تقارير وتحقيقات
حينما حلقت أشجار سعد ياسين يوسف عميقاً في الثقافة للجميع!!
- الناقد علي الفواز: الشجرة تلعب دور الموجه في قراءة تجربة الشاعر
- الشاعر عمر السراي: سعد ياسين يمثل أمة من المحبة !!!
- أ. د. جاسم محمد جسام: نص سعد ياسين يوسف تأملي بامتياز.
- أ. د. علي حداد: سعد ياسين يوسف من بين شعراء المشاريع.
- الشاعرة سلّامة الصالحي: سعد ياسين يوسف مؤرخ للوعة الأشجار.
***
أحتفى أدباء العراق بالمنجز الشعري للشاعر د. سعد ياسين يوسف في جلسة أقيمت فيها بحضور كوكبة من أدباء العراق من النقاد وأساتذة الأدب العربي والشعراء والفنانين لمناسبة صدور مجموعته السابعة (الأشجار تحلّق عميقا ً) أدارها الشاعر جاسم العلي.
وخلال الجلسة قدم الشاعر عمر السراي الأمين العام لاتحاد الأدباء العراقيين باقة ورد باسم أدباء العراق وقال في كلمة له:
إن اتساع مساحات الجمال في الأدب تشكل نقصاناً في مساحات الخراب لذلك مازلنا نحتفي ببعضنا نقرأ قصائدنا لتصل إلى الآخرين نتفاعل في ظل كل الموجات العاتية من التخلف، فشكراً دكتور سعد وأنت تمثل أمةً من المحبة لتحملنا في رحاب قلبك الأجدى أن نتصفحه قبل أن نتصفح دواوينك وقصائدك وأن باقة الورد هذه تمثل الأدب العراقي داعيا الحاضرين جميعاً للمشاركة بتقديمها.
وأعرب الشاعر المحتفى به عن سعادته بهذه الحفاوة والحضور الكبير من الأدباء والمبدعين وقدم عدداً من قصائدة خلال الجلسة.
وقدم أ.د. جاسم محمد جسام أستاذ النقد الأدبي الحديث في الجامعة المستنصرية قراءة نقدية بعنوان سيكولوجية النص – علاقات التوازي (مجموعة الأشجار تحلّق عميقاً) جاء فيها:
إنَّ النصّ الشعري عند الشاعر سعد ياسين يوسف تأملي بامتياز أي أنه يستثمر الهوامش التي يتحرك عبر مساحاتها، ليجعل نصه واقعاً بين الواقع المادي المرير والواقع الحلمي المشتهى وكأنه يلعب دور المحرض والمعوض معا ً جاعلاً من نصه نوعاً من البديل الذي يعوض جفاف الواقع وبؤسه وبهذا يترك لنصه حرية واسعة ووظيفة مضافة ومزدوجة للتأملي والفلسفي مما يخلق دائماً ما يسمى بالضد الذي يزيد توتر وطراوة الحالة الشعرية فينتج مزيداً من الإيحاء والإيصال والتشويق للمتلقي.
-وقدم الأستاذ علي الفواز رئيس الأتحاد العام للأدباء والكتاب مداخلة ًجاء فيها:
أصدر الشاعر الدكتور سعد ياسين يوسف سبع مجاميع شعرية في ست ٍ منها أعتمد رمز الأشجار حيث تلعب الشجرة دور الموجه في قراءة تجربة الشاعر وتضعنا أمام تجربة تقترب من سمات الشاعر الرعوي الذي يحاول أن يجعل الطريقة مجالاً للأشتغال والحفر داخل هذه اليافطة العالية، فهل كان سعد ياسين يوسف شاعراً رعوياً وهل أقترب من تجربة الشاعر عيسى حسن الياسري، سيما وأن تجربة القصيدة الرعوية أرتبطت بالأساطير القديمة وإن الكثيرين من الشعراء الاغريق والرومان وجدوا فيها مجالا ً لكتابة القصيدة الحسيّة وأسطرة هذه القصيدة.
إن سعد ياسين يوسف حاول أن يجد في هذه الفضاءات مرجعاً له وهو لم يقلد أحداً، لكنه يبدو وكأنه الشاعر الذي يستفيد من جنوبيته من خلال القصيدة ولذا وجد في القصيدة الرعوية مجالا مخادعاً للدخول إلى فضاءات أخرى يعبر من خلالها عن احتجاجه وأسئلته عن العالم، فالقصائد عنده أقنعة تتعدد مستوياتها لتكون أقنعة العاشق والثوري والاجتماعي، وهكذا مقاربة تضعنا عند تجربة تقودنا إلى الجذر الإبداعي الذي ينطلق منه الشاعر عبر رمز الشجرة بما يضع القاريء أمام مسؤولية الكشف عن جوهر القصيدة ومعناها العميق.
فالاشجار هي عنوان للعُليّ للكبرياء لكنها بالمقابل قد تكون أشجار حرب وهي الأشجار المحروقة أو التي يختتطفها اللصوص مثلما هي حكاية زرقاء اليمامة حينما دخل الأعداء وهم يحملون الأشجار على رؤوسهم هذه اللعبة المخادعة هي التي تجعلنا ندرك أنَّ توظيف الثيمة وتوظيف العنوان والفكرة والرؤية في قراءة القصيدة هي التي تستفز القاريء الناقد لكي يدرك أن ما بعدية هذه القصيدة تكمن العوامل المؤلفة التي يمكن من خلالها أنْ ندرك ما الذي يريده سعد ياسين يوسف حينما يحلّق عميقاً بأشجاره وحينما يوظف الأشجار أو يجعل الأشجار هي المحرض الأسطوري على الذهاب نحو الجحيم العراقي ونحو الحلم العراقي ونحو الشهوة العراقية لأن هذه القصائد تستبطن العاشق والثوري وتستبطن الرجل الذي يبحث عن شيء ما أكان هذا الشيء امرأة أو صديق غائب أو وطن غائب أظن أن هذه هي اللعبة الشعرية التي ينبغي أن تقرا بعمق وتمعّن في شعر سعد ياسين يوسف.
- أما الشاعرة سلامة الصالحي فقد أكدت في ورقتها الموسومة "ثيمة الأشجار التي ظللت أشعار سعد ياسين يوسف" أنَّ الشجرة رمزٌ لتجلّي لله والقداسة والحياة والمكان حيث تُظهر لنا ماجادت به أغصانها وتخفي تحت الأرض تفاصيلها وعوالم صبرها..تعطي الظلال وتحتفظ لنفسها بأسرارها ولغتها التي اخترقها سعد ياسين يوسف ليخرج منها بحرير القصائد..
الشهيد شجرة تنبت في الأرض وتخترق السماء...يترك ظله خالداً في حكاياتها وصمتها..تقدس جداتنا وأمهاتنا الأشجار وتشد شالها بجذعها وتطلب منها أن تعيد لها أولادها الذين ساقوهم إلى الحروب..فنحن أبناء النخل الذي رضعنا ثماره حتى كبرت أغصاننا.
الأشجار تعطي ولا تأخذ سوى ما يغتال الحياة فتمضغه بصبر لتمنحنا رئات تتنفس الحياة..سعد ياسين يوسف ينظر لها أمهات تتجلى في الغياب الذي طال الحنان والرغبات ونشوة الحياة..يخترق جذعها ويجلس كالأطفال ينصت إلى حكاياتها فيخرج ظافراً بالقصائد وأسئلة الوجود التي أحتفظت الأشجار بأجوبتها في جذورها وهي تطعم وتسقي بعضها في الخفاء.
لايرى العابرون إلا ماظهر من الأشجار.. ولكن الشاعر يرى أسرارها ويخترق قبائلها لينتمي إليها في العطاء والنقاء الذي ترتديه دائما روح الشاعر الفائضة بالندى... يستمد نداها ويعقد أذان الصباح القران بين الورد والندى... يعثر على ثنائيات الوجود ويتعثر بالضوء الذي يمتد منه ليخترق العاصفة لامبالياً... فهو الشاعر الذي قبض على سر الخليقة بعد أن تأبط حقيبة الأسئلة الكبرى ولم يعد خائبا..فقد عاد بأسئلةٍ تحرج الوجود وتطلب من الأشجار أن تبوح له...
هذا الطفل الذي لايشيخ...يظهر راكضا في الشوارع يحمل رايته البيضاء فتخضبها الأيام برحيق الشهداء فلم تعد الراية بيضاء وصار بريق الشهادة عنوانا للحياة تحت نصب الحرية وهو يحصي شهداءه بشهادة شاعر...سعد ياسين يوسف مؤرخ للوعة الأشجار وهي تُنحر ليسرق أرضها الطارئون...فيردد اسمائها ويبكي وينظر لموتها الواقف...لكنها الثورة القادمة والراية لم تعد بيضاء.
وأستهل أ. د. علي حداد أستاذ الأدب الحديث جامعة بغداد مداخلته في الجلسة باستذكار محطات مهمة من علاقته بالشاعر سعد ياسين يوسف والمشاريع الثقافية التي جمعتهما معاً والمحافل الأدبية التي شاركا فيها والقراءات النقدية التي كتبها في منجزه الشعري وحينها كنت عائدً تواً من اليمن وتصادف أن إلتقيت الشاعر سعد ياسين يوسف وقد شدني ما يقدمه من إبداع شعري عبر منصة الجواهري وما يكتنزه من محبة وصفات وسجايا إنسانية.
وقال: لكل شاعر خصوصيات في التجربة تتحرك بين بعدي الشاعرية والشعرية فالشاعرية هي التجربة والشعرية هي خصوصية النتاج لدى الشاعر والذي يشتغل عليه ليصنع وجوداً وتجربة تبحث عنها فتجدها لدى هذا الشاعر دون غيره.
إنَّ الشعرية مساحة وجدان وتفاعل وعمق شعوري والمثاقفة تصنع للشاعر هذه الخصوصية في نصه، وإن كثير من الشعراء يخضعون للآني وللعاطفة المباشرة في الإشتغال على الهم في قصائدهم فيكتبه، لكن هناك شعراء يتركون مشروعاً شعرياً بمعنى أنّه وهو يكتب نصا ً هناك خلفية معرفية وجمالية تشده إلى ما أنتج وإلى ما سينتج ليصبح ذلك مشروعاً ومن بين شعراء المشاريع هو الدكتور سعد ياسين يوسف.
إنّنا أزاء هذه التجربة الشعرية في ديوانها السابع (الأشجار تحلّق عميقاً) وهو امتداد لدواوينه السابقة في اعتماد ثيمة الأشجار مما يثير تساؤلا ما الذي يجعل شاعراً يلح على هذه الثيمة التي قد يتصور البعض ممن لم يطّلع على تجربة الشاعر بوجود نوع من القصدية والتكرار لكن هذا غير موجود عند الدكتور الشاعر سعد ياسين فهو يشتغل على ماهو أعمق.
إن الشاعر سعد ياسين يوسف في هذا الديوان يلخص إشتغالاته في المقدمة في نصّ لأبن عربي، (إنّي نظرت إلى الكون وتكوينه وإلى المكنون وتكوينه فرأيت الكون شجرة) وهذا ما يلخص فلسفة مشروع الشجرة عند الشاعر سعد ياسين يوسف في دواوينه المتلاحقة ليصنع بهذا الشجر هذا الوجود المتلاحق المتدفق المنهمر الذي يتلون بألوان الوجود الإنساني.
فالأشجار لدى الشاعر سعد ياسين يوسف، ترسم لمعادل موضوعي يستدرجه الشاعر من معجميته وباذخ مدلولاته، ليؤشر دعوى التمسك بالمكان، والانتماء القيمي المتعالي إليه، إذ يتلاعب الشاعر بمواضعات الدلالة القارة في المفردات المنتمية إلى قاموسه (الشجري)، ويؤطرها في فضاء من التشكل المفارق. فالأشجار وهي تترسخ حضوراً في المكان لا تغادر امتدادها الصاعد في الفضاء، كما امتدادها الذاهب عميقاً في الأرض لقد تبدت (الأشجار) أفقاً ترميزياً لا حد لها لإمساك الشاعر بمداليل كشوفاته تلك التي جعلها متسعة كل شيء ـ دلالة وتمثلاً.
وقدم الكاتب رجب الشيخ رؤيتة النقدية خلال الجلسة بعنوان:
الرؤية العميقة والشعورية لرهافة المعنى والصورة الشعرية للشاعر د. سعد ياسين .. في مجموعة (الأشجار تحلق عميقا) جاء فيها:
الامتداد الطبيعي للشعر هو امتداد لحضارة سومر وبقية الحضارات لوادي الرافدين، فالشاعر سعد ياسين يوسف هو الشاعر الطموح الأسمى في مجرات الإبداع والتميز الراقي وبعناوين الجمال والروعة التي تليق به من إنجازات كبيرة ورائعة جدا في مجال كتابة النص النثري الممتلئ والحداثوي، إضافة إلى كيفية التعامل مع أسلوبية فذة ترتقي لمستوى قياسي جديد من خلال الطرح المميز لشاعر الأشجار وإمكانياته في بناء الجملة الشعرية التي ترتقي لمستوى الاهتمام الضروري في عملية التأسيس وإبراز الجوانب الفكرية البارزة في عملية الطرح الجميل والمهم إضافة إلى كيفية استخدام الدلالات التفاعلية والاستعارات الصورية الوصفية البنائية في هيكلة القصيدة النثرية الجديدة المقرونة بتماسك قوي ورصين.
اعتمد الشاعر على بناء الفكرة داخل النص..والإمساك بها ضمن وحدة الموضوع، والفكرة هي إحدى عناصر القصيدة النثرية إضافة إلى الخيال والاسلوب التعبيري لصناعة النص بطريقة تقنية جديدة.
أما الكاتب يوسف عبود جويعد فقد قال في ورقته:
في المجموعة الشعرية (الأشجار تحلّق عميقاً) للشاعر سعد ياسين يوسف، نكتشف الرؤية الفنية التي أراد الشاعر تثبيتها وترسيخها وضمها ضمن بنية النص الشعري، لتكون حاضرة في عملية التشكيل والتكوين في القصيدة الشعرية النثرية، كما أشار لها في بنية العنونة سالفة الذكر، فعملية التحليق بالمتلقي وسحبه والهيمنة على حواسه وشحذ ذهنه وزجه وسط النص الشعري، ليحلق عميقاً مع القصيدة، ليس بالأمر الهين، ولا هو محظ صدفة جاءت ضمن صناعة القصيدة، بل أنه يتطلب حرفية ووعياً، وعملية اتحاد أدوات وعناصر ومكونات النصّ الشعري وتطويعه وجعله عجينة طرية يتحكم الشاعر في صناعتها حيث يشاء، تحتاج الى تخطيط مسبق، وسياق فني فطن وحاذق، وقدرة على إظهار عملية التحليق في النص الشعري.
إنَّ عملية صياغة القصيدة على هذا المنحى تتطلب من الشاعر، إعادة بناء جديدة وحديثة ومبتكرة، لكي يستطيع إيصال ما يبغي منها إلى المتلقي، بصورته الموحدة المحلقة فعلاً وصناعة، وعندما نقوم بتفكيك النص للوصول الى هذه الصورة الفنية داخل النص، نجد أنَّ الشاعر عمل على جعل قصيدته، متصلة متوحدة بكتلة متماسكة، باختياره لمفردات عميقة ودالة وقادرة على جعل المتلقي يحلق مع القصيدة ويتوحد معها، كونها خالية من التقطيع، متواصلة مع بعضها، ترتبط بوحدة موضوع وثيمة وإيقاع مدروس ينساب كالسحر الى ذهن المتلقي، فيبحر وسط بحر عميق، ويحلق في هذا العالم الشعري، وفق تراكيب فنية متقنة.
إنَّ الشاعر سعد ياسين يوسف، الذي أطلق عليه النقاد لقب شاعر الأشجار، ينتمي الى الشجرة بكل تفاصيلها، جذورها، أغصانها، أوراقها، ثمارها، نحيبها، غنائها، فرحها، شهيقها وزفيرها، وأنه منذ أن كتب الشعر وحتى هذه المجموعة، كانت الشجرة زاده وزواده في عملية البناء حتى أضحت صفة وسمة يتسم بها، حيث ينقل لنا في مستهل هذه المجموعة الشعرية مقولة لابن العربي يقول فيها:
"إنّي نظرتُ إلى الكونِ وتكوينهِ، وإلى المكنون وتكوينه، فرأيت الكونَ شجرةٌ".
وهي رؤية فنية للشاعر للتأكيد على أن الشجرة جزء من الحياة، بل أنها الحياة بكاملها، لما تحمل من عطاء ثر، وتلك الرؤية سياق فني مهم في قصائد الشاعر، والتي حملت كل مجاميعه الشعرية رمز الشجرة بأشكال ومعان مختلفة في بنية العنونة قبل أن تكون أداة رئيسة في عملية صناعة القصيدة الشعرية، ومتنها النصي.
وهكذا يمنحنا الشاعر هذا السحر الذي نسميه التحليق، لنطوف طوافاً متصلاً غير متقطع ولا متوقف مع النصوص الشعرية، وفي أولى قصائد تلك المجموعة التي تحمل عنوان (عطر اور) سنكتشف كل ما ذهبنا إليه
" من طينهِ الفراتِ
قُدَّ قلبُهُ، قارورةً من أور...
هذا الّذي هفا للضَّفّةِ الأخرى
بصدرهِ المسكونِ بالنُّورِ
أجنحةً ما صَدَّها
انهمارُ نيرانِكَ
الّتي أضحى بها مسلةً،
زقورةً.....
ترفعُ للسَّماءِ ما تبقى...
وكل ما ذكرناه سالفاً، وهو يطوف بنا مع الحضارة العريقة لهذا البلد، وهو يقدم لنا صورة شعرية رائقة عن الباحثين عن الوطن:
وفي قصيدة (مقِصُّ أبي) نكتشف هذا التحليق الشعري أكثر وضوحاً، حيث يضع لنا الشاعر صورة شعرية رائقة للأب وجوده ومكانته ودوره الكبير في الأسرة، لنحلق بهذه القصيدة عميقاً إلى الجذور:
" مُذْ أمسكَ بمِقَصِّ حياتهِ
الّذي كادَ أنْ يُطبقَ على غُصنه ِ
وهو يقصُّ لنا قَصَصَ التَّكوينِ
لنغفوَ قبلَ الموقدِ
نَحلُم بالبحرِ المنشقِّ،
بالرُّطبِ المتساقطِ.
يتفقدُ عَنَّا الجمرَ، الأغطية َ
سقفَ الغرفةِ لو أثقلهُ مزاحُ المطرِ....
يقايضُ بردَنا بسِترتهِ...
حينَ يشحُّ غطاءُ الدفءِ.."
وهكذا يتضح لنا أنَّ هذا التحليق هو الطواف المتصل والبناء المتراص المتماسك، والنفس الطويل الذي لا ينقطع حتى تنتهي القصيدة، ويجد الناقد صعوبة عندما يحاول نقل نصّ من القصيدة في أي موطن يتوقف لأنها متصلة، حتى يجد له منفذاً بالكاد يتوقف من خلاله، وعن وحشة البلاد، وعن الجمر المتقد بداخل الروح حباً بها يقدم لنا الشاعر قصيدته الشعرية (ما زَرَعتهُ البلادُ) التي تحلق بنا بعمق اكبر وأشد ضراوة:
"موحشٌ هو البحرُ
لا أشجارَ تصطفُّ على شاطئه ِ
تشيرُ بأغصانِها لموج ٍ
لن يعودَ...
إلا بحبّاتِ رملِ التَّوجّسِ"
وبالرغم من أنني اخترت نماذج من هذه المجموعة، إلا أن كل القصائد التي ضمتها، هي بمثابة تحليق عميق نحو العالم الساحر، والفضاء الرحب، والمفردة المنتقاة المعبرة، والخط المتواصل المتصل غير المنقطع والسياق الفني المحكم، لعملية بناء القصائد، التي تحمل معنى التحليق في رؤية فنية ضمن متن النصّ، لتظهر القصيدة وكأنها تدعونا لهذا التحليق الجميل.
الأستاذ رضا المحمداوي وفي ورقته قال:
منذ سنوات عديدة إجترحَ الشاعر سعد ياسين يوسف منطقة إشتغال شعري خاصة به، وظلَّ خلال إنجازاته الشعرية المتتالية طوال السنوات الماضية يحفرُ في تلك المنطقة الشعرية وينثرُ فيها بذورَ أشجارِهِ التي غدتْ الآن شديدة الخضرة،دانية القطاف، وارفة الظلال،لتصبحَ في المحصلة الأخيرة من العلامات الدالة على تجددهِ ومثابرتِهِ وحرصهِ على خصوصيتهِ ودأبهِ من أجل المحافظة على هذا العطاء الشعري المتميز وخصوبة تجربته.
لقد استعار الشاعر سعد.. هنا روح ذلك الفلاح السومري المثابر الدؤوب الذي يزرع حتى صفحة الماء الجاري حيث علَّمَ القصب والبردي أنْ يمدَّ جذورَهُ في تلك الممالك المائية الطافية.
يعالجُ الشاعر سعد ياسين يوسف موضوعاته وأفكاره الطافحة بالتأمل والخيال معالجةً قائمةً أساساً على صور النمو والإخضرار والحياة ومفرداتها ومترادفاتها الأخرى،وبإيقاع شعري ينسابُ متدفقاً في جذور القصيدة.
وهو يناغي أشجارَ قصائدهِ مثلما يناغي الطفلُ أبجدية اللغة التي أخذ يتعلمها للتو، ويُسمّي قصائدَهُ باسماء الأشجار، فهذه (شجرة العروج) وتلك (شجرة المفاتيح) وهذه (شجرة الانتظار) وتلك (شجرة كربلاء) أمَّا هذه فهي (أشجار لاهثة في العراء) فقد أخذ اسمها وجعلَ منها عنواناً جامعاً لقصائد مجموعته السابقة.. وبعد كل ذلك تحوَّلتْ القصيدة لدى الشاعر إلى شجرة.. شجرة ملتصقة بطين جذورها.
وكنموذج للتعامل أو التعاطي مع مفردات الشاعر وأفكاره وموضوعاته أُوردُ هنا،هذا المقطع القصير للتعبير عن إرادة الحياة وقوتها والانتماء الى الطبيعة والكشف عن سرّ ديمومتها.
" الشجرة التي غادرها الحطابون شتاء
بعد أنْ أسالوا دمها الأخضر
وقطعوا جذعها مقاعد لجلوسهم
واحرقوا غصونها لدفء ملذاتهم
في حفل شواء
لم تشهده الغابة من قبل
لوَّحتْ للربيع
بغصن صغير يرفعُ سبّابتهُ نحو الأعلى
هو الأقرب إلى الأرض."
وفي ختام الجلسة قدم الأكاديمي أ. الدكتور والفنان التشكيلي ماجد البيضاني باقة ورد للشاعر بالمناسبة.
***