شهادات ومذكرات
جمال العتّابي: (ستينات) القرن الماضي.. يقظة أم حلم؟
في نهايات شارع الرشيد من جهة الباب الشرقي تقع (مقهى السمر) احدى أهم المقاهي الماكثة في ذاكرة الثقافة العراقية، كان روادها من طراز خاص، يتحدثون بلغة لا يفهمها المخبرون السريون: إلى أية لغة من لغات العالم تنتمي؟ جمهرة من الشباب (جليل حيدر، عبد الستار ناصر، شريف الربيعي: ابراهيم زاير، منعم العظيم، عادل كاظم، وليد جمعة، حسين عجّة، فالح عبد الجبار، عبد الرحمن طهمازي: بسام فرج، فاضل عباس هادي: سرگون بولص، قتيبة التكريتي، يوسف الحيدري، عبد القادر الجنابي، طارق الدليمي وآخرون) يلتقون فيها صبح، مساء، يتجادلون: ويختلفون: تتصاعد أصواتهم وتخفت، يغنون ويقرأون …. تلك المقهى: ملتقى هؤلاء كانت في شارع سينما الخيام. قبل انتقالهم الى مقهى (المعقدين).
من المفارقات المضحكة ان رجل الأمن المكلّف بمراقبة هذه المجموعة خشية أن تكون اجتماعاتها مكرّسة للتآمر على النظام، مهددة لكيانه، ظل في حيرة دائمة: في أية خانة من خانات القوى المعادية يضع هذه المجاميع: إلى أية جهة تنتمي؟ تساءل بلا جدوى عن هويتها السياسية، فكتب تقريره الى مسؤوله الأمني: "حضرة الضابط… المحترم، المجاميع في موقع ( س 2 ): يتكلمون لغة لا أفهمها ..لا أنا ولا غيري يتمكن من فك اسرارها ".
في ليلة من صيف عام 1967، داهمت الشرطة المقهى، وحشرت (المحبطين) من الهزيمة في سيارة مخصصة للمعتقلين، قادتهم الى دائرة الأمن أمام القصر الأبيض، وقفوا أمام ضابط التحقيق، التفت الى القاص يوسف الحيدري: شنو انت بابا؟ فأجاب:
أنا عندي مجموعة قصص عنوانها: حين يجفّ البحر
انت اللاخ (الآخر)؟ أشار الى عبد الستار ناصر: فأجاب:
⁃ انا صدرت لي مجموعة قصص: الرغبة في وقت متأخر.
⁃ أنت أبو لحية؟ شنو عندك؟ يقصد الشاعر فوزي كريم، ارتبك قليلاً: وتراجع الى الوراء: ثم أجاب بصوت خافت ومتقطع: لاشيء .. لا شيء .. عندي مجموعة شعرية (هكذا تبدأ الاشياء)
والآخر: والثاني، والثالث؟ انت على شنو يسموك العظيم؟.
يقصد منعم حسن!
في هذه الاثناء نادى الضابط بصوت عالٍ على المخبر السري، شتمه أمامهم: صرخ بوجهه: جايبلي مجموعة (مخابيل) .. ياالله !! (طلعهم برّه لا أشوفك ولا اشوفهم )!
كان أبناء هذا الجيل القادمون من مدن عراقية في الشمال والوسط والجنوب، مدفوعين بنفس الحلم، متبعين الخطى نفسها، وجدوا أنفسهم في المقاهي حيث النقاش السياسي والثقافي دائر ليل نهار، تجد نفسك بينهم في معركة سحرية جميلة يشارك فيها العشرات من الشباب، كانوا هم من أدرك إن الثقافة ليس مجرد لعبة ايديولوجية كما كانت عند الرواد، انما هي حلم أكبر من ذلك، لديهم شعور بالاختلاف وامتلاك طاقات جديدة ينبغي أن تكون ثورية، بعد سلسلة من الخيبات والانكسارات السياسية التي أعقبت شباط 63، وأيضاً على خلفية هزيمة حزيران. وفشل تجربة القيادة المركزية، التي تركت بصمات قاتمة في أرواح ابناء ذلك الجيل، وشهدت انهيارات نفسية لعدد من الشعراء وكتاب القصة، يومها انضمّ هؤلاء لاجتماع عفوي في ( بار البحرين)، حضره عبد الرحمن الربيعي، أحمد فياض المفرجي، سامي مهدي، مالك المطلبي: خالد يوسف، عبد الرحمن طهمازي، جاسم الزبيدي، فايق حسين وآخرون. كان ربيع براغ حدثاً مهماً في حياة المثقفين العراقيين، اختلفوا حوله، أثناء ذلك كانت الطلائع الأولى للمقاومة الفلسطينية بدأت تتشكل بمسميات مختلفة، فاندفع البعض بحماسهم الثوري للالتحاق بها . فجأة تحولوا الى مقاتلين يرفعون السلاح: ومنهم من استشهد في جبهات المواجهة .
كانت الحركة التشكيلية قد شهدت تصاعداً على صعيد الابداع وكثرة المعارض، وبدا ثمة تقارب بين النشاط الثقافي في حيز من الحرية كان مساعداً ومواتياً للتفاعل والدأب على المعرفة، و المكتبات ازدهرت بما ترفده دور النشر اللبنانية والمصرية من كتب .
في أواخر الستينيات، ما بعد حزيران، أقدمت الكاتبة سالمة صالح زوجة الكاتب والشاعر فاضل العزاوي على قصّ شعر رأسها، وأحالته الى عنصر أساس في اللوحة، من خلال عملية اللصق والكولاج، وغامرت سالمة ان تقدم أعمالها بمعرض (تشكيلي) اعتمادا على هذه المادة، كان مفاجأة للجمهور بمولودها الحلمي هذا، ومحاولة لافتة للإنتباه، وجدت سالمة الكثير من المسوغات لتصبح أعمالها مقنعة للآخرين في فرحة الخلق، كما هو شعورها إزاء ما تفعل . تشجّع شريف الربيعي ما دام الأمر بهذه السهولة، فأسرع بشراء عدد من قناني حبر الكتابة بألوان مختلفة، سفح الحبر على ورق سميك وحرّكه يميناً وشمالاً، فكانت تكوينات من ألغاز محيّرة لايعرف أن يصفها أحد إلا بلغته الخاصة، ووجد مفرداتها تحمل ألواناً ورموزاً غريبة، عرضها بجرأة (كأعمال تشكيلية) على الجمهور في المركز الثقافي السوفييتي أنذاك.
كان جيلاً مسكوناً بهاجس التحدي، يسعى من أجل الجديد، من أجل المثير، مسحوراً بزعقات اللامعقول: وكيف كانت أصوات بيكيت ويونسكو وأداموف ودورينمات: وغيرهم: تجد صداها في ردود أفعال مشرعة لاظهار الغضب، والتمرد للتعبير عن حالة الجزع، وفساد الواقع، ولكن كم كان الستينيون إذا صحّت التسمية مخلصين لأصدقائهم، الجائع منهم يجد من يدعوه للطعام، وأكثر من مرة شهدت مقهى (المعقدين) جمع مبالغ لدفع ايجارات الاصدقاء الذين يسكنون غرفاً في شارع السعدون، ويعجزون عن سداد بدل الايجار، كان جليل حيدر وعبد القادر الجنابي قد أنقذا الكثيرين من ذلك المأزق، وموظف الضمان الشاعر وليد جمعة، يدعو الجياع في المقهى الى وجبة غداء في مطعم نزار المقابل للمقهى يوم استلام الراتب في (راس الشهر).
في الوقت ذاته شغل العديد منهم ادارات التحرير لأغلب الصحف والمجلات، فكان الشاعر فاضل العزاوي يشرف على الصفحات الثقافية في جريدة (الثورة العربية)، والشاعر خالد الحلي مشرفاً على ثقافية جريدة المنار اليومية، وبمبادرة من الكاتب مؤيد البصام صدرت جريدة (أبناء النور) عن جمعية المكفوفين العراقيين: وأوكل مهمة تحريرها للكاتب والمترجم محسن الموسوي، الى جانب سرگون بولص، وعمران القيسي، ونشر طهمازي قصيدته ( سلاطين الجحيم)، في أحد أعدادها، وكانت القصيدة الظهور الشعري الأول والمهم لطهمازي، قبل قصيدته (الحسين).
واثناء ذلك صدرت جريدة النصر التي تحولت الى ملتقى مهم للمثقفين: عمل فيها نخبة من الكتاب والشعراء والفنانين: الكاتب جليل العطية الذي برز اسمه من خلال عموده اليومي (كتابات جهين)، الى جانبه عارف علوان، مؤيد الراوي، جعفر ياسين: قيس السامرائي، ابراهيم زاير، ويشارك في التحرير جعفر علي استاذ السينما في معهد الفنون الجميلة. والعلامة الأبرز والأهم من بين المجلات كانت (العاملون في النفط) التي أشرف عليها الروائي والمترجم جبرا ابراهيم جبرا، اذ فتح الباب للكتاب الشباب وكذلك التشكيليين في نشر نتاجاتهم بمكافآت مجزية.
ثم أقدمت السلطة في محاولة منها لاحتواء الكتّاب والصحفيين، تحت ذريعة التعيين كموظفين في الحكومة، فاصدرت قرارًا بايقاف تلك الصحف، عام 1967 لتدشين مرحلة جديدة في تحويل الاعلام الى أداة بيد الحكومة، وتقييد حرية الصحافة. وكان للقرار آثاره السيئة على الثقافة والأداء الصحفي معاً، دفع الكثير من ابناء ذلك الجيل الى ترك العمل، ومغادرة الوطن نهائياً حين ضاقت فسحة الحرية.
***
د. جمال العتّابي