شهادات ومذكرات
طه جزّاع: كفاح الأمين.. حامل صندوق العجائب
أنفق الضابط الإنكليزي فيلكس جونز سبع سنوات من حياته في منتصف القرن التاسع عشر لوضع خارطة إدارية اقتصادية اجتماعية لبغداد ومحلاتها وأزقتها وشوارعها، احتوت على تقسيمات وحدود إدارية دقيقة وواضحة للمحلات البغدادية، كما تضمنت مسميات لتلك المحلات بقيت مستخدمة إلى يومنا هذا على الرغم من الطبيعة الاستخبارية لعمله الذي ترك بصماته حتى في تسمية بعض الجوامع والمقاهي البغدادية والأحياء الشعبية.
وبعد أكثر من قرن ونصف على خارطة جونز يتولى كفاح الأمين المولود في محلة باب الشيخ عام 1954 مهمة توثيق معالم الخارطة بالصور الفوتوغرافية، سيما وأنه وجد بعد العام 2003 أن الكثير منها قد اندثر، أو أنه في طريقه إلى الاندثار بسبب تعاقب الأيام والحوادث، أو بسبب التوسع العمراني العشوائي الذي سلب روح تلك المحلات وشوه هويتها البغدادية الأصيلة، فسارع إلى حمل كاميرته الاحترافية ليتتبع خطوات جونز ميدانياً، وبعد عامين من الجهد والتنقل والتجوال خرج بحصيلة كبيرة من آلاف الصور في محلات الكرخ والرصافة هي أشبه بدراسة فوتوغرافية أنثروبولوجية لكافة محلات بغداد القديمة وعمارتها وجوامعها وشوارعها وناسها. عوضاً عن ذلك فقد أنجز كتابه الفخم «يوميات بغدادية» الذي صدر في تسعة مجلدات لمناسبة مرور مائة عام على تأسيس الدولة العراقية، وبمجموع 1800 صفحة تحكي بالوثائق والصور حكاية بغداد بمنهجية كرنولوجية تعتمد تعاقب الأزمان وتحديد مددها وتسلسل حوادثها، فالمجلد الأول اختص بعشرينيات القرن الماضي فقط، أما المجلد الثاني فهو عن سنوات الثلاثينيات، وهكذا، وفي كل مجلد نجد كل ما يتعلق بمدينة بغداد من أحداث سياسية واجتماعية مهمة، وفنون وصحافة وسينما ومسرح ورياضة وطرائف وظرائف، فضلاً عن مشاهير التشكيليين والمصورين ومطربي المقامات.
عدا عن ذلك، فإن الكاتب والمصور والموثق كفاح الأمين يمتلك خزيناً من الوثائق والصور والصحف القديمة التي يمكن أن تكون نواة ممتازة لتأسيس المتحف الفوتوغرافي والوثائقي العراقي، مثلما يفكر بذلك ويتمنى أن يتحقق قريباً، ووثائقه وصوره تحاكي التاريخ الاجتماعي العراقي العام والبغدادي بشكل خاص، مما يوفر له فرصة قراءة مجتمعية معمقة وواقعية للمشهد العراقي في مائة عام بما فيه من مفارقات ومضحكات ومبكيات، ومنها تلك الوثيقة التي تؤكد أن الاقصاء والاجتثات والتطهير هو ديدن التفكير السياسي في العراق منذ عقود بعيدة، ففي أمر إداري صادر عن مديرية معارف لواء بغداد بتاريخ 26 آب 1958 أي بعد شهر ونصف من 14 تموز، يتم تأليف لجنة خاصة برئاسة مدير المعارف آنذاك لدراسة ملفات المعلمين والمعلمات الذين هم على الملاك الابتدائي المحلي للنظر في إقصاء من ترى اللجنة إقصاءه، تنفيذاً لقانون تطهير الجهاز الحكومي الذي أقره مجلس السيادة والذي ينص على اقصاء كل موظف لمدة خمس سنوات، أو احالته على التقاعد إذا تبين أن بقاءه في الخدمة مضر بالمصلحة العامة!. ومن مفارقات السياسة العراقية المؤيدة بالوثائق أن عبد الكريم قاسم قد أزاح الشيوعيين عن الحكم والمناصب بعد محاولة اغتياله، وأعاد الضباط البعثيين والقوميين أمثال حردان التكريتي وعارف عبد الرزاق وسعيد صليبي إلى الجيش والطيران، وهم الذين انقلبوا عليه في 8 شباط عام 1963!، أما عبد السلام عارف الذي كان في زيارة لمدينة الناصرية فإن جريدة الزمان الصادرة في 12 آب عام 1958 تنشر بالبنط العريض تصريحه الذي يقول فيه «سأموت في سبيل عبد الكريم قاسم»!. وتنشر جريدة الجمهورية في 12 أيلول 1958 لقاءً مع فؤاد الركابي، وهو أول أمين سر للقيادة القطرية لحزب البعث في العراق، لكن بصفته قائداً في المقاومة الشعبية التي طالب بتشكيلها الحزب الشيوعي العراقي!. وماذا عندك بعد أيها الأمين من كنوز وثائقية غير هذه المفارقات العجيبة الغريبة في السياسة العراقية؟. في عددها الصادر بتاريخ الخامس والعشرين من نيسان 1961 تلتقي جريدة الزمان بالدكتور عبد الجبار عبد الله رئيس جامعة بغداد بعد عودته من نيويورك معرباً عن أمله في افتتاح أول فرع لتدريس الصحافة في الجامعة خلال السنة الدراسية القادمة: « أثناء وجودي في نيويورك اتصلت بقسم الصحافة في جامعة نيويورك، وهو قسم مشهور بأنه من أقوى الأقسام التي تغذي الصحافيين في أمريكا، ودعوت رئيس القسم إلى المجيء إلى بغداد، أما هو شخصياً أو انتداب أحد الأساتذة الذين يختارهم بنفسه لأجل وضع منهاج وخطة كاملة لتأسيس قسم الصحافة في كلية الآداب. وما أزال انتظر أن تتم الموافقة النهائية على استقدام هذا الخبير، فإذا تمت خلال العطلة فمعنى ذلك اننا سنبدأ بتدريس الصحافة في العام القادم».
يحمل كفاح الأمين، ابن محلة باب الشيخ التي يصفها بأنها جوهرة بغداد وتنوعها الثري، شهادة الماجستير من كلية الصحافة بجامعة موسكو، لكنه يحمل معه دائماً الأهم من ذلك كله، صندوقا خشبيا عتيقا أشبه بصندوق العجائب السحري، يحتوي على وريقات صفر، وصور فوتوغرافية بأحجام صغيرة، وبعض الإطارات والدبابيس والقراصات التي قد يحتاجها في ربط وثائقه وهو خارج البيت، بانتظار أن يتحقق حلمه الكبير في إنشاء متحفه الذي سيعرض من ضمن مقتنياته الكثيرة، صور خارطة فيلكس جونز، وصور كتاب «يوميات بغدادية» بأحجامها الطبيعية، التي أنجزها بجهود فردية، وبرؤية فنية وجمالية ولونية رائعة، تعكس حبه لمسقط رأسه، ومحط هواه.
***
د. طه جزّاع - العراق