ثقافة صحية
بهجت عباس: إعادة كتابة الحياة؟
وهذا يعني إحداث تغيير في الجينوم (المواد الجينيّة في الخليّة) باستعمال CRISPR* (تقنية كتابة الجين) تقتضي (اقتطاع) جزء معيّن من الدنا لتصليح خطأ جينيّ فيها يغيّر طبيعة عملها. هذه التقنية لا تزال في أوائلها ولكنّها تتقدم بسرعة. كانت رائدتها جينيفر داودنا التي نالت وزميلتها إيمانوئيلا شاربنتيـر جائوة نوبل عام 2020 . وهذه المقالة تشرح بإيجاز طبيعة هذه العملية ووصفاً لبعض التطورات فيها.
الشَّفرة الجينية Genetic code
تتكوّن الدنا DNA من أربع قواعد نتروجينيّة متكررة يُرمز لها كحروف هي A T C G - أدنين، ثايمين، سايتوزين وگوانين. أمّا الشَّفرة الجينيّة فتتكوّن من ثلاثة حروف فقط. تختص كل شَفرة بحامض أميني واحد وإنّ البروتين هو سلسلة الحوامض الأمينية. هذه الشّفرات تكون مرتبطة ببعضها وإنّ أيّ تغيرّ في قواعدها النتروجينة، مثلاً، إحلال قاعدة محل أخرى قد يؤثّر على الجين ومن ثَمَّ على البروتين المنتَج. توجد 64 شفرة جينيّة في الخليّة، 61 منها تدوّن الحوامض الأمينية العشرين وثلاثة تسمّى بالكودونات المُوقِـفة التي تُنهي تكوين سلسلة البروتين. ففي الخليّة توجد الدنا التي تُستنسَخ إلى الرنا الرسول mRNA (ولكن بدلاً من الثايمين T في الدنا يكون يوراسيل U في الرنا) والشفرات (الكودونات) الأربع والستّون الموجودة فيها تُحلّ رموزها (تُفكّك) إلى ترجمة البروتين الذي سيتكوّن من 20 حامضاً أمينيّاً طبيعيّاً، يعني دنا – رنا – بروتين. وهذا هو المبدأ الرئيس للبيولوجي الجزيئي.
إعادة برمجة (كتابة) الشّفرة الجينيّة
هناك ما يُعرف بالإضافة أو الزيادة Redundancy ، ذلك أنّ عدة شفرات جينيّة (كودونات) تشفّـر نوعاً واحداً من الحوامض الأمينية، مثلاً هذه الكودونات الأربعة TCG, TCA, AGC و AGT تدوّن الحامض الأميني سيرين serine)) ولكنْ ماذا سيحدث لو (تلاعبنا) بتغيير هذه الحروف أي أننا بدلاً من G وضعنا C في هذا الكودون، فهل سينتج هذا الكودون الجديد (المتغيّر) حامضاً أمينيّاً جديدا وهذا سيكوّن بروتيناً (جديداً) بدلاً من البروتين العادي، مما يؤدي إلى تغيّر الفعالية ومن ثمّ تأثير هذا التغيير على الجسم ؟ وهذا يعني أن كودونات جديدة أخرى ستتكوّن. قد يكون هذا التغيير جميلاً ولكنه ليس سهلاً. وبالرغم من هذا فقد بدأ فريق من جامعة كمبريدج – إنجلترا برئاسة البروفيسور جيسون چِـنْ بتبديل كل كودون في الخليّة لإعادة برمجته. وبعد سنوات من عملهم أظهروا بأنّ هذا العمل ممكن في جرثومة )إي. كولاي E. coli) وفي الوقت ذاته قاموا بقفزة عالية جداً حيث صنعوا جينوم هذه الجرثومة من الصفر! كما وغيّروا تركيب الكودونات، مثلاً أزاحوا الكودونات TCGs ووضعوا AGCs مكانها وحتّى بهذا التغيير أخذت الخلية تتكاثر بسهولة! وهذا كمن يبدل كلمة من كتاب ويضع رديفاً لها فلا يتغير المعنى. قام هذا الفريق بعملية (إعادة كتابة الجينوم) باستعمال CRISPR (تتكوّن من رنا وإنزيم تقطع الدنا) فقصّوا (أزاحوا) قطعة كبيرة من جينوم جرثومة )إي. كولاي E. coli ) تتكوّن من 18,000 كودون (زائد) يشفّـر الحامض الأميني سيرين وأحلوا بدلاً عنها كودونات (مترادفة) فأخذت الخليّة (البكتريا) تتكاثر كالعادة وتشفّـر السيرين دون حاجة إلى تلك الكودونات الزائدة التي كانت تحتوي عليها. وقام الفريق أيضاً بـ(هندسة) الرنا الناقلة tRNA ( تنقل الحامض الأميني إلى موضع تكوين البروتين) لـ(تقرأ) الكودونات الجديدة فأخذت هذه البكتريا (المُهندَسة جينيّاً) تتكاثر بسرعة، وصارت عصيّة على الفيروسات، فهذه الأخيرة لم تستطع النفاذ إليها لأنّها لم تجد (مقبض) الباب لتفتح الخليّة وتصيبها، فالشفرة الجينيّة تغيّرت! وهنا يعلّق د. جيسون چِـنْ قائلاً " هذه البكتريا قد تتحوّل إلى مصانع جديدة مُبرمجة تنتج جزيئات جديدة بخواصّ جديدة فتكون ذات فائدة في التقنية البيولوجية والطب، حيث تنتج عقاقير جديدة ومُضادت حيويّة جديدة " يتساءل الدكتور جيسون چِـنْ " هل تستطيع أن تختزل عدد الكودونات التي تشفّـر حامضاً أمينياً معيّنا لتخلق كودونات طليقة تشفّـر حوامض أمينيّة أخرى؟ " مثلاً ، (إذا كان الكودون TCG لحامض السيرين ، لماذا لا "نحرر" TCA و وAGC و AGT لأغراض أخرى؟) يقول د. جيسون چَـن " هذا ممكن، قد يكون ممكناً أيضاً أن نعيد (كتابة) الحياة بصورة عامة، حيث تعمل الخلايا بنفس الوتيرة البيولوجية بتغيير الشفرة الجينيّة لصنع حوامض أمينيّة أخرى ومن ثمّ بروتين مصنّع" ومن هذا المنطلق يعمل الباحثون على الكائنات متعددة الخلايا وخصوصاً اللبونة منها، إن كان ثمة سبيل إلى تطبيقها كما طُبِّقت على البكتريا، وحيدة الخلية.
د. بهجت عباس
........................
* لمعرفة المزيد عن هذه التقنية يرجى النقر على الرابط
بهجت عباس: تحرير الجينوم.. جراحة جينيّة لأمراض عصيّة https://www.almothaqaf.com/a/b7/955723