الأخير.

في زمنٍ تهاوت فيه المعاني، سيبقى هو… المعنى.

***

سعاد الراعي

............................

* عمة والديَّ "مكية"/ ام سلام عادل

* اسم سلام عادل الرسمي هو "حسين احمد الموسوي".. عرف باسم شائع هو حسين الرضي: ونقلا عن والديَّ، ان الرضي كنية أطلقها المرحوم والده عليه منذ صباه، تيمنًا بأخلاقه الحميدة. ويقال أيضًا انه كان لقبًا أطلقه هو على نفسه تيمنًا بالشريف الرضي حفيد الامام موسى الكاظم، وقد أصبح هذا اللقب عزيزًا على قلبه فرافقة طيلة حياته.. وحمله أبنائه الثلاثة من بعده 

في المثقف اليوم