أوركسترا
عدنان حسين أحمد: الساعة 1800.. قصور الكلام وبلاغة الصورة البصرية
بعد النجاح المبكر الذي حقّقه المخرج هادي ماهود في أول أفلامه الروائية القصيرة "بائع الطيور" وحصول الفيلم على جائزتيّ أفضل مخرج، وأفضل تمثيل أُسندت إلى حيدر أحمد الذي كان صبيًا في حينه. وبعد أن وضع اللمسات الأخيرة على فيلمه الوثائقي "الفاتحون مرّوا من هنا" شعر هادي بأنه يقف على أرضٍ صُلبة تُغريه بالتقدّم إلى أمام بثقة كبيرة وهو في سن اليفاعة والشباب، خصوصًا وأنّ بعض أقرانه كانوا يمازحونه ويلقبّونه بـ "فلّيني العراق" وينتظرون منه ليس الأفلام الروائية والوثائقية القصيرة التي دأب عليها وإنما يترقّبون فيلمه الروائي الطويل الأول الذي لم يرَ النور بسبب قلّة التمويل التي سترافقه لسنواتٍ طوالا. فلا غرابة أن يندفع بحماس كبير لإنجاز فيلمه الروائي القصير الثالث "الساعة 1800" المُستوحى من قصة لجبار رحيم، وسيناريو أعدّهُ ناجي كاشي، وهي قصة واقعية حدثت فعلًا في إحدى المعارك التي كانت تدور رُحاها بين القوات العراقية والإيرانية وتناقلتها وسائل الإعلام العراقية على وجه التحديد حيث سقطت إحدى المروحيات العراقية في أثناء تأديتها للواجب في الأراضي الإيرانية وأُصيب مساعد الطيّار بجرح بليغ في ساقة اليسرى لكن ذلك لم يمنع زميله الطيّار من حَمْله والعودة به صوب الأراضي العراقية. الأمر الذي دفع صدام حسين إلى تكريمهما وإحاطة هذه الواقعة بهالة من الشجاعة والإقدام والبطولة خاصة وأنّ الطيّارين وبعض الصنوف المعروفة في الجيش العراقي هم من البعثيين تحديدًا ويصعب أن تجد بينهم مُنتسبًا معارضًا للنظام إلّا في حالات استثنائية نادرة جدًا. وقد اعتاش البعث على تهويل الأحداث الصغيرة وتحويلها إلى مآثر كبيرة سرعان ما تنطفئ جذوتها ويخبو وهجها الزائف الذي صنعتهُ مُخيلة النظام المريضة.
لا شكّ في أنّ المخرج هادي ماهود كان يمتلك نَفَسًا مُعارضًا لنظام البعث، وربما يعرف بعض أصدقائه الخُلّص هذه النزعة المُعارضة التي كان يضمرها الكثير من العراقيين سواء أكانوا مثقفين أو من عامة الناس لكنهم كانوا يتفادون التعبير عنها أو الإجهار بها أمام الملأ. وربما يُعتبر هذا الموقف "صحوة مبكرة" كما أشار إليها ماهود في كتابه الموسوم "أفلامي" الذي ينطوي على جوانب من مواقفه، وأفلامه، والحوارات الصحفية التي أدلى بها منذ إنجاز فيلم "بائع الطيور" سنة 1979م حتى خروجه من العراق سنة 1991م، وانغماسه في العمل الثقافي ضمن أسرة "إذاعة صوت الشعب العراقي" المعارضة التي تبث من مدينة "جدة". ولعل بذور هذه المعارضة قد انصبّت ضد الحرب أولًا ثم عمّقتها مُصادرة حقوق الإنسان، وقمع حرية الرأي والتعبير وما إلى ذلك. فالحرب لا تفضي إلّا إلى القتل والدمار والتخريب الذي يشمل الإنسان قبل أن يطال الطبيعة والاقتصاد ثم يخنق الحياة برمتها رويدًا رويدا. قد لا ينطوي حَمْل الطيار لمساعده الجريح على إساءة أو إشارة تحمّل صاحبها أكثر مما ينبغي فهي حالة طبيعية في المعارك التي يغيب فيها الجنود كما هو الحال مع هذين الطيّارَين في هذا الفيلم، فالرائد محمود مُضطر لحمل زميله وإلّا فسوف يتركه نهبًا للموت. ورغم أنه حَملهُ لمسافة طويلة إلّا أنّ هذا الأخير احتضر وفارق الحياة. والموت نتيجة طبيعية للحرب التي وقف المخرج ضدّها وضدّ مُشعليها في كل مكان.
هواجس كبيرة بلغة متقشّفة
ما يلفت الانتباه في هذا الفيلم هو المعالجة الذكيّة للسيناريو المتقشف الذي قال أشياء كثيرة من دون الاعتماد على الحوار أو الكلمة المنطوقة، ولعل رهانه الفكري والبصري كان قائمًا على الصورة التي قالت كل شيء وعبّرت عمّا يجول في بال السينارست والمخرج من رؤى وأفكار تحريضية حذرة لا تضعه على مقربة من أنشوطة الموت. ورغم أنّ الخطاب الإعلامي البعثي كان يراهن على ترويج بعض المُثل والقيم الأخلاقية التي تستمد مادتها من القرآن الكريم من قبيل "أنّ الشهداء أحياء عند ربهم يُرزقون" أو من غير القرآن مثل "أننا لم نكن طلّاب حرب وإنما دُعاة سلام" أو "أنّ المعركة التي نخوضها عادلة جدًا فلا لوم ولا تثريب علينا" إلى آخر هذه الأطاريح التي تبرّر الحرب وتسوّغها أمام الرأي المحلي والعالمي على حدٍ سواء. وعلى وفق هذه التصورات التي لم يسلم بعضها من الجانب الغيبي فقد أخذ الرائد الطيّار محمود الذي جسّد شخصيته "ناجي كاشي" يتخيّل أنّ هناك ملائكة تهبط من السماء لترفع مساعده أحمد الذي أدى دوره "فاضل صبّار" على اعتبار أنّ الشهداء يرتقون إلى السماء في حال استشهادهم لقضية عادلة. تُرى، هل كان المخرج يُلمِّح من طرف خفي أم يصرّح بالفم الملآن، وأنّ ما يراه الطيار الذي سقط في منطقة معادية هو حقيقة دامغه أم حلم يقظة انبثق من هواجس وأحاسيس وهمية مشوّشة؟
ثمة شخصية ثالثة في الفيلم تعلب دور الجندي في مقر القيادة جسّدها "علي قادر" الذي أخبر الوحدات العسكرية في الساتر الأمامي الذي وقعت أمامه المروحية العراقية التي تحمل الرائد الطيار ومساعده واحتمال اقترابهم من الخطوط الأمامية لإتخاذ ما يلزم لإنقاذهم، وسوف يكرر الإتصال لمعرفة المعلومات المُستجدة عنهما. وبالتوازي مع حضور الرائد الطيار نرى صورًا عائلية لزوجته ولابنه وهو يحتفل بعيد ميلاده بينما يهيم والده ويتخبط في الأرض الحرام المزروعة بحقول الألغام، ومصائد المغفلين، والمواضع العسكرية المهجورة والمُوحشة. وبما أنّ الرائد الطيّار يُصاب بالإعياء الشديد جرّاء التعب والإرهاق والعطش فلا غرابة أن يسقط فيما يشبه الغيبوبة فيتخيّل جمجمة مخيفة محترقة يتصاعد منها الدخان الذي يختلط مع دخان منزله أو هكذا يتصور فيخرج طفله مذعورًا من الخوف والهلع. وهذا ما يريد أن يفصح عنه المخرج بالضبط وإن جاءت المعالجة بطريقة مغايرة لكنها تقول في خاتمة المطاف أن الحرب لا تسفر إلّا عن الموت، والخراب، وألسنة اللهب التي تلتهم كل شيء بما فيها الجماجم البشرية التي تُخيف الناظرين وتُذكِّرهم بفكرة الموت التي تقشعر لها الأبدان.
تلميحات مُبطّنة ترفض الحرب
يفارق الطيّار المساعد الحياه فيدفنه زميله "وديعة" على أمل العودة إليه ومحاولة إخلاء جثمانة ثانية حيث يحفر له قبرًا مؤقتًا بالحربة العسكرية التي يحملها معه، ويعلّم القبر ببعض الأحجار الكبيرة، وحينما يتجه صوب الوحدة العسكرية العراقية يلمح دورية صديقة خرجت للبحث عنهما في الأرض الحرام وتصله في الوقت المناسب قبل أن يتلقفه الموت عطشًا وإعياءً، فيقوم أفراد الدورية بنقل جثة الشهيد، وانقاذ الطيّار محمود وإيصاله إلى أرض الوطن بأمان. قد يكون هذا الوعي المعارض مُتقدمًا عند المخرج هادي ماهود، فحينما صوّر هذا الفيلم الروائي الذي يتكئ على قصة واقعية كانت الحرب قد تجاوزت عامها الأول بالكاد وأنّ دكتاتورية صدام لم تتضح معالمها بعد، وكلنا يتذكّر كلمة تنصيبه التي قال فيها: "سأكون رجلًا بين الرجال، وليس الرجل الأوحد" بينما كان يخطط بصمت وسريّة تامة لأن يكون الرجل الأول والسيف الوحيد في بلاد الرافدين. لقد حاول هادي ماهود في هذا الفيلم وفي أفلام أخرى لاحقة من بينها "سائق الإسعاف" أن يركز على الجوانب الإنسانية أكثر من تركيزه على وحشية الحرب وفظائعها المعروفة ولعل هذه المعالجة المُرهفة وما تنطوي عليه من أفكار وتلميحات مبطنة ترفض الحرب هي التي منحت أفلام هادي ماهود مصداقيته وقرّبت المتلقين من مضامينه الحساسة التي لا تخلو من المخاطر والتحديات. ومثلما نجح المخرج في ملامسة مشاعر الناس وأحاسيسهم في هذا الفيلم المُرصّع ببعض الرموز والكنايات الدالة فإنه سينجح في أفلام أخرى تسير على وفق هذا النهج المغامر الذي لا يخلو من المجازفة، والتهوّر، ودسّ اليد المكشوفة في عش الدبابير.
***
عدنان حسين أحمد – كاتب وناقد