شهادات ومذكرات
طه جزاع: الخيّام ومعلوف والنجفي
في أعماق الصفحات المنسيَّة من التاريخ، تكمنُ الكثيرُ من المفارقات والمصادفات، والأسرار الغامضة التي تمثل المعين الذي لا ينضب للخيال الخلّاق، مثل ذلك الخيال المُبهِر للروائي الفرنسي من أصلٍ لبناني أمين معلوف الذي أُنتخب قبل أشهرٍ قليلة ليشغل منصب الأمين العام للأكاديميَّة الفرنسيَّة مدى الحياة. وتكمن عبقريَّة معلوف الذي يكتب باللغة الفرنسيَّة، في استلهامه تاريخاً حقيقياً لا أسطورياً، وفي ربطه بين أحداثٍ تبدو متفرقة للوهلة الأولى لا يجمعها جامع، لكنَّه يخلق منها نسيجاً روائياً مدهشاً، كما فعل في رواياته: ليون الأفريقي، والحروب الصليبيَّة، أو في حدائق النور عن شخصيَّة وأفكار ماني مؤسس المانويَّة، أو صخرة طانيوس التي تروي قصة الصراع العثماني الإنكليزي المصري للسيطرة على جبل لبنان. صحيح أنَّه يصنع خيالاً تاريخياً مشوقاً استحقَّ معه أرفع الجوائز والأوسمة كجائزة غونكور الأدبيَّة الفرنسيَّة ووسام الاستحقاق الوطني الفرنسي ووسام الأرز اللبناني، لكنَّ براعته تكمنُ في أنَّه يستلهمُ التاريخَ بلا تشويه ولا تحوير ولا مبالغة، فهو يكتب التاريخ بطريقة روائيَّة عمادها الواقع التاريخي، والخيال الروائي الفذ، والربط بين الأحداث والشخصيات ببراعة وإقناعٍ ومهارة فائقة. وفي روايته "سمرقند" على سبيل المثال فإنَّه يستهلها بحادثة غرق الباخرة تايتانيك في أعماق المحيط الأطلسي عام 1912 وهي حادثة معروفة طالما تناولتها الصحف والمجلات والتقارير الوثائقيَّة والأفلام السينمائيَّة، لكنَّه بخيالٍ فذٍ يلتقطُ منها المعلومة الخاصَّة بغرق نسخة فريدة من رباعيات عمر الخيام، لينفذ منها إلى أحداثٍ تاريخيَّة تجمع ثلاث شخصيات مثيرة للحيرة والجدل، عاشوا في زمنٍ واحدٍ ببلاد فارس هم عمر الخيّام الشاعر والفلكي والفيلسوف النيسابوري، وحسن الصباح مؤسس وزعيم جماعة الحشاشين في قلعة آلموت، ونظام الملك أشهر وزراء السلاجقة، وكلٌ من هذه الشخصيات التاريخيَّة الواقعيَّة أسطورة لوحدها.
هناك العديد من الأخبار والروايات حول هذه المخطوطة الكنز "مخطوطة سمرقند" التي غرقت مع تايتانيك، لكنَّها جميعاً تتفق على أنَّ غرق السفينة ما هو إلا غرق ماسة صغيرة، قياساً لمنجمٍ من الماس، تمثله مخطوطة الخيّام، تلك التي أعاد معلوف ذكراها إلى الأذهان في روايته التي اعتمد معربها من الفرنسيَّة على ترجمة أحمد الصافي النجفي لرباعيات الخيّام، من بين ترجمات عديدة أبرزها ترجمة جميل صدقي الزهاوي، واللبناني وديع البستاني، والشاعر المصري أحمد رامي التي غنتها أم كلثوم مطلع الخمسينيات بألحان رياض السنباطي.
وتبقى حوادث التاريخ متاحة أمام جميع الروائيين بلا استثناء، لكن بعض التاريخ تصنعه خيالات الروائيين الكبار، وحدهم.
***
د. طه جزاع