تقارير وتحقيقات
عدنان حسين أحمد: الصراع بين الدين والعلم
الأول يمتلك الحقيقة المُطلقة والثاني يسعى لاكتشافها
نظّم المقهى الثقافي بلندن ندوة علمية وفكرية للدكتور جواد بشارة انضوت تحت عنوان "الصراع بين العقل العلمي والعقل الخرافي واللاهوتي" وقد قدّمه الكاتب صادق الطائي. استهل الباحث محاضرته بالقول إنّ هذا الصراع موجود في كل زمان ومكان وقد انطلق وتشظّى منذ بداية الوعي الإنساني ومحوره هو الصراع بين الدين الذي يُجيب على كل الأسئلة التي تخطر في بال الكائن البشري وبين العلم الذي لا يدّعي امتلاكه للحقيقة المطلقة وإنما يؤمن بالحقيقة النسبية التي توصّل إليها إلى أن تظهر حقيقة جديدة قد تنسفها أو تغيّر مسارها كليًا. ويرى بشارة أنّ الدين هو الذي يولّد العقل الخرافي بينما يُنتج العلم العقل العلمي الذي لا ترتقي إليه الأكاذيب والشكوك والخزعبلات. إنّ الصراع بين "العلم والدين" هو جوهر وأساس السعي المعرفي للباحث بشارة الذي كرّس له قسمًا كبيرًا من حياته، فهو باحث ومفكر وناقد سينمائي متمكن من أدواته النقدية وقد أصدر العديد من الكتب والأبحاث التي تؤكد صحة ما نذهب إليه على مدى خمسة عقود تقريبًا في الكتابة العلمية والفكرية والسينمائية. وأشار الباحث إلى أنّ من يريد الاستزادة في الجانب العلمي عليه أن يقرأ كتابه الأول الذي يحمل عنوان "الكون أصله ومصيره" الذي صدر بثلاث طبعات بلندن وعمّان وبغداد وآخرها "من الكون المرئي إلى الكون اللانهائي" الذي صدر عن دار "ميزر" بمدينة مالمو السويدية. ويعيد الباحث تأكيده على أنّ الصراع الأزلي كان موجودًا منذ آلاف السنين وسوف يستمر إلى أبد الآبدين. وهو موجود في كل مكان ولا يقتصر على العالَمين العربي والإسلامي اللذَين شهدا عودة للدين وهيمنتهُ من جديد على الحياة الاجتماعية والثقافية منذ نهاية ستينات القرن الماضي بأشكال متعددة وخطيرة جدًا.
توقف الباحث عند كتاب "نقد الفكر الديني" للمفكر صادق جلال العظم الذي صدر سنة 1969م. وأشار إلى أنّ الصراع قد بدأ أولًا بين الدين والفلسفة قبل أن يلج العِلم هذا المضمار بقوة منذ القرن السابع عشر حيث شنّ رجال الكنيسة هجمة شرسة على الفلاسفة والعلماء إبّان حقبة محاكم التفتيش وقمع المفكرين واضطهادهم حيث أقدموا على حرق جيوردانو برونو حيًّا في الساحة العامة بروما سنة 1600م بتهمة الهرطقة والإلحاد لجرأته في طرح أفكاره الفلسفية والعلمية "إلى حدٍ ما" ومخالفته لأطروحة الكنيسة الكاثوليكية.
لمحات من السيرة الذاتية
تأتي أهمية هذا المحاضرة العلمية والفكرية والثقافية أنها تنطوي على لمحات من السيرة الذاتية للكاتب جواد بشارة سنأتي عليها كلما استدعت الضرورة إلى ذلك ومن بينها قراءاته ومواقفه الأولى التي انتشلتهُ من قيود عائلته الدينية المتشبثة بالتراث الإسلامي المنغلق على نفسه والمتقوقع على طقوسه وعاداته وتقاليده القديمة التي تجاوزها التقدّم العلمي الذي نعيش تجلياته كل يوم في عصرنا الراهن. فلقد قرأ الباحث كتاب "نقد الفكر الديني" لصادق جلال العظم وهو في سن المراهقة وقد غيّر هذا الكتاب نظرته إلى العالم، وقد لَعِب تخصصه العلمي لاحقًا في تغيير قناعاته كلها ولم يعد مُقتنعًا بقصة الخلق كما روتها الأديان خاصة ونحن نعيش في القرن الحادي والعشرين حيث الاختراعات والاكتشافات العلمية تترى وتتلاحق في كل يوم ويصعب متابعتها في بعض الأحيان. ويشير في هذا الصدد إلى العقدين الأولين من القرن العشرين الذي شاعت فيه نظرية "البغ بانغ" أو "الانفجار العظيم" التي أحدثت زلزالًا من الناحيتين العلمية والفكرية وقدّمت تصورات جديدة لم يألفها الإنسان من قبل.
يعتقد الباحث أنّ الصراع قد بدأ بين الفلسفة والدين أولًا قبل أن يلج العِلم في هذا المضمار وكان كل طرف من أطراف الصراع يدلو بدلوه ولا يجد حرجًا في القول بامتلاك الحقيقة وإعطاء الأجوبة.
يُعرّف د. بشارة العقل الخرافي بأنه "العقل الذي يتقبّل ويصدّق ويؤمن بالأساطير والخرافات والشعوذات والخزعبلات حيال كل شيء في الحياة والواقع والموت، والآخرة والقيامة، والجنة والنار، والعقاب والثواب ، وعملية الخلق الرباني بطريقة كن فيكون، وبما جاء في النصوص الدينية التي يعتبرها مقدّسة". أمّا العقل العلمي "فهو الذي يستند للعلم فقط في إيجاد الأجوبة على التساؤلات الوجودية والظواهر الطبيعية المتعلقة بالحياة والكون والوعي والتطور، ولا يقبل أو يرفض التصديق بما جاء في الكتب التي يقال إنها سماوية منزّلة ومقدّسة". يقصد الباحث بالعقل الخرافي أيضًا كل ما ينافي العقل والوعي العلمي سواء كان ذلك موجودًا في الإيديولوجيات والنظريات والأفكار الوضعية والدنيوية أو في النصوص والروايات الدينية على حد سواء، وهو لا يقصد دينًا بعينه سواء كان هذا الدين وضعيًا دنيويًا كالبوذية أو الهندوسية أو اليانية أو السيخية أو سماويًا مُنزلًا كالدين اليهودي أو المسيحي أو الإسلامي. كما يقصد بالعقل العلمي طريقة التفكير والتأمل، والشك والتساؤل، والبحث والتجريب، والطعن بالمسلّمات الأسطورية أو الخرافية وذلك مذ نشأ الوعي عند الإنسان قبل ملايين السنين إلى يومنا هذا. ويضيف بأنّ العقل الخرافي يصدّق من دون أي نقاش أو اعتراض وأنّ ما يسمعه من روايات دينية هي حقيقة مُطلقة لا يرقى إليها الشك. بينما يخوض العقل العلمي حوارات ونقاشات علمية رصينة قائمة على الأدلة والبراهين القوية لا سيما بعد ظهور النظريات العلمية الحديثة مثل "النشوء والارتقاء" لداروين و "التحليل النفسي" لفرويد، وما قدّمه ماركس في الاقتصاد والاجتماع والفلسفة الماركسية حيث أحدثوا مع علماء ومفكرين آخرين زلزالًا معرفيًا غيّر أذهان الناس وفتح عقولهم على آفاق جديدة.
كُتب مُزلزلة تفتح الشهية لمعرفة الآخر
أشار الباحث إلى لقاء كبير حاخامات اليهود بآينشتاين وطلب منه أن يؤمن بالله لأنه يحرجهم في المحافل العلمية والاجتماعية والدينية فقال له أنا أومن بالله ولكن ليس الإله الذي تؤمنون به ... أنا أؤمن بسبينوزا "الذي طُرد من الفضاء الكنسي وانعزل عنهم" وذكر الباحث بأنّ أول كتاب قرأه لسبينوزا هو "رسالة في اللاهوت والسياسة" ترجمة المفكر المصري حسن حنفي الذي فتح شهيته هو الآخر على كتب فكرية وفلسفية كثيرة. واستمر هذا الصراع عبر التاريخ حتى أواسط القرن العشرين حيث ظهرت نظريات علمية دقيقة جدًا سواء في التكنولوجيا أو نظرية الكوانتوم "الكموم" التي جعلت العلماء يتقدمون في طروحاتهم العلمية الرصينة من دون أي خوف أو تردد. فقد ظهرت في أمريكا محاولات لمنع تدريس نظرية التطور في المدارس لكن العلماء والمفكرين تصدّوا لهذا الموضوع وقبروه قبل أن يولد. والأمر نفسه ينطبق على كتاب "وهم الإله" للبريطاني ريتشارد دوكينز وعدد كبير من الكُتّاب والفلاسفة والعلماء الذين حاولوا أن يخلقوا وعيًا جديدًا لدى القرّاء. أمّا في العالم العربي فلا يمكنك أن تقرأ مثل هذه الكتب الإشكالية ولكنك تستطيع شراءها سرًا بطريقة مستنسخة كما هو الحال في مكتبات "المتنبي" ببغداد.
يؤكد د. بشارة بأنّ الكُتّاب في العالَمين العربي والإسلامي نادرًا ما يتجرأون في إعلان آرائهم بصراحة أمام الملأ لأنهم سوف يُتهمون بالإلحاد وقد يتعرضون إلى الاغتيال كما حصل مع أدباء ومفكرين عديدين. وكان المحاضر نفسه يتوخى الحيطة والحذر حينما يذهب إلى العراق ويقدّم محاضرة هنا أو هناك حيث ينصحه بعض الأصدقاء بأن يتجنب المفردات الصريحة المباشرة التي تهزّ المتدينيين والأديان السماوية قاطبة. وفي لمحة أخرى من سيرته الذاتية أورد د. بشارة قصة أستاذ من أساتذة الحوزة العلمية الذي يدرِّس مادة "السطوح" أو "الدرس الخارجي" بالنجف الذي حضر واحدة من محاضرات د. بشارة "واستمع إليه بتأنٍ شديد وحينما انتهت المحاضرة قال بشكل صريح بأنه يسمع هذا الكلام أول مرة، وأنّ ما تعلّمه خلال نصف ساعة يعادل ما تعلّمه خلال 35 سنة الأمر الذي دفعه إلى نزع العمامة، وترك الحوزة، والانخراط في عالم التجارة".
يركِّز الباحث على استعادة المعرفة القديمة التي بلغت ذروتها في نشر كتاب "المبادئ" لإسحق آنشتاين سنة 1687م الذي صاغ قوانين الحركة والجاذبية وبدأ تشيّيد علم الكونيات الجديد الذي مهّد الطريق لعصر التنوير اللاحق وتمّ التعبير عن مفهوم الثورة العلمية من قِبل مفكرين في القرن الثامن عشر مثل جان سيلفان بيلي الذي وصفها بأنها عملية لتفكيك القديم وتأسيس الجديد. يُشيد الباحث بيتر هاريسون بدور المسيحية في ظهور الثورة العلمية الأمر الذي يمثل تحولًا كبيرًا في فهم الظواهر الطبيعية وإدارتها. فالعقل العلمي يعتمد على الملاحظة المنهجية والعقلانية بينما يعتمد العقل الخرافي واللاهوتي على التفسيرات الإلهية والخارقة للظواهر الطبيعية.
يشير الباحث إلى دخول مصطلح "التجريبية البريطانية" حيز الاستعمال لوصف الاختلافات الفلسفية الملحوظة بين اثنين من مؤسسيها وهما فرانسيس بيكون الذي وُصف بأنه تجريبي، ورينيه ديكارت الذي وُصف بأنه عقلاني. وكان توماس هوبز وجورج بيركلي وديفيد هيوم من أبرز روّاد الفلسفة الذين طوروا تقليدًا تجريبيًا كأساس للمعرفة البشرية من أجل الحصول على المعرفة والسيطرة على الطبيعة. وأكد بيكون أنّ الفيلسوف يجب أن ينتقل بواسطة الاستدلال الاستقرائي من الحقيقة إلى البديهة ثم إلى القانون الفيزيائي ويجب على السائل أن يحرر عقله من بعض المفاهيم أو الاتجاهات الخاطئة التي تشوّه الحقيقة. وثمة علاقة معقدة بين الملاحظة التجريبية والاستدلال العقلاني. يمتد هذا التناقض الفلسفي إلى المناقشات اللاهوتية حيث وصف البابا يوحنا بولس الثاني "الإيمان والعقل" كجناحين متكاملين يرفعان الروح البشرية نحو التأمل في الحقيقة" كما رأينا هذا التوليف في كتابات توما الأكويني ومحاولة ربط الفكر الكاثوليكي بالأسس الفكرية للعلم الحديث.
الاختبار والتجربة والتعلّم من الخطأ
توقف الباحث عند بعض المنظورات التاريخية والأسس الفلسفية والتأثيرات الاجتماعية والثقافية مؤكدًا بأن عصر النهضة والتنوير لم ينسف كليًا الآراء والفلسفات القديمة وخاصة الفلسفة الصوفية حيث تؤكد هذه الأخيرة على وحدة الوجود التي ذكرها ابن عربي التي تقول باختصار أنّ كل شيء في هذا الوجود مرتبط مع بعضه بعضًا ولا يوجد شيء خارج هذا الوجود، وهو الله في نظر المتصوفين. أمّا العلماء المعاصرون فيقولون إن الوجود هو الكون الكلي اللامتناهي وأنّ العلم يعني، من وجهة نظرهم، هو الاختبار والتجربة والتعلّم من الخطأ، وليس هناك عالِم من العلماء يدّعي امتلاكه للحقيقة بينما يؤمن رجل الدين بالحقيقة المُطلقة الأبدية التي هبطت عليه من السماء.
يعرّج المحاضر على السؤال الجوهري الذي ورد في نظرية الخلق الإلهي التي تقول إن هناك كينونة عليا وحيدة، كلية العلم والقدرة هي التي خلقت كل شيء لكنك عندما تسأل منْ خلق هذه الكينونة؟ تتعسّر الإجابة وتستحيل! أمّا الأديان فتقتنع بأنّ الإجابة هي الله من دون شك أو تردّد ولا يحق لنا، نحن البشر، أن نطرح عليه هذا السؤال المحيّر منذ الأزل وسيبقى كذلك إلى الأبد. فالعلم يسمّيه الكون الكلي أو الكون المطلق اللانهائي الذي ليس له بداية ولم يخلقه أحد، وهو موجود كما هو، ونحن جزء منه. يضم رصيد الباحث بشارة أكثر من كتاب في هذا المضمار الأول:"الكون الجُسيم والكون المتسامي"، والثاني:"من الكون المرئي إلى الكون اللامتناهي" وقد وضع في هذا الكتاب الأخير كل النظريات الفيزيائية، إضافة إلى كتاب ثالث بعنوان "سفر التكوين العلمي". يقف العلماء حائرين أيضًا أمام مسألة الموت، وماذا يحصل بعد الموت؟ والكل يحاول أن يجد إجابة مُقنعة في أقل تقدير. وثمة أسئلة محايثة من قبيل:هل هناك روح أم أنّ الإنسان مجرد هيكل جسدي مادي سوف يفنى بعد الموت؟ يتكرر مثل هذا السؤال عندما يطرح العلماء:ماذا كان هناك قبل البغ بانغ فهم يعتقدون أنّ الانفجار الكبير هو بداية الكون المرئي الذي نعيش فيه لكن ماذا كان يوجد قبل البغ بانغ؟ لم يجد الإجابة سوى بعض الأشخاص الذين درسوا هذه العملية وخاصة الشقيقين التوأمين إيغور وكريشكا بوغدانوف حيث قدّم أحدهما أطروحة جميلة عن البغ بانغ وصفه بأنه DNA لهذا الكون، أي مجرد معلومة تشبه الدسك الذي لا نعرف محتواه إلّا إذا وضعناه في جهاز الكومبيوتر، وهذه المعلومة هي التي تختزن ذاكرة الكون الأسمى، أي أنّ هناك حركة دورية أسماها أحد العلماء البريطانيين بـ "الكون التعاقبي"، أي أنّ الكون الموجود يحدث انفجار أو عدة انفجارات ويوّلد كونًا أو عدة أكوان لها قوانينها الخاصة بها أحدهم هو هذا الكون المرئي الذي نعيش فيه وسوف يصل في مرحلة معينة إمّا إلى الانسحاق الكبير أو الانكماش الكبير أو التمزّق الكبير أو التجلّد الكبير، وحسب نظرية البغ بانغ فإنّ الكون ينهار على نفسه ويصل إلى الفرادة السابقة لكن الفرق أنّ ذاكرة هذا الكون وما فيه من قوانين يشبه المعلومة الحاسوبية التي تبقى مخزونة وتنفجر مرة أخرى وبالتالي فليس هناك بداية ولا نهاية، وسوف يستمر الكون بهذه الطريقة إلى الأبد كما يذهب روجر بنروز الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء.
لم تكن المجتمعات بعيدة عن تأثير الدين الذي يغزو العقول من خلال السيطرة على المجتمع ولا يسمح له أن يفلت من قبضته لأنه صراع على السلطة والنفوذ ورجال الدين يستشعرون أي خطر قبل حدوثه ويحاولون القضاء عليه. يشير د. بشارة إلى أنّ تقاطع التقدّم العلمي والمعايير المجتمعية قد أدّى إلى تغييرات عميقة في كيفية إدراك الأفراد والمجتمعات لأنفسهم وعلاقتهم مع الآخرين، أي أننا كنّا نتصرف سابقًا مثلما يُملى علينا لكن هذا الصراع أفضى بالمجتمعات لأن تتحرر من خلال بعض النظريات والأنشطة المجتمعية وصاروا يتجرأون على طرح الأسئلة التي خرجت من إطار الأشخاص المحدودين إلى الفضاء المجتمعي. وأشاد الباحث بدور عدد من الكُتّاب الذين أدّوا دورًا مجتمعيًا كبيرًا في تقديم بعض الكتب المبسطة أمثال سلامة موسى أو إسماعيل مظهر الذي أكد على ضرورة إطلاع المجتمعات على الأبحاث والدراسات والنظريات الحديثة.
انتقاد النظرية الماركسية
عودًا على السيرة الذاتية التي تجلت في هذه المحاضرة تحديدًا فقد أشار د. بشارة إلى جرأته الواضحة حينما كان عمره 16 سنة حيث طلب من الصديق عبدالله القريشي أن يأخذه للقاء السيد محمد باقر الصدر بمدينة النجف، وكان بشارة هيبيًا في ذلك الوقت، شعره طويل جدًا، ويرتدي بنطال التشارلستون؛ أي أنّ مظهره الخارجي لا يتناسب مع أجواء وتقاليد الحوزة النجفية. وحينما تمّ اللقاء الانفرادي بالسيد الصدر سأله سؤالًا جريئًا واحدًا عزّزه بأسئله جانبية تدور في فلك السؤال الأول وتتمحور عليه مفاده:" كتبتَ كتابًا اسمه "فلسفتنا" تنتقد فيه النظرية الماركسية، هل تعرف أنتَ لغة أجنبية؟ وحينما نفى الصدر معرفته بأية لغة أجنبية ردّ عليه الشاب بشارة:"كيف تسمح لنفسك أن تنتقد نظرية لم تقرأها بلغتها الأصلية؟" فردّ عليه ثانية:"أنا انتقد النظرية الماركسية كما وصلت إلينا عبر الترجمة!" فسأله ثالثة:" من هو الشخص الذي أوصلها إليك . . . إلياس فرح؟ وهل تعتبر إلياس فرح هو المصدر الأساسي للماركسية؟" عندها اقتنع السيد الصدر وقال بتواضع شديد "لو أنّ لدينا عشرة أشخاص مثلك لعرفت كيف أدع الإنسان ينتصر على هذه الأفكار". أشار الباحث إلى أنه كتب هذه الواقعة في مقال يحمل عنوان "البحث عن عراقيتي" وتُرجم ونُشر في مجلة فرنسية. ما يقصده بشارة من هذه السردية بأن الشخص الذي يمتلك قدرًا من الجرأة إمّا أن يمنعوه أو يحاولون احتواءه بطرقٍ شتّى كأن يحرضوا الأهل أو عامة الناس عليه علمًا بأن غالبية أصدقائه وأترابه قد انخرطوا في التيار الديني ومارسوا طقوسة المعروفة في العراق. ويعزو بشارة سبب خروجه عن هذه الدائرة الدينية إلى فضوله المعرفي وجرأته في طرح الأسئلة العويصة والشائكة مثل قصة الخلق والخالق وسوف تتلوها حكاية الانفجار العظيم وما قبله من نظريات. جدير ذكره في هذا الصدد إلى أن لغة بشارة الإنكليزية كانت جيدة إلى حدٍ ما بحيث تتيح له قراءة بعض الكتب والمجلات الأجنبية التي تُعينه على معرفة ما يدور خارج البلاد حينما كان العراق مُغلقًا في أواخر الستينات فعانى من الحصار الثقافي مثلما كان يعاني غالبية العراقيين في تلك الحقبة. وبمرور الزمن تراكمت هذه المعلومات العلمية التي عززت تفكيره العلمي وكان بإمكانه أن يوصلها باللغة الإنكليزية أو الفرنسية التي أتقنها على مدى 50 عامًا من وجوده في باريس لكن الغرب لا يحتاج إلى هذه المعلومات لأن لديهم عشرات الكُتّاب والمؤلفين الذين يبسِّطون المعلومات العلمية وينشرونها للملأ الأعظم من الناس. فعندما يقدّم ستيفن هوكينغ محاضرة لمجموعة من العلماء أو الطلبة المتخصصين يتكلم بلغة العلم والمعادلات الرياضية التي لا يستوعبها عامة الناس ولكن حينما يخاطب السواد الأعظم يتحدث باللغة التبسيطة vulgarization المُشار إليها سلفًا. وبما أنّ العالم العربي يفتقر إلى هذه الكتب التبسيطية ويتفادونها أو يخشون من ردّة الفعل فقد أخذ د. بشارة على عاتقه محاربة العقل الخرافي الذي حعلنا نعيش هذا التخلف المقيت. ويرى الباحث أنّ من واجب العلماء والمفكرين والمثقفين خلخلة قناعات المجتمع وثوابته الفكرية، وقد نجح هو حينما نشر العديد من مقالاته العلمية في التأثير على الشباب تحديدًا الذين يقرأون مقالاته ويسعون لحضور ندواته العلمية والفكرية والتنويرية التي يجيب فيها على أسئلتهم المؤرقة في ظل غياب الكتب النوعية المزلزلة للفكر الإنساني.
طرفان يمتلكان الحقيقة وثالث يسعى لاكتشافها
يعرّح د. بشارة في نهاية المحاضرة على كتابه الموسوم "الثالوث المحيّر، الله، الدين، العلم" بأجزائه الثلاثة الذي يثير الخوف والخشية ففيه طرفان يدعيان امتلاك الحقيقة المطلقة بينما يعمل الطرف الثالث على اكتشاف الحقيقة النسبية القابلة للتغيير والتطور كلما تقدمت التكنولوجيا والنظريات العلمية. أمّا الدين فقصته أكثر غموضًا وخطورة فقد حكم وسيّر سلوك البشر وما يزال منذ آلاف السنين وأوجد مؤسسات دينية أفرزت كافة أنواع الشرور والعنف والبطش والقتل الوحشي والتفكير والحروب والسيطرة على عقول البشر. أمّا الطرف الثالث فما يزال يحبو ويجرّب، وينجح هنا ويفشل هناك على نحو نسبي ويسعى إلى تحسين الوعي البشري والبحث عن أجوبة للأسئلة الكبرى التي تطرحها الإنسانية على نفسها عن الأصل والمصير والمآل الذي ينتظر البشرية ويبقى صعبًا على الإدراك والفهم العام باستثناء نخبة قليلة من العلماء ويواجه جملة من التحديات والظواهر التي يعجز عن فهمها وتفسيرها ومنها أصل الحياة وسرّها ومعناها؟ ويبدو هذا السؤال من طبيعة فحواه أنه ينتمي إلى حقل الفلسفة والدين والفكر المجرد ولا علاقة له بالعلم لكن كثيرًا من موضوعات الفلسفة والدين صارت تقع الآن تحت طائلة العلم وخاصة علم الفيزياء.
يتذكر د. بشارة طُرفتين ينهي بها محاضرته، الأولى، عندما سأل أحدهم القديس أوغسطين: ماذا كان يفعل الله قبل خلقه للكون والإنسان؟ فردّ عليه: كان يُحضّر نار جهنم لمن سيسألون هذا السؤال مثلك. والثاني هي عندما التقى ستيفن هوكينغ بالبابا يوحنا فقال العالم البريطاني للحبر الأعظم: ألا تسلّمون أخيرًا بصحة نظرية الانفجار العظيم؟ فردّ عليه البابا: بشرط أن تسلّمون أنتم بصحة أطروحتنا فدعو لنا ما قبل البغ بانغ ونترك لكم يا معشر علماء الفيزياء الكونية ما بعد البغ بانغ.
***
عدنان حسين أحمد