أوركسترا

عدنان حسين أحمد: الأهوار.. شرايين الحياة التي تُعيد للعراق بهجتهُ المفقودة

يكشف فيلم "الأهوار" للمخرجة إيمان خضيّر عن قدرتها في البحث عن المعلومة الرصينة التي تعزّز قصتها السينمائية ولا تسمح لها بالتشظّي والانشطار اللذين لا يخدمان الثيمة الرئيسة التي تريد إيصالها إلى المتلقّي العضوي الذي يبحث عن زبدة الكلام وعُصارته ولا يفضّل الانغماس بالثرثرة السردية أو البصَرية التي قد تضرّ أكثر مما تنفع في بعض الأحايين.

لا تُفْرط إيمان خضيّر في استعمال التعليق الصوتي في هذا الفيلم الوثائقي القصير الذي لا تجتز مدته السبع دقائق فهو أقرب إلى أفلام الومضة أو اللحظة التنويرية التي تعتمد على الأسلوب البرقي المُقتَضب الذي لا يُراهن على الترهلات اللغوية التي تُثقل كاهل النص البصَري أو تعيق تدفقه وانسيابه في أضعف الأحوال.925 Marshes

لجأت إيمان خضيّر إلى تعليقين صوتيين فقط قالت فيهما أشياء كثيرة دالّة تفي بالغرض المطلوب. ولو تأملنا التعليق الأول القائم على معلومة موّثقة وليس كلامًا عابرًا فسنجد فيه خلاصة مُشذّبة هي أقرب إلى "عسل الكلام" تقول فيها: "على هذه المسطحات المائية يعيش عرب الأهوار منذ آلاف السنين وهم خليط من أصول متعددة سومرية وبابلية ومهاجرين من بلدان حدودية. وتبلغ مساحة الأهوار من 2 إلى 3%  من المساحة الكليّة للعراق، وعدد السكّان 63,184 ألف نسمة حسب تقرير وزارة الموارد المائية العراقية لعام 2007 لكنّ هذا العدد تقلّص لأسباب سياسية أو اقتصادية أو بيئية". وهذا التعليق المُقتضَب يُعطينا فكرة شافية ووافية عن الزمان والمكان والتعداد السكاني وأسباب انحساره وتقلّصه إلى هذا الحدّ اللافت للانتباه.923 Marshes

اختارت المخرجة وكاتبة السيناريو إيمان خضيّر خمسة متحدثين لا غير اختصروا "محنة الأهوار" من وجهة نظرهم ولعل اختيارها لاثنتين من ربّات البيوت هو الذي منح هذا الفيلم المشذّب مصداقيته الكبيرة، فنساء من هذا النوع صريحات وصادقات يقُلنَ الحقيقة من دون تزويق أو محسنّات لفظية. تقول أم عبّاس: "جواميسها ماتت، وهي مصدر رزقها الوحيد، وقد تعرضّت للمهانة لأنها تعتمد على ما تدرّه هذه الحيوانات التي نفقَ بعضها ولم يبقَ لديها سوى عشر جواميس، فهي مثل الآخرين من سكّان الأهوار ليس لديها راتب تعيل به عددًا كبيرًا من البنات فلا غرابة أن تشتري الحليب من أماكن أخرى وتصنع منه الجبن الذي تبيعه في منطقة الجبايش".924 Marshes

لا تختلف أم جاسم عن سابقتها كثيرًا فهي الأخرى ربّة بيت خسرت 28 جاموسة ولم يبق لديها سوى 30 جاموسة تكلّفها الكثير من الأموال فهي تشكو من ارتفاع أسعار العلف، فكيس "النخالة" الذي كانت تشتريه بـ 6 آلاف قد أصبح سعره الآن بـ 16 ألفًا من الدنانير، وكيس الطحين الذي كانت تشتريه بـ 15 ألفًا قد ارتفع ثمه إلى 40 ألفًا، وهي لا تفرّق بين كلفة البشر وكلفة الحيوانات الأليفة التي لا يمكنها أن تواصل الحياة من دونها خاصة بعد انحسار الطيور ونفوق الثروة السمكية لشحة المياه وانعدامها في الكثير من المضارب التي تشققت أراضيها بفعل التصحّر والجفاف.

يُطل علينا رعد حبيب الأسدي، وهو رئيس منظمة الجبايش للسياحة البيئية ويخبرنا بأنّ الأهوار قد تعرّضت إلى أكبر نكبة في تاريخها الطويل، وبحسب تقديره فإنّ المساحة الكبيرة التي جفّت من الأهوار تصل إلى أكثر من 90%، أمّا مستويات الهجرة فقد بلغت أكثر من 80% من سكّان الأهوار؛ وهما نسبتان مُخيفتان على صعيد الجفاف والهجرة السكّانية.922 Marshesتُشارك السيدة إيمان الأمين، وهي ممثلة شبكة حقّي للمدافعات- نساء ذي قار بمجموعة من الآراء القيّمة من بينها أن تغيّر المناخ وجفاف المياه سوف يسبِّب نزاعات داخلية. وحينما تفقد النساء فرص عملها وتنتقل إلى مناطق أخرى تجهلها لن تعيش الحياة الكريمة التي تتمناها وغالبًا ما تمارس أعمالًا مُمتهِنة لكرامتها، وسوف تكون ضحية للنزاعات التي تخلّف أرامل وأيتامًا نتيجة للضعف الاقتصادي واختفاء الموارد الاقتصادية التي يعتمد عليها سكّان الأهوار برمتهم.

تعود المخرجة بتعليقها الصوتي الثاني والأخير الذي تؤطِّر فيه الكارثة البيئية التي تركت تأثيرها الواضح على حياة العراقيين جميعًا حيث تقول: "تعرّضت الأهوار منذ عام 2019 لموجة من الجفاف ضربت العراق بقوة فتراجع منسوب المياه من مترين إلى أقل من 70 سنتيمترًا؛ أي نحو 25% من المساحة الكلية للأهوار. ويُعدّ العراق خامس الدول الأكثر تضررًا من التغييرات المناخية العالمية على وفق تقرير وزارة البيئة العراقية".926 Marshes

يزرع هذا الفيلم الأمل في نفوس المُشاهدين وكأنّ العُقدة التي بلغت ذروتها في التصحر والجفاف قد وجدت الحل حتى وإن كان ميتافيزيقيًا يتمثل بسقوط كميات كبيرة من الأمطار. فناجي رحيم حسن، رئيس نقابة الصيّادين في هور "الحمّار" يصرّح قائلًا: "الآن دخلت مياه للأهوار وقد عاد الناس الذين رحلوا حينما سمعوا أنّ كمية المياه في الأهوار قد ارتفعت، وأنّ هناك بصيص أمل بعودة الحياة إذا تساقط المطر وحلّت رحمة الله سبحانه وتعالى، وكأنّ المتحدث يوحي بغياب هذه الرحمة الإلهية. فسكّان الأهوار ينتظرون نموّ القصب والحشيش ويترقّبون عودة الطيور والثروة السمكية". ويضيف رئيس النقابة بأن هناك ثلاثة أقضية يعيش سكّانها على الأهوار وهي قضاء الجبايش، وكرمة بن سعيد، وسوق الشيوخ، ويعتبر الأهوار ثروة طبيعية تأتي في المرتبة الثانية بعد الثروة النفطية.

يُطل علينا رعد حبيب الأسدي ثانية ويقدّم لنا ستة مقترحات مدروسة قد تُعيد الأمور إلى نصابها الصحيح وهي كالآتي: "نصب محطات تحلية على طول المنطقة المحيطة بالأهوار، وحفر آبار لهذه المحطات لكي تكون هناك خطة بديلة لموسم الجفاف، وشمول سكّان الأهوار بالرعاية الاجتماعية في موسم الجفاف في الأقل، وتوفير فرص عمل بديلة، ودعم الثروة الحيوانية".927 Marshes

ينتهي الفيلم نهاية مدروسة ومعبّرة جدًا حيث نرى طفلًا يحمل شعارًا مكتوبًا يقول: " الأهوار - شريان العراق". وهذا يعني، من بين ما يعنيه، أنّ العراق ممكن أن يتعرّض إلى سكتة قلبية ما لم ينفتح هذا الشريان بقسطرة أو عملية جراحية كبيرة لا تخلو من مخاطر جدّية إن ظلّ هذا الشريان ضيّقًا أو مُغلقًا على الدوام.

لا يختلف هذا الفيلم رغم قِصره عن فيلم "عاملات الطابوق" للمخرجة نفسها الذي بلغت مدته 44 دقيقة فكلاهما يحذّر من المخاطر الجمّة للبيئة والمناخ والتلوث، والأهم من ذلك هو امتهان كرامة الإنسان، وخاصة المرأة والطفل اللذين يحظيان باهتمام المخرجة الذكية والدؤوبة التي تضع أصبعها على الجُرح دائمًا حيث تنتهك المحرّم، وتخرق المسكوت عنه، وتتحدث بجرأة كبيرة قد لا نجدها عند كثير من المخرجين العراقيين.

أنجزت المخرجة إيمان خضيّر تسعة أفلام حتى الآن وهي على التوالي: "أنيس الصائغ.. حارس الذاكرة الفلسطينية"، "تاريخ طوابع فلسطين"، "الملك فيصل الأول"، "ظل الكونكريت"، "مقاهي بغداد الأدبية"، "عاملات الطابوق"، "صفر"، "جدارية المطر" و "الأهوار".

***

عدنان حسين أحمد

في المثقف اليوم