شهادات ومذكرات

علي حسين: أنطونيو سكارميتا يرحل تاركا لنا نيرودا وساعي بريده

كان مختبئا عند أحد الاصدقاء عندما شُيع جثمان شاعره المفضل بابلو نيرودا، قال فيما بعد انه كان خائفاً، ولم يستطع أن يمثل دور البطل: " كان الكل يريد أن ينجو بحياته في تلك الأيام المأساوية "، اخبره احد الاصدقاء ان المشيعين عندما وصلوا بجنازة نيرودا الى المقبرة قاموا بغناء النشيد الشامل، اعتاد منذ ان كان صغيرا أن يقرأ لجدته اشعار نيرودا، كانت المهاجرة الكرواتية الاصل، تحب الادب، لكنها لا تستطيع القراءة، فاستعاضت بالمذياع لسماع التمثيليات، يقول ان بدايته مع الادب ارتبطت بمذياع جدته التي كانت تطلب منه تدوين هذه التمثليات في دفتر ليعيد قراءتها لها في المساء. أنطونيو سكارميتا الذي رحل عن عالمنا امس الثلاثاء، كان في السابعة والعشرين من عمره عندما التقى بابلو نيرودا للمرة الاولى، في ذلك الوقت حمل كتابه الاول وقرر الذهاب الى بيت الشاعر الكبير الذي يبعد 200 كيلو متر عن العاصمة سانتياغو، طرق الباب فظهر له الشاعر بقامته الطويلة، قدم نفسه وهو مرتبك طلب من نيرودا أن يقرأ مجموعته القصصية وكانت بعنوان " الحماس "، حاول الشاعر طمأنته وهو يقول له: ساقرأه بالتاكيد، ولكن بعد شهرين. لم يصبر حتى يحين الموعد، بعد اسبوعين سيذهب الى بيت الشاعر ليطرق الباب من جديد، وعندما خرج اليه نيرودا قال له: هل قرأت كتابي الذي أهديته لك؟"، لم يصدق ان شاعر تشيلي الكبير سيقول له نعم انه كتاب جيد:" كان مجرد سماعي كلمة جيد من شفتيه كافيا ليجعلني سعيداً. كدت أن أقفز من الفرحة" – مهنة الكتابة ترجمة راضي النماصي -. بعد 19 عشر عاما على هذا اللقاء يقرر في روايته الأشهر "ساعي بريد نيرودا" التي وضع لها في البداية عنوان " صبر متأجج " انه سيتمكن من اعادة رسم صورة شاعره المحبوب، حيث تدور الرواية حول صياد شاب " ماريو خيمينث " يقرر أن يهجر الصيد، ليعمل في وظيفة ساعي بريد في قرية جميع سكانها لا يقرأون ولا يهتمون بالرسائل، باستثناء شخص واحد بتلقي كل يوم كمية هائلة من الرسائل، كان هذا الشخص هو الشاعر بابلو نيرودا، لم يصدق الشاب خيمينث انه سيلتقي يالشاعر الذي تنحني له كل البلاد، فهو معجب به، وجاءت الفرصة ان يتحدث معه، وان يطلب منه ان يهدي له بخطه احد كتبه " ضع عليه توقيعك المليونيري ايها المعلم "، سيحقق له الشاعر امنيته،، وتقوم بينهما علاقة انسانية خاصة جداً، في هذه الرواية التي كتبها في المنفى 1985، وكانت في البداية تمثيلة لاحدى القنوات الالمانية قدم يقدم لنا سكارميتا صورة لتشيلي في سنوات السبعينيات، وما جرى من احداث انتهت بموت الشاعر على سرير المرض، واطلاق رصاص العسكر على الدولة المدنية وقتل الرئيس المنتحب سلفادور اليندى، انها حكاية تشيلى الحزينة، وقتل احلام الشعراء.انها حكاية البلاد التي كانت تعشق الشعر والفنون، لكنها ستصحو ذات يوم على رصاص العسكر وموت شاعرها الكبير ليموت معه الشعر واحلام ساعي البريد.

ولد أنطونيو سكارميتا فرانيسيتش في السابع من تشرين الثاني عام 1940 في أنتوفوجاستو، كان طفلا لعائلة مهاجرة، جاءت من جنوب كرواتيا:" قدم أجدادي في بداية القرن الماضي، ولم يستطيعوا التحدث بالإسبانية. تعلموها بكثيرٍ من المشقة ". كانت العائلة تمتلك بقالة، كان الاب شخصية مغامرة جرب العمل في كثير من المهن، وبسسب فشله اضطر للهجرة بعائلته بوينس آيرس في الأرجنتين. يتذكر انطونيو السنوات الثلاثة التي عاشها هناك:" كانت أسعد أيام حياتي، فقد تعرفت وقتها على لكنات جديدة، وأصدقاء جدد، وعلى أدب رائع أيضًا، لأن المكتبات وقتها في بوينس آيرس كانت ممتعة وجذابة، وكل الآداب منتشرة حول المرء، إضافة إلى المسرحيات، والأفلام؛ "، تعود العائلة الى سانتياغو ليعمل الصبي انطونيو بائعا للخضار، إلا ان شغف القراءة لم يفارقه، وعندما سأله والده ذات يوم: ما الذي يريد ان يفعله في المستقبل؟، كانت اجابته سريعة: "أريد أن أصير كاتبا "، احضر له والده دفاتر واقلام رصاص وطلب منه ان يكتب قصص واقعية أو قصائد، أخذت يكتب كل يوم. وفي يوم ما، قال له والده :" هل كتبت ما يكفي من القصص لتنشر كتابا؟". قرر الاب ان يرسل قصص ابنه للمشاركة في مسابقة رسمية، وخوفا من الفشل وضع على المجموعة القصصية اسم مستعار. بعد ذلك بشهرين، كانت دور النشر تبحث عن صاحب الكتاب الفائز بالمسابقة، شعر الأب بالفخر، كان محبا للادب قال لابنه ذات يوم:" لم اصبح كاتبا، ولكنك يمكنك تحقيق حلمي فيصبح لدينا اديب في العائلة.

درس الفلسفة وعلم الاجتماع في جامعة تشيلي، كتب اطروحته عن فيلسوف اسبانيا الكبير أورتيغا إي غاسيت 1883- 1955، صاحب الكتاب الشهير " موضوع زماننا " – ترجمة علي ابراهيم الاشقر - الذي طرح فيه فكرة ان الجيل ليس حفنة من الرجال العظماء، وليس مجرد جمع كبير، إنه عبارة عن جسد اجتماعي جديد متكامل، باقليته المختاره وجمهوره العريض، الذي جيء به الى حيز الوجود يحمل مشروعا حيويا موحدا. تسحره كتابات سارتر وكامو، ويحاول في منفاه دراسة فلسفة هايدغر لكنه يصاب بالفشل، يحصل على منحة للدراسة في جامعة كولومبيا حيث كتب اطروحة عن خوليو كورتازار، ابرز روائيي أمريكا اللاتينية.

قال ان المدرسة علمته معنى الديمقراطية: "كان الناس ينتمون إلى مختلف الطبقات الاجتماعية يذهبون إلى المدرسة: الفقراء، والطبقة المتوسطة، والأغنياء. لقد علمتني المدرسة كيفية التعامل مع الناس من مختلف الخلفيات".

في الحادي عشر من أيلول 1973 سيعلن الراديو عن الانقلاب العسكري أن "المطر يهطل على سانتياغو". وكان سكارميتا جالساً في مكتبه بجامعة تشيلي، نصحه بعض الزملاء بمغادرة الجامعة، فقد صدر اوامر باعتقال الالاف، تحولت العديد من المجمعات الرياضية إلى معسكرات اعتقال لزعيم الانقلاب أوغستو بينوشيه. ولقي أكثر من 2000 شخص حتفهم في المعسكرات، وعانى أكثر من 35 ألف شخص من التعذيب والسجن.يساعده صديقه المحرج الالماني بيتر ليلينتال على مغادرة تشيلي، يمضي اشهر في الارجنتين، بعده يحصل عام 1974 على منحة دراسية في برلين. تلحق به عائلته إلى هناك. ويشرح سكارميتا: "لقد غادرت البلاد طوعاً. لم أتعرض للتعذيب؛ لقد فقدت وظيفتي فقط. وهذا ليس بالشيء الكثير مقارنة بما حدث لأشخاص آخرين".

في المنفى ينشر روايته "لم يحدث أي شيء " – ترجمها الى العربية عبد السلام باشا - وفيها يروي قصة فتى من تشيلي هرب إلى المنفى مع عائلته. ليصبح المنفى فيما بعد أحد الموضوعات الرئيسية التي تناولها في العديد من رواياته

في عام 1988، يتم التصويت على عزل أوغستو بينوشيه من منصبه. وسيروي في روايته " أيام قوس قزح " – ترجمة صالح علماني كيف تم اجراء رئاسيٍّ حدّد مصير بيونشه، الذي يستدعي وزير الداخليّة السابق لإقناعه بقيادة حملة للفوز بالانتخابات، إلا أن الائتلاف المعارض يقترح على الوزير فكرةً جنونيّةً: إدارة حملة الانتخابيّة شعارها " لا" تبث من خلال اعلان تلفزيونيٍّ قصير. وعوضاً عن التركيز د على المجازر، والمعتقلين، وأهوال المرحلة الماضية، يقترح الوزير أن يكون عنوان الحملة: الفرح آتٍ. لينجح إعلانٌ من خمس عشرة دقيقةً في إسقاط حكمٍ دكتاتوريّ دام خمسة عشر عاماً؟

بعد 16 عاما في المنفى يعود سكارميتا إلى تشيلي، وفي عام 1990 يؤسس معهد غوته في سانتياغو، ورشة عمل أدبية عن هاينريش بول، حيث تدرب الكثير من الأجيال الجديدة من الكتّاب. وفي العام 1992، قدم برنامجاً تلفزيونياً لعرض الكتب، بثه التلفزيون الوطني التشيلي. وفي عام 2000، تم تعيينه سفيراً لتشيلي في ألمانيا حتى شباط 2003. وقد شغل منصب أستاذ جامعي في جامعة واشنطن في سانت لويس بولاية ميزوري وفي كلية ولاية كولورادو. في سنواته الاخيرة عانى من مرض السرطان الذي اثر على حركته.

روايته الاولى " حلمت أن الثلج يحترق " – ترجمة عمار الاتاسي صدرت عام 1975 عدها النقاد بداية لادب لاتيني يؤسس لأسلوبٍ خاصٍّ متنوعٍ على صعيد الإيقاعات وتقنيّات السرد، يمتزج فيه الخيال مع الواقع، وتخفّف فيه الفكاهة الساخرة من قسوة الأحداث الدراميّة؛ فالكتاب بمنزلة وثيقةٍ حيّةٍ للحوارات، والصراعات، والمزاج الشعبي الذي ساد تشيلي في أكثر لحظات تاريخيها مفصليّة. قال انه يرفض ما يقال عن تاسيسه لرواية تشيلية جديدة: "كل عقد يُعلن ميلاد رواية جديدة في كثير من الدول، لكن لا شيء مما أراه أعتبره جديدًا، إذ لا أرى اتجاهًا يخلق إيقاعًا لا يمكن مقاومته".

يعترف ان بعض رواياته تدور في فلك السياسة الذي فرضته ظروف بلاده عليه، وعندما يسأله مراسل البايس الاسبانية عن اقرب اعماله الى نفسه يجيب : فتاة الترومبيت، والتي يروي فيها حياة فتاة جاءت من أوروبا كمهاجرة لتعيش في تشيلي خلال الحرب العالمية الثانية لتشهد تطورات االاحداث التي تنتهي بمرحلة الاتقلاب العسكري التي ستغشل معظم كتاب تشيلي:" الدوران الذي أصاب تشيلي لما حدث لـ ألليندي، وتراجيديا نهايته قتيلًا، شغلت ولا تزال تشغل مؤلفين من نفس ذاك العقد ومن أجيال مختلفة، أجيال أكثر شبابًا ولا حتى كانوا قد ولدوا في الفترة التي يحكون عنها". قال انه يعتبر نفسه راوياً عفويّا، وقدم شكره وامتنانه للثّقافة العظيمة التي حصل عليها من خلال الكتاب العظماء في كل العصور.

عندما سُئل عن النصيحة التي يمكن ان يقدمها للكتاب الشباب قال:" دع شخصيات رواياتك تعيش، دعهُ يعش، احترم عفويّتها، عدلاتثقلها بالرّمزيّة والأفكار، دعها تتنفس وتتحدّث بشكلٍ طبيعي،. الشخصيّة هي ما يتم القيامُ بهِ خلال الرّواية وليسَ شخصاً يتمّ صنعهُ لأن تحدث الأشياء لاحقاً ".

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

في المثقف اليوم