شهادات ومذكرات
علي حسين: أرسكين كالدويل.. الطريق نحو الرواية الخالدة
يصدر عن دار المدى قريبا كتاب " إرسكبن كالدول درب الكتابة الوعر " ترجمة الصديق عماد العتيلي، وكانت دار المدى قد اصدرت منذ سنوات كنابه " اسمها تجربة " وهو سيرة ذاتية وفد صدرت له ترجمة اخرى عام 1987 عن دار الشؤون الثقافية قام بها الشاعر الراحل علي الحلي بعنوان " سمها تجربة "
كان في الخامسة عشرة من عمره حين قرر ان يكسب بعض النقود، وقد اكتشف في المدرسة أن عدداً من الفتيان الأكبر عمراً منه يعملون مساءً في معصرة لزيت بذور القطن. يبدأ العمل في الساعة الحادية عشرة ليلاً وينتهي في الساعة السابعة والنصف صباحاً، أما الأجرة، فكانت دولاراً واحداً في كل ليلة، مبلغ مغرٍ بالنسبة لصبي يعاني الفقر.
لأسابيع، ظل والداه يعتقدان ان ابنهما يغط في نومه، لكنه في كل ليلة وقبيل الحادية عشرة، يرتدي ملابسه مسرعاً، ليسير مسافة كيلو متر إلى المعصرة، يبدأ بجرف بذور القطن إلى الجهاز الناقل الميكانيكي حتى الصباح. بعد ذلك يحمل البذور إلى بناء آخر حيث تعصر بواسطة مكبس قوي حتى يستخلص منها الزيت. في الصباح الباكر، يفضح ضوء الفجر وجوه العمال المتعبة، ولكي يصل بيته دون ان يشعر والداه، فقد سمح له رئيس العمال بأن يغادر المعصرة قبل نصف ساعة من انتهاء عمله، بحيث يتمكن من تناول طعام الفطور مع والديه في الوقت المحدد. وفي الساعة الثامنة وعشرين دقيقة يغادر البيت إلى المدرسة. استطاع تحمل هذا الوضع شهرين كاملين، لكنه ذات صباح يشعر بالتعب الشديد وهو يجلس على مائدة الافطار، فيقع أرضاً، ليكتشف أمره، كان والده سعيداً ان ابنه اخذ يعتمد على نفسه، إلا أن والدته التي كانت تطمح ان يصبح ابنها قاضياً مشهوراً، طلبت منه ان يتوقف فوراً عن هذا العمل، فاستجاب لها بعد ان استطاع ادخار مبلغ تجاوز الثلاثين دولاراً.
وُلد ارسكين كالدويل عام 1903 لقسٍّ يتنقل من كنيسة لأخرى، ولأُم تعشق الأدب، فكانت تقضي وقتها بقراءة الروايات الفرنسية والانكليزية، وابتلي بالربو طفلاً. لم يحب الأدب في صباه، ورأى في الأعمال الحرة مهرباً من حياته الاجتماعية الحافلة بالفقر. جذبته المهن البسيطة والتجوال في أنحاء أميركا، وقال في مذكراته الساحرة “اسمها تجربة”: “ ما زلت حتى الآن استغرب ما الذي حدث قبل ثلاثين عاماً وقادني بشكل حاسم، ودفعني الى طريق الكتابة، الذي لم استطع أداءه بخفة ودونما جهد، فقد كانت أمي تجادلني لكي أعد نفسي لدراسة القانون، وكنت آنذاك لا امتلك الحافز ولا الرغبة في أن أكون كاتباً «.
رفضت الصحف قصصه القصيرة الأولى، وسأله رئيس تحرير احدى الصحف الشعبية: لماذا تصر على وصف البؤس؟ بعد نشره روايته الأولى “طريق التبغ” قال وليم فوكنر وهو يقرأها: “إنها عمل أدبي لامع الى درجة لا يمكن معها مقارنته بغيرها “، والتهمها ارنست همنغواي بشغف فضولي حتى انه قال لكاتب سيرته “هو تشنر”: “حفزني كالدويل لأن أصبح كاتباً، عشقت حياته الجوّاله وحاولت ان أسير على خطاه».
كان فيتزجيرالد صاحب “غاتسبي العظيم” قد رفض مخطوطة “طريق التبغ”، لكنه قال لشيروود أندرسون بعد نجاح الكتاب إنه لم يقرأ المخطوطة، فقد كان يعتقد انها مثل كثير من المخطوطات التي تعرض عليه والتي تصيب الانسان بالملل. أحب القراء روايته الثانية “أرض الله الصغيرة”، ووضعه شتاينبك بين أفضل خمسة كتّاب في العالم، وحاول ان يقلده في “شارع السردين المعلب”، ظل مرشحاً دائماً لجائزة نوبل حتى وفاته عام1987، باع كتباً أكثر من أي كاتب أميركي آخر على الإطلاق في تاريخ أمريكا.
***
قبل بضعة أيام من انتهاء دراسته الثانوية، حصل على عمل في صحيفة أسبوعية، أما العمل فهو إدارة يد آلة الطباعة. بعدها كُلف بمهمة إضافية تتمثل في تنضيد الأحرف باليد، وبعد أسبوع قيل له إن بإمكانه أيضاً جمع المقالات والملاحظات والتعليقات الاجتماعية لصفحة المجتمع، وكتابة الأخبار القصيرة حول الأحداث المثيرة للاهتمام. استخدم النقود التي كسبها من معصرة الزيت لشراء آلة كاتبة مستعملة، وبدأ يعمل محرراً رياضياً يقوم بتسجيل مباريات “البيسبول”، كما عمل بائعاً لصحيفة “التلغراف”، قال له مدير التحرير ذات يوم: “أنت لا تريد ان تعيش باقي أيام حياتك بائعاً للصحف، أليس كذلك يا أرسكين ؟»
فأجاب فوراً: أُفضل أن أكتب في الصحف.
نظر اليه مدير التحرير ثم قال له بكل جدّية: “اكتب عما تراه أمامك. لا تصدق ما يقوله الناس. انظر بعينيك ولا تصدق ما تسمع بأذنيك هنالك دوماً شيء يمكن أن تكتب عنه، وإذا استطعت ان تحوّل مشاهداتك إلى كلمات مثيرة، عندها سانشرها فوراً".
بدأ التجوال بالسيارة طيلة النهار إلى المناطق الريفية، كان مهتماً فقط برؤية كيف يعيش الناس، أصبحت الكتابة شاغلاً أساسياً لديه، جرب في البداية الكتابة الساخرة، وكان أجره دولاراً واحداً عن كل موضوع ينشر له، حاول ان يزيد من دخله فعمل موزعاً لزجاجات الحليب، وقضى عدة أشهر يعمل موظفاً في كشك لبيع العصائر، إضافة إلى عمله كحارس في مخزن للأواني الخزفية والزجاجية. وفي عام 1925، شعر أنه لم يعد بإمكانه الانتظار مدة أطول قبل البدء جدياً بما سيفعله. لم يكن يطمح بأن تكون الصحافة مهنته الدائمة، لكن الصحافة تعني الكتابة، وهذا ما حاول ان يتعلمه. وبعد محاولات في نشر القصص الساخرة، تم تعيينه مراسلاً تحت التمرين وبراتب ثابت بلغ عشرين دولاراً في الأسبوع، لكنه لم يكتف بوظيفة المراسل، حيث كتب إلى عدد من الصحف حول رغبته بكتابة مراجعات نقدية لبعض الكتب، عام 1926 يتلقى رسالة من صحيفة “هدسون بوست”، تخبره فيها أنها سترسل اليه العديد من الكتب ليكتب مراجعات عنها.
***
عام 1929 يصل ولاية فرجينيا. كان قد نزل من الباص عندما لمح لافتة مثيرة: “ فندق مارك توين”، أحسّ بالسعادة فهذه هي المرة الاولى التي سيسكن في مكان مع واحد من اشهر كتّاب اميركا، الذي كانت أمه وماتزال تعشق كتاباته، كان الفندق صغيراً، قال مع نفسه وهو ينظر الى الواجهة:”بالتأكيد ان أجرته ستكون مناسبة”، كان يحمل حقيبة وآلة كاتبة قديمة اشتراها من سوق المواد المستعملة، دخل الى الفندق وما ان لمحه موظف الاستقبال حتى سأله: هل أنت كاتب؟ فاومأ برأسه بنعم، فاعتذر الموظف قائلاً: لايوجد سرير فارغ.
ولأن الجو في الخارج كان قد اقترب من العشرين تحت الصفر فقد ترجّاه ان يستأجر غرفة ولو لهذه الليلة فقط.
-" لم نكسب من وراء الكتّاب غير المتاعب، يقيمون ثم يتسللون ودائما ما يجدون وسيلة لعدم الدفع” قالها موظف الاستقبال وهو يدير ظهره.
خرج كالدويل ليبحث عن مكان آخر، وعلى كثرة ما كتب من عروض للكتب وتقارير ساخرة لم يكن قد نشر غير قصة قصيرة واحدة لم تلق الاستحسان، لكن كانت لديه رغبة شديدة لأن ينضم الى صف الكبار:” رغبة طاغية تماثل،بالنسبة لبعض الناس، الحاجة للطعام والشراب. أما حدة وشدة وكثافة هذه الحالة الذهنية فهي التي تجبر المرء على المضي قدماً إلى أقصى مدى يتهيأ لبلوغه في سبيل تحقيق الهدف الواعي، أو غير الواعي، من حياته. إن من يملك الإرادة العنيدة للكتابة سوف يجد فرصته على الدوام ؛ وأولئك الذين يميلون إلى عدم البحث عن الفرصة المناسبة لديهم في العادة اهتمامات أخرى، بغض النظر عما إذا عرفوا هذه الحقيقة أم لا، أقرب إليهم وأحب إلى نفوسهم.
أخذ آلته الكاتبة، وفي زاوية لأحد الشوارع الرئيسية عثر على فندق آخر، استقبلته امرأة في الخامسة والثلاثين، اخبرها بأنه يبحث عن غرفة رخيصة الأجر، وأنه يستطيع ان يدفع أجرة أسبوع مقدماً، جلس ليكتب، لم يخرج من الغرفة الا لشراء وجبة طعام واحدة بشرط ان لايتجاوز ثمنها العشرين سنتا، وبحماسة مضاعفة بعث بعشرات من قصصه الى معظم صحف المقاطعة.
وخلال شهور نُشرت له ست قصص فقط لم يتسلم عليها أجراً فقرر ان يحمل حقيبته ويسافر الى نيويورك، وهناك عثر على مجلة تهتم بنشر النتاجات الأدبية، فأرسل لها العديد من القصص التي كانت تعود اليه مع عبارة “مرفوضة”، لم يشعر باليأس فأرسل لهم قصصاً اخرى. وذات يوم استدعاه احد عمال الفندق، فهناك مكالمة هاتفيه له، كان على الجانب الآخر مدير تحرير المجلة الأدبية ليبلغه:
- لقد قررنا ان ننشر قصتين من نتاجك.
لم يصدق ما سمعه فانتابته حالة من الصمت والشرود.كان المتحدث على الخط قد قرر ان يواصل الحديث:
- ما رأيك في اثنين وخمسين أجراً للقصتين؟
تمالك نفسه ليجيب: لكني تلقيت أجراً أكثر قليلاً من هذا.
- لتكن ثلاثة وخمسين، قال مدير التحرير.
- حسناً ولو انني كنت أظن انني سأتلقى اكثر قليلاً من ثلاثة دولارات وخمسين سنتا.
- ماذا تقول.. انني اقصد ثلاثمئة وخمسين دولاراً، قالها مدير التحرير.
***
كان هدفه الجديد ان يجمع قصصه القصيرة في كتاب، عمل في حقل للبطاطس في النهار وتفرغ في الليل لكتابة القصص، قصة كل اسبوع، يبعث بها الى المجلات، وكان العديد منها ينشر، واكتشف قانوناً لتطوير عمله: كل قصة ترفضها ست مطبوعات يسقطها من حسابه. وذات يوم جمع كل ما كتبه من قصص لم تنشر واحرقها دفعة واحدة، ليقرر ان يرحل من جديد هذه المرة الى كارولينا، وكانت عدته للسفر آلة كاتبة، وماكنة للف السجائر وحقيبة ملابس صغيرة. وبعد ثلاثة ايام قضاها يتنقل بالباصات، كان يلتقي بأبطال قصته الجديدة التي قرر ان يجعل منها رواية، حيث رأى بطون الأطفال المنفوخة من الجوع، والناس الذين اقعدهم المرض، والقحط الذي كان يهيمن على مدن الجنوب الفقيرة. هكذا قرر ان تكون روايته الاولى عن فقراء الفلاحين الذي عاش وسطهم:”لقد مشيت في ذلك الدرب في صميم فصل الشتاء، ورأيت الناس الجائعين الملتفّين بالأسمال البالية يذهبون إلى لا مكان ويأتون من لا مكان، ملتمسين الطعام والدفء، راغبين في أن يعرفوا ما إذا كانت أشياء مثل الطعام والدفء، لا تزال موجودة في بقعة ما من بقاع العالم. إنهم لم يلتمسوا شيئاً أكثر من الغذاء الكافي لأن يمسك عليهم الحياة حتى مطلع الربيع بحيث يكون في مقدورهم أن يزرعوا القطن للموسم الجديد. كان لهم من الإيمان بالطبيعة، بالأرض، وبالنبات الذي في الأرض، ما جعلهم لا يفهمون كيف يمكن للأرض أن تخونهم أو تخيّب رجاءهم، ولكنها خانتهم وخيبت رجاءهم.»
فالناس في “ طريق التبغ” فقراء وبائسون وخطاة ولصوص، ولا يأبه واحدهم بمصائب الآخر، لكن السؤال الذي يحاول ان يطرحه كالدويل: يا ترى هؤلاء الناس ولدوا هكذا؟ أو هل اختاروا بإرادتهم أن يكونوا أشراراً؟ أبداً، يجيب كالدويل في مقدمة طريق التبغ: “إن مجتمع البؤس الخارج عن إرادتهم هو الذي صنعهم”. وبالتالي فإن الكاتب يقدم لنا ذلك العالم الغريب في الرواية المتحلق من حول أسرة “جيتّر ليستر”، المزارع البائس الممتلئة حياته بالمصائب وبالأطفال الذين أنجبت له زوجته سبعة عشر ولداً في بيتهم الضيق الفقير الواقع. لقد مات باكراً خمسة من أولئك الأولاد، وهرب معظم الباقين إلى المدينة، وهناك في الحلقة المحيطة بأسرة ليستر صهر العائلة “لوف بنزي” الذي لا يتوقف عن محاولة سرقته، وهناك المراة المتدينة التي تقترب من الأربعين، وترملت غير مرة بعدما كانت مومساً، وها هي الآن تغري ابن الأسرة “ديود” (16 سنة) بالزواج منها مقابل أن تشتري له سيارة يقودها فيتجولان معاً للدعوة إلى الدين. إذاً، من حول هذا العالم بما فيه من احتيال وبؤس وأكاذيب وقبح ؟ هذا ما يحاول ان يجد له اجابات من خلال الرواية.
تنشر الرواية عام 1932 وينتظر شهوراً قبل ان يبلغه الناشر ان الخمسة آلاف الأولى من الرواية قد نفدت وانه ينوي اصدار طبعة جديدة، ويتلقى اول اجر ضخم، سبعمئة دولار دفعة واحدة، ولم يمض عام حتى قرر احد مسارح برودواي ان تحول “طريق التبغ” الى مسرحية استمر عرضها لسبع سنوات بدون انقطاع، وها هو الحظ يحالفه، فتمنح الرواية جائزة ادبية قدرها الف دولار يحقق من خلالها احد ابرز أحلامة بالحصول على بيت للسكن.
لقد تخلص اخيرا من عبء السعي وراء النشر واصبح له وكيل اعمال يقوم بمهمة البحث عن ناشر، واخترقت قصصه القصيرة أسوار الصحف الواسعة الانتشار، واشترى آلة كتابة جديدة، وبدأ بالتخطيط لكتابة رواية جديدة، ولكي يكتب يجب ان يتجول في انحاء البلاد، فيذهب في رحلة الى الجنوب، هناك يستأجرغرفة صغيرة ليخطط لروايته الشهيرة “ارض الله الصغيرة”.وكان في ذهنه ان يعقبها بكتاب انطباعات عن رحلاته، كان يقطع ثلاثين ميلا في اليوم، كانت قصصه القصيرة تشق طريقها الى الصحف الكبرى، وهو الان في الرابعة والثلاثين، اصبح مشهورا، له سكرتيرة تعنى ببريده واعماله تترجم وتطبع بالملايين وتتحول الى افلام سينمائية تحصد له الشهرة والمال.
كيف اصبحت روائيا؟
كثيرا ما يواجه الروائيون بهذا السؤال، وقد حاولوا الاجابة عنه في كتاباتهم ولكن الاجابة تكاد تكون هي نفسها عند معظم الروائيين الا ان كالدويل يقول في اسمها تجربة:” لعل اليأس وحده هو الذي دفعني الى الكتابة مثلما يتشبث شخص بزواج فاشل خوفا من الوحدة».
في الصفحات الاخيرة من مذكراته يخبرنا كالدويل أن كل كاتب يتلقى خطابات وديّة وعدائية بنسب وكميات متفاوتة ثمّ يذكر لنا بعض الأسئلة وإجاباته عليها ومنها:
- هل ذهبت إلى المدرسة لتتعلم ماتعلمته عن كتابة القصص والكتب؟
* لا. تعلمت بالخبرة. بالتجربة والخطأ، وبالعمل بالكتابة حتى اقتنعت بالنتيجة.
- ماهو هدفك من كتابة روايات مثل: طريق التبغ، وارض الله الصغيرة وبيت في المرتفعات مالفائدة التي تقدمها هذه الكتب؟
* الهدف من كل هذه الكتب هو أن أقدم مرآة يستطيع الناس أن ينظروا إليها. و مهما كان الخير أو الشر في كتبي فإن ذلك يعتمد على ردود فعل القارئ تجاه الصور التي يراها في المرآة.
- كتبت كثيراً عن الفقراء، لماذا لاتكتب عن الأشياء السعيدة في الحياة.؟
* أولئك الذين يستمتعون بمباهج الحياة أقل بكثير من أولئك الذي يُقاسون مآسيها. حين يتغيّر الوضع الاجتماعي سأشعر آنذاك، أنه لم يعد هناك أي هدف للكتابة عن آثار الفقر على الروح الإنسانية.
***
علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية