شهادات ومذكرات

قاسم حسين صالح: اصدقاء كبار نفتقدهم (3): بلند الحيدري

من مفارقات الشاعر بلند انه مبدع في كتابة الشعر العربي مع انه كوردي الأصل (بلند بالكردي.. يعني شامخ!). والده ضابط في الجيش العراقي، ووالدته.. فاطمة بنت إبراهيم أفندي الحيدري الذي شغل منصب شيخ العرب في إستانبول!. وله شقيق اكبر اسمه (صفاء الحيدري).. شاعر ايضا.. انفرد في زمانه انه كان وجوديا متمردا.. نصب خيمة سوداء في بساتين بعقوبة الخضراء! وتعرف على صديقنا الشاعر المتمرد (حسين مردان) الذي اخذت منه القصيدة التي يتغزل فيها بعفيفة اسكندر مع انها ما كانت تحبه كما قالت هي لي. ورغم أنه من عائلة ارستقراطية، فان من عائلته.. السياسي الشيوعي المعروف جمال الحيدري الذي قتله البعثيون في انقلابهم عام 63.

ولقد وجدت في حياة بلند احداثا درامية صنعت منه شاعرا يمتاز عن كل الشعراء العراقيين. فقد انفصل والداه عام 1940، وهو بعمر الرابعة عشرة، وتوفيت والدته.. حبيبته عام 1942، لينتقل الى بيت جدة والده.. وفيه حاول الآنتحار لقوانينها الصارمة، وترك الدراسة قبل ان يكمل المتوسطة في ثانوية التفيض.. ليبدأ حياة تشرد وتسكع وصعلكة! وهو بمرحلة المراهقة.. وليفتتح عشرينياته بوفاة والده الذي حرم ومنع من المشاركة في تشييع جنازته!.. فنام تحت جسور بغداد لياليا.. واشتغل (عرضحالجي) امام وزارة العدل التي يرأسها خاله (داوود الحيدري)!. وقد كتب هو قبل دخوله المستشفى بساعات: (كان المنفى قائماً في داخلي منذ أن وعيت نفسي كائناً شعرياُ وكائناً سياسياً في آن واحد.. والغربة بهذا المعنى، كانت في داخلي، غربتي عن عائلتي البرجوازية المتشبثة بالحكم البائد، مما دفعني – يومذاك – بالهرب من داري في قصر العائلة لأتشرد في شوارع بغداد، وأنام على أرصفتها بصحبة الشاعر حسين مردان.. ولكي أجسد ثورتي الحقيقية على عائلتي البرجوازية...).. فعاش حياة التشرّد والصعلكة والأغتراب الذي تجسد عنده في اقسى حالاته: من انا؟ وهل لوجودي في الحياة.. معنى؟!

وبالرغم من تشرده كان حريصا على تثقيف نفسه، فكان يذهب إلى المكتبة العامة ليبقى فيها حتى ساعات متأخرة من الليل بعد أن صادق حارس المكتبة الذي سمح له بالبقاء بعد إقفالها.. فدرس الأدب العربي والنقد والتراث وعلم النفس، وتبنى الوجودية لفترة ثم الماركسية.. وقد سجن وعذّب وغادر الى بيروت ومنها الى لندن ثم الى بيروت زمن الحرب الأهلية التي كتب عنها أمين المعلوف كتابه (الهويات القاتلة) ليعود بدعوة من الشاعر شفيق الكمالي الذي اسس مجلة (آفاق عربية) عام 1979.. ومنها بدأت علاقتي بـ(بلند).

كنت نشرت في العام 1979 مقالا في مجلة آفاق عربية، وكان يومها قد خصه شفيق الكمالي بمسؤولية ادارة المجلة وكاتبا فيها.

كنت خارجا من المجلة في الطريق الذي يؤدي الى بلند.. فنهض وقال:

حضرتك مو استاذ قاسم؟

اجبته: سعيد جدا ان يعرفني بلند الحيدري!

وجلست، وابدى لي اعجابه بمقالتي في المجلة التي كانت بعنوان (الأبداع الفني عند الفرويدية والسريالية).. وكنت يومها (هم وسيم وهم استاذ جامعي وهم كاتب مقالات مقروءة!).

تطورت العلاقة الى صداقة، ودعاني لسهرة ليلية.. وكنت حصلت على احد دواوينه الشعرية.. وفيه لفت انتباهي ان الكثير من قصائده كانت عن المرأة البغي.. فسألته:

هل جربتهن؟ ومن دلك عليهن؟

فاجاب مبتسما.. حسين مردان!

رسالة لمظفر

كان بلند قد كتب رسالة الى مظفر قال له فيها:

يا مظفر لم اكن أعلم يوما أن حظي قد تعثّر

ضاع عمري في سجلات ودفتر

(ياحمد والريل فارغ.. والكصب بردان حيل.. ومستحي اهوايه تأخر

علمي لم يبق احمر

كان حلمي وسط تراب.. وقناعاتي خيالا في سراب

كان للوهم يغني من جديد.. لا وطن حر ولا شعب سعيد).

وعلى ايقاعه.. قلنا لمظفر:

يا مظفر.. أصحيح ان شعبا انجبك، صار من احزاب تدّعي الأسلام.. يقهر!

ولنا جيش يتامى وارامل، سرقوا خبزها اليومي وبنى منها معمم لأبيه ضريحا،

كان قد افتى ابوه.. قتل من نادى.. (وطن حر وشعب سعيد)!

أو تعلم يامظفر.. أن شعبا كان من عهد جلجامش يوصف بالعنيد

صار من تغريدة (هاوي) بالسياسة، يهتفوله بالقداسة

ويبوسون ترابا قد مشى يوما عليه.. وان كان نجاسه!

كلّ هذا يامظفر قد حصل

وما كنت تمنينا بيوم يفطر الناس به: كيمر عماره وعسل

افطر شعبك يامظفر.. خبزة نخاله وبصل.!

للأسف.. فان بلند الحيدري بات منسيا! من يوم وفاته في لندن ( 6 آب 1996)، وقد عاتبت اتحاد الأدباء. ومع اننا نقيم مهرجانات احتفالية نحيي فيها ذكرى شعراء كبار ( ابو تمام.....) فاننا بخلنا على بلند في ان نحيي ذكراه ولو بسهرة.

بقي ان اقول:

ان حياة (بلند الحيدري) تصلح مسلسل تلفزيوني مميز، وانا حاضر لكتابته (حوار وسيناريو) ان وعد احد المخرجين المعتمدين بأخراجه.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

في المثقف اليوم