شهادات ومذكرات
جمال العتّابي: هادي الحمداني.. ثراء الشاعر والأكاديمي
مرآة الذاكرة لا تحتفظ بالملامح الدقيقة للوجوه الغائبة، انها قد تمنح فقط الزوايا الأكثر وضوحاً، استرجاع الاشياء والاحداث تفتقد الى الدقّة بعض الشيء، إلا أن اللقاء بذلك الاستاذ الوسيم الذي دخل قاعة الدرس، ثم اعتلى المنصة بشيء من البساطة والعفوية، لا أنساه مطلقاً.
كانت البداية أوائل تشرين من عام 1964، منذ خطواتنا الأولى في الدراسة الجامعية، نحن طلبة المرحلة الاولى في كلية التربية بإرثها العلمي والادبي، امتداداً لأهم صرح اكاديمي، تأسس في العهد الملكي، هو دار المعلمين العالية، ها نحن أمام الدكتور هادي الحمداني، يشد انتباهنا، نصغي اليه بشوق في محاضرة عن الادب العربي، كانت فرصة له في التعرف على اهتمامات الطلبة، بأسئلة هادئة، وديعة، غمرنا شعور من المحبة والألفة لم نعتدها في حياتنا الدراسية السابقة، لقد هجسنا منذ تلك اللحظة أن طاقة غير اعتيادية تتفجر بين جوانحه، وان مظهره الخارجي الذي يوحي باهتمام بالغ، يخفي ثراءً واضحاً بموهبة متميزة.
بمرور الأيام نمت العلاقة واتسعت، لتتحول فيما بعد الى صداقات مع أولئك الطلبة الذين أظهروا ميلاً نحو الشعر والأدب عامة، كنت حينذاك من هؤلاء الذين حظوا برعايته وتوجيهه، تعلمنا من تواضعه وعلميته، كان داخله عدتّه وكلماته، أسمعني من كلمات الاعجاب وهو يستمع مع زملائي في الصف أثناء قراءتي لقطعة نثرية تميزت ببساطة لغتها وموضوعها، أذهلني شوقه وتعلقه بمدينة طفولته وصباه، وشبابه (الشطرة)، حين كنت أصف رحلتي لها عبر نهر الغراف.
قادتني هذه الذكرى لأستعيد مجداً علمياً وأكاديمياً شيده كبار مثقفي ومفكري وعلماء العراق، طواه الزمن، وعلاه الغبار، لأننا لانقيم اعتباراً لأساتذتنا ورموزنا،
للحمداني اهتمامات عديدة الجوانب، فهو المعلم والاستاذ والشاعر والخطاط والرسام، تنوعت مساهماته الثقافية، واتسعت دائرة معارفه، فأصبح اسمه من بين الاعلام العراقيين في ميدان اللغة والأدب والشعر، على الرغم من قلة انتاجه المنشور، إذ أعطى الدرس اهتمامه الأول، فكان نموذجاً متوهجاً ينير عقول طلبته بالمعرفة، ويثير زملاءه للاقتداء الجميل، والحذو المثابر، في التمكن من أدواته، بلغة شفافة جميلة، وصوت عذب.
ومثلما عرفه زملاؤه وطلابه عالماً جليلاً في تخصصه الأكاديمي، فقد عرفه الكثيرون شاعراً وخطاطاً، مازلت أحتفظ حتى هذه اللحظة بديوانه الشعري (ديوان الحمداني)، الذي ذيله لي بتوقيعه - وانا طالب انهل من علمه وادبه - بخطه الجميل الذي اعتز به غاية الاعتزاز. كما أعتز بأول طبعة لكراسة قواعد الخط العربي للخطاط هاشم محمد البغدادي، أهداني إياها، وهي موقعة من قبله.
بدأ الراحل الحمداني مسيرته معلماً في مدارس الشطرة، انتقل بعدها ليكمل دراسته الجامعية الأولى في دار المعلمين العالية في خمسينات القرن الماضي، ومن ثم الانتقال الى مانجستر البريطانية، ليكمل في معاهدها، دراسته العليا، ولشدة تأثره بالشاعر أبي فراس الحمداني، كانت رسالته للدكتوراه في شعر ابي فراس، ومن الطريف ان ديوان هادي الاول كان بعنوان (ديوان الحمداني)، وسمّى ابنه البكر (فراس)، فعرف هادي الحمداني أيضاً باسم ابي فراس الحمداني.
في قراءة سريعة لقصائده، نلمس بوضوح شدة حماسه للشعر العربي العمودي، ودفاعه عنه، غير ميّال للقصيدة الحديثة، واتجاهات التجديد فيها، على الرغم من انه عاصر جيلاً بدأ يكتب الشعر، متأثراً بهذه الاتجاهات. وتأخذ الأخوانيات مساحة واسعة من أغراض الشعر التي كتب فيها، إذ نكتشف عمق الصداقات النبيلة التي عاشها الحمداني، وتفجرت في قلبه بأصدق المشاعر، واسمى العواطف، وهي مقياس صادق لمبلغ الوفاء لأصدقائه.
كانت الاخوانيات بالنسبة له مرتكزا اساساً في حياته وشعره، لما ينطوي عليه من دلالات فكرية وأخلاقية، فضلاً عن أبعاده النفسية والحسية، فهو يدافع من خلال هذا المرتكز عن نفسه شاعراً، وعن محفزات الأخوّة في تفجير قدراته الشعرية.
أستاذي الحمداني...
لا أريد أن أرثيك، لكن هل يتسنى لي أن أردّ بعض الدين..؟؟ كنت مثل جميع الذين سبحوا في بحر المعرفة، لا يملكون سوى مجاذيف الحكمة والأمل، مضيت بعيداً في ارهاق قلبك، كنت جمالياً ذواقاً، تستثيرك الصورة الرائعة، وجمال الوجوه والعينين، وعذوبة الشعر.
أسفاً يوسدك الثرى!
***
جمال العتّابي