تقارير وتحقيقات
آني إرنو تصطاد نوبل من خلال الذاكرة
كالعادة اثار فوز الروائية الفرنسية "آني إرنو" البالغة من العمر 82 عاما بجائزة نوبل للاداب الجدل كثيرا، مثلما اثير الجدل نفسه في السنوات الاخيرة بعد ان منحت الجائزة الى المغني الامريكي الشهير بوب ديلان . في كل عام ما ان يعلن اسم الفائز حتى يبدا نقاش ساخن حوله وعلى سبيل المثال فاز بجائزة العام الماضي كاتب من تانزانيا " عبد الرزاق قرنح " لم يعرفه القراء العرب إلا بعد ان اعلنت الاكاديمية السويدية فوزه، والمثير ان آني إرنو كانت على رأس قائمة المرشحين للفوز بالجائزة العام الماضي حيث وصفتها صحيفة الغارديان آنذاك بانها واحدة من اعظم الكتاب الاحياء في العالم .إلا ان القراء حول العالم لديهم رأي آخر، فبعد اعلان الفائز بالجائزة بنصف ساعة طرحت جائزة نوبل استطلاع رأى سألت من خلاله الجمهور: هل قرأت أى شىء لآنى إرنو؟، وقد كشفت نتائج استطلاع الرأى عن مفاجأة اعتاد عليها جمهور الأدب حول العالم، وهى أنه دائما ما يكون الكاتب أو الكاتبة من غير المشهورين على مستوى الجمهور الأدبى حول العالم، ولهذا كشفت نتائج الاستطلاع أن هناك أكثر من 85% من جمهور القراءة الذى انتظر معرفة اسم الفائز بجائزة نوبل للآداب هذا العام، لم يقرأ كتابا واحدا لها.
مع إرنو تعود الجائزة الى فرنسا بعد ثمانية اعوام حيث كان آخر الفائزين بها من ادباء فرنسا هو الروائي " باتريك موديانو" الذي منح الجائزة عام 2014، وكان هو ايضا قد اصابته المفاجأة: لو قال لي احد انت مرشح للجائزة ساظن حتما انه يسخر مني "، وكنت انا ايضا مثل كثيرين لم يتوقعوا ان يفوز روائي مغمور بالنسبة لنا، آنذاك ترجمت الروائية لطفية الدليمي في صحيفة المدى مقالا مطولا عن موديانو افتتحه بعبارة مهمة:" كان مُتوقّعاً أن يكون التساؤل الأوّل الّذي راود الكثيرين في شتّى أصقاع الأرض:"من عساهُ يكون باتريك مونديانو هذا؟ .
والآن ربما يتساءل الكثير من القراء من عساها تكون آني إرنو التي جلست على كرسي الجائزة متخطية اسماء مهمة مثل ميلان كونديرا وموراكامي وسلمان رشدي ودون ديليلو؟ . بالامس كتبت على صفحتي في الفيسبوك مقالا اتساءل فيه من سيكون صاحب الحظ الاوفر للفوز بالجائزة ووضعت اسم آني إرنو ضمن القائمة التي كان يتم تداولها الى جانب ماري كوندي، ومارغريت أتوود.
في بيان لجنة جائزة نوبل وصفت كتابات إرنو بانها " تفحص باستمرار ومن زوايا مختلفة حياة تتميز بتباينات شديدة فيما يتعلق بالجنس واللغة والطبقة". ويضيف البيان ان " كتاباتها امتازت بالشجاعة والبراعة التي اكتشفت بها الجذور والاغتراب والقيود الجماعية للذاكرة الشخصية، فاعمالها مكتوبة بلغة واضحة ونظيفة "، في مقابلة على التلفزيون السويدي بعد الإعلان عن الجائزة، قالت إرنو: "لقد فوجئت للغاية ... لم أفكر أبدا في أن ذلك سيكون ..إنها مسؤولية كبيرة ..أن أدلي بشهادتي، ليس بالضرورة من حيث كتابتي، ولكن أن أدلي بشهادتي بدقة وعدالة فيما يتعلق بالعالم".
على صفحته في تويتر أشاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بفوز إرنو واصفا ايها ب " صوت الحرية" لانها "على مدار الخمسين عامًا الماضية، كانت تكتب رواية الذاكرة الجماعية والحميمة لبلدنا" على حد قوله، وتجدر الإشارة إلى أن إرنو لم تكن معجبة بالرئيس الفرنسي وقد اعربت عام 2018 عن دعمها لتظاهرات اصحاب السترات الصفراء التي هزت ولاية ماكرون الأولى لتصف الرئيس الفرنسي بانه "منفصل عن الواقع". ومؤخراً، في مقابلة صحفية سخرت من حديث ماكرون عن حقوق المراة قائلة انه حشر نفسه في القضية .
لا تحب آني أرنو روايتيها الأوليتين " الخزائن الفارغة " 1974 و " ماذا يقولون " 1977 وتعتبر روايتها الثالثة " المرأة المجمدة " 1981، باكورة اعمالها الحقيقية، وفيها تتحدث عن طفولتها دون قيود، وتخبرنا انها عاشت مع والدين مختلفين تماما، أب رقيق وحنون وأم ذات شخصية قوية تبدو على ملامحها القسوة، وقد اعتبرت الرواية منشورا للدفاع عن النساء . الكاتبة التي قرأت بنهم اعمال سيمون دي بوفوار وفرجينيا وولف عاشت منذ طفولتها وسط عالم مليء بالكتب، احبت القراءة منذ الصغر، تصفها الصحافة بانها متحدثة باسم جيل كامل من النساء . تاخذ المرأة وقضاياها حيزا كبيرا في اعمالها، تقول انها عاشت وسط نساء قويات ومستقلات .
ولدت آني إرنو في الاول من ايلول عام 1940 وترعرعت في بلدة يفيتوت الصغيرة في نورماندي، كان لوالديها محل بقالة ومقهى . وصفت طفولتها بالصعبة، حاولت عائلتها ان تنتشل نفسها من الطبقة الفقيرة الى الطبقة المتوسطة تقول:" نشأت كطفلة وحيدة في محل بقالة ملحق بمقهى كان والديّ يمتلكانه، فكبرت بين الناس والزبائن الذين يأتون ويذهبون، كان هناك دائمًا أشخاص حولي أكثر من أبي وأمي، لم أشعر أبدًا بنفسي محبوسة في عائلة، ولم أكن أرى نفسي ووالديّ كعائلة منفصلة عن الآخرين، صحيح أننا كنا ثلاثة أفراد، أقارب بالدم، بالتأكيد، لكن العالم والأشخاص من حولنا كانوا على نفس القدر من الأهمية بالنسبة لي، والشيء نفسه كان ينطبق على والديّ، حيث كان عليهما توفير قدر كبير من الاهتمام والوقت لعملائهما أكثر من توفيرهما لي، لطالما كانت بيئتي هي السر الذي يمد حياتي بالقوة والإصرار". في معظم رواياتها تحاول إرنو ان تسلط الضوء على خلفيتها الريفية وعن التفاصيل الدقيقة لحياتها حتى ان بعض النقاد وصفها بـ " عالمة اجتماع " وليست كاتبة روائية. غالبا ما تشير إلى تاثرها برواية مارسيل بروست " البحث عن الزمن المفقود "، وتضيف لها كتابات عالم الاجتماع بيير بورديو وخصوصا فيما يتعلق بموضوعة الهيمنة التي غالبا ما تكون خفية وغير مرئية، والتي طالب بورديو بتعرية أسس شرعيتها وتجريح آلياﺗﻬا حتى يسقط قناعها القدسي .
انهت دراستها الجامعية لتعمل بالتدريس بعدها انتقلت الى الكتابة، تؤكد بانها حاولت ان تمزج بين التدريس والكتابة حتى انها قررت ان تُدرس للطلبة مادة تعلم الكتابة .
روايتها الرابعة الصادرة عام 1983 بعنوان " المكان " – ترجمتها الى العربية امينة رشيد - قدمت فيها صورة صادقة لوالدها وسلطت الضوء على بيئتها الاجتماعية، الرواية التي لم تتجاوز صفحاتها المئة، كانت اشبه بانوراما لحياة مجتمع في الخمسينيات، قالت إن الكتابة فعل سياسي يفتح أعيننا على عدم المساواة الاجتماعية. ولهذا الغرض تستخدم اللغة "كسكين"، كما تسميها، لتمزيق حجاب الخيال، للكشف عن الحقيقة، معتبرة نفسها وريثة شرعية لجان جاك روسو.
بعد بضع سنوات، تعطينا صورة لامها من خلال روايتها " امراة " – ترجمة سحر ستالة – وهي تكريم لامرأة قوية تمكنت أكثر من الأب من الحفاظ على كرامتها:" ليس هذا الكتاب سيرة، ولا رواية طبعاً، ربما هو شيء يقع بين الأدب وعلم الإجتماع والتاريخ، إذ كان من الضروري أن تتحول والدتي، التي ولدت في وسط مقهور لطالما تمنَّت الخروج منه، إلى تاريخ حتى أشعر بأنني أقلُّ وحدة وتكلَّفاً في عالم الكلمات والأفكار القاهر، الذي انتقلتُ إليه نزولاً عند رغبتها. لن أسمع صوتها مجدداً، إنها هي، وكلماتها ويداها وحركاتها وأسلوبها في الضحك ومشيتها، من كانت توحّد المرأة التي أنا عليها اليوم بالطفلة التي كنتها في الابق، وبموتها فقدتُ آخر رابط بيني وبين العالم الذي جئت " .
حصلت رواية " المكان " على جائزة " رونودو". تقول انها تخلت عن كتابة الرواية المتخيلة التقليدية، لتركز على تلك الرواية المستمدة أحداثها من سيرتها الذاتية، حيث تتقاطع فيها التجربة العامة مع التجربة الشخصية، ولهذا نجدها في رواية " المراة " تتحدث عن عن أمها وعلاقتها بها، وفي " شغف بسيط " تروي، علاقة حب حدثت في شبابها بينها وبين رجل اعمال، حيث تطرح ازمة علاقتنا بالآخر، وبالجنس، كما انها تكتب حول موضوع الجنس الذي تجد انه المحرك الاكبر للكثير من دوافع الانسان .جميع روايات آني إرنو حكايات من الذكريات التي ملأت في السابق دفتر ذكرياتها فتحول هذا الدفتر المليء بالأسماء والأرقام والعناوين والأحداث المهمة والغامضة والملاحظات الى روايات نابضة بالحياة .قالت إن الموضوعات الرئيسية لعملها كانت "الجسد والنشاط الجنسي، العلاقات الحميمة، عدم المساواة الاجتماعية وتجربة تغيير الطبقة من خلال التعليم، الوقت والذاكرة ؛ والسؤال الشامل حول كيفية كتابة هذه التجارب الحياتية".
في روايتها " العار" تستمر بتقديم صورة لحياة عائلتها حيث:" حاول والدي قتل والدتي ذات يوم أحد في شهر تموز، في وقت مبكر من بعد الظهر." تسعى إرنو إلى تجاوز الحد المسموح به من الصراحة: "لقد أردت دائمًا كتابة نوع الكتاب الذي أجد أنه من المستحيل التحدث عنه بعد ذلك، نوع الكتاب الذي يجعل من المستحيل بالنسبة لي أن أتحمل نظرة الآخرين." ترى ان الادب يمنحها الأدب ملاذًا لكتابة ما يستحيل التواصل معه في اتصال مباشر مع الآخرين ..
في روايتها " احتلال " – ترجمة اسكندر حبش – تاخذ موضوعة الغيرة حيزا رئيسيا وفيها ايضا تتناول حياتها الشخصية، بطلة الرواية امراة خرجت من تجربة زواج دامت 18 عاما اعتبرتها اشبه بالسجن، ترفض الحياة التقليدية بين زوجين تريد ان تتمتع بحريتها القصوى، لكنها في المقابل تخرج من قصة حب فاشلة انتهت بالخيانة من قبل رجل احبته .
روايتها " السنوات " وصفتها بانها " سيرة ذاتية جماعية"، أشاد بها النقاد باعتبارها "ملحمة اجتماعية" رائدة في العالم الغربي المعاصر. تستبدل إرنو في السرد الذاكرة التلقائية للذات بصيغة الغائب من الذاكرة الجماعية، مما يشير إلى تاثير روح العصر على حياتها الشخصية .
عُرفت روايات إرنو بتمركزها، حول تجاربها الخاصّة والحميمة، حيث لا تغادر أعمالُها مواضيعَ مثل الأزمات العائلة، والإحساس بالعار تجاه الطبقة التي تنتمي إليها، إضافة إلى كتابتها عن علاقاتها العاطفية دون استعارات أو تورية، وهو ما تسبّب بإثارة العديد من النقاشات الحادّة عند صدور عدد من أعمالها". .روايتها الاخيرة "الشابّ"، تنتمي إلى هذه الأجواء، حيث تحكي فيها عن علاقتها العاطفية مع شباب يصغرها بثلاثين عاماً.
طورت إرنو رواية السيرة الذاتية للقرن الحادي والعشرين أكثر من أي كاتب آخر .لا تؤمن بالعقدة، وكتبها مزيج من السيرة والمواقف الاجتماعية الصادمة . هناك من ينظر إليها أحياناً بصفتها كاتبة فضائحية وأنها تقترب من فضائحية أناييس نِن. ترد بانها تحاول أن تروي جوانب حياتية غالباً ما يُحجم الآخرون عن الاكتراث بها. وهي ترى أن الكتابة نوع من ممارسة الكذب من أجل نقل أشياء تتعلق بالحقيقة.
***
علي حسين – كاتب
رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية