تقارير وتحقيقات
ثلاثون عاماً بدون الاتحاد السوفيتي، على من يقع اللوم؟
مقدمة للصحيفة الثقافية الروسية:
(ليتراتورنايا غازيتا)
ترجمة: عادل حبه
بحلول آب وكانون الأول عام 2021، تحل الذكرى الثلاثون لإعلان لجنة الدولة للطوارئ الحكومية واتفاقيات بيلوفيجسكايا عن تفكك الإتحاد السوفييتي. ومن المؤمل أن تظهر دراسات اجتماعية جديدة حول هذا الموضوع، علماً أن الصورة العامة غدت واضحة حيث يفتقد المواطنون الاتحاد السوفيتي ويتفقون مع فلاديمير بوتين الذي اعتبر انهيار اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية يمثابة كارثة جيوسياسية رئيسية في القرن العشرين.
في عام 2016، نشر مركز استطلاع الرأي العام الروسي معلومات تفيد بأنه بمناسبة مرور 25 عاماً على الاستفتاء الذي جرى في السابع عشر من آذار عام 1991، إوعبر 64٪ من الروس بكلمة "نعم" بشأن ضرورة الحفاظ على الاتحاد السوفيتي، (في جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية كانت النسبة 71٪).
وفي عام 2018، سجل مركز ليفادا زيادة في الحنين إلى الاتحاد حيث أعرب 66٪ عن أسفهم للانهيار، الذي كان أعلى مؤشر خلال 10 سنوات من استطلاعات الرأي حول هذا الموضوع. ويحري تتبنى فكرة أن الاتحاد السوفييتي "كان من الممكن الحفاظ عليه" من قبل عدد أكبر من المشاركين: 60٪ مقابل 52٪ على التوالي.
وفي الوقت نفسه، تم الإعلان عن مؤشر مهم للغاية في مسح أجراه مركز استطلاع الرأي العام الروسي لعام 2016، ردا على السؤال السري "على من يقع اللوم"، حيث وزع الروس المسؤولية عن الانهيار على النحو التالي: غورباتشوف – 36٪، يلتسين – 13٪ ، الولايات المتحدة والغرب – 2٪ ، "لا أحد يلام" – 1٪ ، ومما يثير أكثر من الاهتمام هو أن 40٪ من المشاركين في الاستفتاء أعربوا عن صعوبة الرد على هذا السؤال.
ومع ذلك ، في روسيا وخارج حدودها، ربما هناك المزيد من "أولئك الذين يجدون صعوبة في الرد على هذا السؤال". وعلى هذا الموضوع خصصت صحيفة ليتراتورنيا غازيتا عموداً جديداً في الصحيفة بمناسبة مرور ثلاثين سنة على انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث ستنشر مواد نقاشية حول أسباب انهياره ووجهات نظر شهود عيان. وتولى سيرجي جورجيفيتش قره ميرزا مهمة البدء بهذه الحلقة النقاشية بالعنوان التالي:
لم يبدأ انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1985، بل قبل ثلاثين عاماً من هذا التاريخ
يورد الفليسوف وعالم الاجتماع الإسباني خوزيه اورتيغا غاسيت المقولة التالية:"بالنسبة للتاريخ، لا تعني الحياة السماح لنفسك بالعيش كما يحلو لك، فالعيش يعني بجدية الانخراط بوعي في الحياة، وكأنه مهنتك. لذلك من الضروري أن يهتم جيلنا بوعي كامل بمستقبل الأمة بشكل منسجم". وعند الحديث عن انهيار الاتحاد السوفيتي، يمكن للمرء أن يستعين بالعبارة البسيطة التالية: لقد أصبحت البيريسترويكا عملية خاصة بالحرب الباردة تهدف إلى تمزيق أواصر الشعب". ولكن إذا كانت العودة الى الماضي مشروطة بالنظر إلى المستقبل، فإن هذه الصيغة لا تعتبر كافية.
وعلاوة على ذلك، فإن الاتحاد الروسي بإعتباره نوع من أنواع الدولة القومية فهو على شاكلة الاتحاد السوفيتي السابق، ولكنه بحجم أصغر فقط. هذا يعني أننا مهتمون بشكل حيوي ليس فقط بفهم فلسفة وتقنية التفكك التي كتب عنها الكثير، بما في ذلك من قبل كاتب هذه السطور، ولكن أيضاً في تحديد الأسباب العميقة الحقيقية للأزمة. فلم يتم إضمحلال الإتحاد السوفييتي في عام 1985، بل حتى في عام 1955. لذا، فعند تناول الماضي، سنبدأ في الواقع ، في إنعكاسه على الحاضر والمستقبل.
تمر روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي بأزمة منذ ثلاثين عاماً، ولم ينتج العديد من علماء الاجتماع ولو مؤلف واحد من شأنه أن يشرح بوضوح للناس ما حدث وإلى أين تتجه البلاد. تعيش المعرفة العلمية وتنمو فقط في المجتمع، لكنها لم تكن موجودة في التسعينيات، ولم يتم إحياؤها في حد ذاتها. لذا أصبح الجيش حشداً منزوع السلاح وفقد فعاليته القتالية.
التصنيع
نحن لم نتعلم من أي درس من دروس الماضي ، بما في ذلك عدم دراسة الغرب بشكل صحيح. وهذه واحدة من الصفحات المفقودة. ويشير ك. بولاني في كتابه الصادر عام 1944 بعنوان "التحول العظيم" عن عملية تشكيل الرأسمالية في الغرب قائلاً:"لقد استحوذ الإيمان بالتقدم العفوي على وعي الجماهير، وإستنارت الأكثرية بالتعصب الطائفي الديني وانخرطت في إصلاح غير محدد وغير منظم للمجتمع. وكان تأثير هذه العمليات على حياة الشعوب فظيعاً لدرجة أنها تفوق أي وصف. في الواقع، كان من الممكن للمجتمع البشري أن يهلك لو لم تُضعف التدابير الوقائية المضادة عمل آلية التدمير الذاتي هذه ".
في عام 1989، اندلعت احتجاجات عمال مناجم دونباس وتشكلت عندها البيئة المناهضة للسوفييت في هذه البيئة أيضًا. لا تتوقف الغريزة الطبقية ولا الفطرة السليمة تقف عند حد أزاء التقهقر والفقر والحرب
لقد حدثت نفس العمليات في بلدنا، ولكن مع بعض التأخير. ولم تلاحظ السلطات ولا الشعب كيف كانت الغيوم تتجمع. وكيف تتحرك صوبنا من جهة الغرب.
لذا فقد تسبب التقدم والتصنيع صدمة في المجتمع. دعونا نوضح الفكرة باقتباس آخر على لسان مؤرخ الطب النفسي إل سيسه:
"لم تكن أمراض الشيزوفرينيه موجودة على الإطلاق، على الأقل بأعداد كبيرة، حتى أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. وبالتالي، يجب أن يكون ظهورها مرتبطاً بفترة مكثفة بشكل استثنائي من التغييرات في اتجاه التصنيع في أوروبا، في فترة إعادة هيكلة عميقة لطريقة الحياة الإجتماعية التقليدية ، والتراجع أمام أشكال تنظيم اجتماعي أكثر تفرداً وانقساماً ".
وكان على جميع البلدان، وبدرجات متفاوتة، أن تمر "بتغييرات في اتجاه التصنيع". وأصبحت أزمة التصنيع أساساً مشتركاً، بغض النظر عن التشكيلات الاجتماعية. ولكن في الاتحاد السوفياتي، لم تر السلطات ولا الشعب ولا علماء الاجتماع هذه العملية بالغة الأهمية، والتي أثارت انقساماً ضمنياً في المجتمع. ومع ذلك، أصبح هذا الانقسام الضمني عاملاً حاسماً في أزمة النظام السوفييتي.
من الضروري التفكير في هذا العامل الأساسي الذي لم ينتبه إليه مجتمعنا في عقد الخمسينيات وما زال لا يعار الإنتباه إليه.
وفي هذا الصدد، من الضروري الاهتمام بالمفاهيم التي طرحها عالم الاجتماع الفرنسي إي. دوركهايم في نهاية القرن التاسع عشر حول التضامن الميكانيكي والتضامن العضوي. التضامن الميكانيكي هو سمة من سمات المجتمع التقليدي ما قبل الصناعي، إنه مجتمع قائم على الأسرة، وهو عبارة عن خضوع صارم للجماعة، إنه تماسك قوي قائم على القيم المشتركة والضمير الجماعي. أما التضامن العضوي فهو نتيجة التصنيع، إنه التنوع في الآراء والدوافع والوظائف، إنه تكامل المجتمع على أساس التبعية المتبادلة المرتبطة بتقسيم العمل.
بحلول نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، بقيت علائم التضامن الميكانيكي فقط في الريف والجيش. وعلى العموم، شرع المجتمع السوفييتي بتصفية التضامن الميكانيكي، آخر تضامن متماسك للمجتمع. ونحن لم نر ما يحدث، ولم ندركه.
عملية الاضمحلال
في عام 1956، كنت أتلقى الدراسة في جامعة موسكو ، وإليكم ما حدث: فقد أعلن طلاب إحدى كليات العلوم الإنسانية مقاطعة المقصف، لم تعجبهم النقانق. وصل سكرتير لجنة الحزب وبدأ بالحديث: طريقتكم عديمة الجدوى، هناك طرق أخرى. اعتصم الطلاب بالقرب من المقصف ولم يسمحوا لأي شخص بالاقتراب منه. وجرت محاولات لإقناعهم، وإرهابهم، وتقديم الوعود.. ولكنهم علقوا الشعار التالي: "إذا كنت لا تريد أن تأكل مثل الماشية، فعليك المشاركة بدعم المقاطعة!" وتوجهنا إلى كليات أخرى لتحريكها. اعتبرت أن فكرتهم التي صدمتني بأنها غبية، تمت صياغتة شعار آخر على النحو التالي: "سنهز هضاب لينين". لم يفهم المحتجون حتى لماذا أدى مقاطعة البعض للبوفيه إلى هروب كل قيادة جامعة موسكو. وقام رئيس الجامعة الأكاديمي أ. بتروفسكي والأساتذة القدامى وحتى الطهاة بتحذيرهم، ولكن كل ذلك مر بدون جدوى.
نعم، كان رئيس الجامعة في حيرة من أمره. الأطفال المدللون يتمردون على أسرهم! وقال رئيس الجامعة في اجتماع لجنة الحزب: "بعد كل شيء ، كان كل شيء على ما يرام معنا، وفجأة حصل الإضراب!"، كما تحدث عن أشياء اعتاد الحديث عنها، على سبيل المثال، عن الدروس العملية في المختبرات.. وفقد أعصابه وقال: "فجأة - إضراب! لا أعلم ماذا سيحدث غدا! إنه لمشهد مخيف! لا نعرف البيئة التي نجد أنفسنا فيها الآن .. إنها تخيفني! ".
في عام 1955. في الصفوف لمنظمة للمتظاهرين ، لم يكن الانقسام في المجتمع واضحاً بعد
أخبر الأساتذة الطلاب بطريقة بسيطة: المقاطعة تعد تحد سياسي. ولكن لم يفهم طلاب العلوم الإنسانية أساتذتهم. ولم يفهموا الإختلاف بين أساليب "المجتمع -الأسرة" عن أساليب "المجتمع - السوق". إن هؤلاء الأشخاص بالتحديد، الذين لم يفهموا مثل هذه الأشياء، أصبحوا في المستقبل النخبة الإنسانية في مجتمعنا. في الواقع، لقد قتلوا المجتمع، ولم يعرفوا ماذا كانوا يفعلون. لهذا السبب كان رئيس جامعة موسكو الحكومية خائفاً - لقد رأى في ذلك نهاية العالم.
تدريجياً، ظهرت مجموعات غريبة من الطلاب والأساتذة، حيث بدأت معاداة السوفييت الغريبة علينا بالظهور، على الرغم من أنه النادر أن يسمع المرء حججاً حول عدم قابلية النظام الذي يحكم الدولة، وكان هناك أيضاً من تحدث عن الحاجة إلى القيام بثورة، وسماهم أحد الطلبة بـ "ثورة الشيوعيين الأماجد". في المختبر مساءً، تباجل الطلاب الحديث وتناقشوا - ولكن هل كان من الممكن التعامل مع التصريحات الخطيرة بدرجة مناسبة من الإنتقاد، ففي النهاية، كان هؤلاء هم رفاقنا الطيبون ... إنهم عائلتنا!.
والآن، بالعودة إلى حكاية النقانق عام 1956 - والصورة لا ترجع حتى إلى عام 1991، ولكن اقرب الينا من عام 1993: في منطقة سفيردلوفسك جرى تبني دستور جمهورية الأورال. وحدث الشيء نفسه في منطقة فولغوغراد. وأعلن أحد "المشرفين على البيريسترويكا" ل. باتكين :"من هو الذي يقدم الصيغة المصممة لروسيا موحدة وغير قابلة للتجزئة؟..... إلى الجماهير الأمية؟ .. أحثكم على التوصل إلى حلول تستند إلى حقيقة أنه الآن ، في موجة آب ، لدينا فرصة تاريخية كبيرة لإصلاح روسيا حقاً . دعونا نهز هضاب لينين!".
قبل فترة سبقت البيريسترويكا، وقبل انهيار الاتحاد السوفيتي وحتى عام 1993، دخلنا في دهليز مختلف. وبدأ البعض في التفكير وهم فقط تحت أنقاض البلاد، وفي سراديب الموتى.
التضامن
أدت التغييرات العميقة في طريقة الحياة، وهيكلة المجتمع، والثقافة حتماً إلى الانتقال من التضامن الميكانيكي (المجتمعي) إلى التضامن العضوي جراء التصنيع وتقسيم العمل الجديد والتطور السريع في الصناعة والتعليم، وظهور العديد من المهن التي جعلت المجتمع في وضع متنوع وغير متجانس.
ويمثل الانتقال من التضامن الميكانيكي إلى التضامن العضوي، كضرب من التحضر، ووجه صدمة شديدة. وهذا ما أدى إلى تفاقم الأزمة الثقافية في المجتمع السوفياتي. لقد أصبحت الحرب الوطنية العظمى علامة فارقة في تطور المجتمع السوفيتي. وأفضت الطاقة المتراكمة في الحرب إلى الإبداع والبناء والتنمية – وتسارع عملية التحضر. وإحتظنت المدن الجديدة جيل شباب ما بعد الحرب، ورزقوا بالأطفال.
إننا نتذكر الآن مصدر نمو المشروع السوفيتي، وما هو أساسه؟ إنه نشأ من رؤية الفلاحين. وكانت هذه الرؤية متأصلة إلى حد كبير في "أطفال الحرب"، الذين تذكروا مآسي الحرب والحرمان. لكن أطفال "أطفال الحرب" أصبحوا مراهقين وشباب في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي ولم يعرفوا الحرب ولا الكوارث الاجتماعية الجماعية، ولكن السلطات واصلت، كما هو الحال في عقد الخمسينيات، استمرت في الحديث معهم بلغة " شعبوية "،" بشيوعية الفلاحين "... لكن ببساطة لم يفهم شباب السبعينيات والثمانينيات هذه اللغة، وبمرور الوقت بدأوا في السخرية منها.
كانت الاشتراكية التي بناها البلاشفة مع الشعب فعالة كمشروع للناس المنكوبين. لكن هذا المشروع لم يلب احتياجات مجتمع مزدهر، مجتمع عانى بالفعل ولكن نسى المشاكل التي أصبحت من الماضي. في الاتحاد السوفياتي، لم تكن الدولة مستعدة لموجهة هذه الأزمة في المجتمع السوفيتي. ومن سوء الحظ، لم تتعامل العلوم الاجتماعية والإنسانية في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية مع هذه المهمة. وصحيح أن العلم لم يستطيع التعامل معها حتى في روسيا الحديثة. في كتابه حول تقسيم العمل الاجتماعي، أشار دوركهايم إلى أن تغيير نوع معين من المجتمع إلى نمط آخر، والانتقال من التضامن الميكانيكي إلى التضامن العضوي، ترافقه حتماً أزمة أخلاقية عميقة:
"في فترة زمنية وجيزة، حدثت تغيرات عميقة في بنية مجتمعاتنا ؛ فقد تحررت حرروا أنفسهم من النموذج القطاعي بسرعة وبمقاييس لم يشهدها التاريخ من قبل. لذلك ، ولذا فإن الأخلاق المتناسبة مه هذا النموج شهدت تراجعاً، لكن النمط الآخر لم يتطور بالسرعة الكافية لملء الفراغ الذي خلفته الأخلاق القديمة في أذهاننا. واهتز إيماننا؛ وفقدت التقاليد هيمنتها، وتحرر الإجتهاد الفردي من الاجتهاد الجمعي ... وبدا وكأن الحياة الجديدة قد تفجرت للتو، كانت تنفجر، ولم تكن قادرة بعد على تنظيم نفسها بالكامل. وعلاوة على ذلك، لم تتمكن بعد من تنظيم نفسها بطريقة تلبي الحاجة للعدالة التي استحوذت على أفئدتنا. إذا كان الأمر على هذا النحو، فإن علاج الشر لا يكمن في أي حال من الأحوال في السعي لإحياء التقاليد والعادات بأي ثمن، والتي لا تستجيب للظروف الاجتماعية الجارية، إذ يمكنها فقط أن تعيش حياة مصطنعة ومظهرية. ما نحتاجه هو إنهاء الشذوذ، وإيجاد وسيلة لجعل الأعضاء التي لا تزال تتصادم في حركات غير منظمة تتعاون بانسجام، وتحقق المزيد من العدالة في علاقاتها، وإضعاف مصدر الشر بشكل متزايد، إضافة إلى أنواع متفاوتة من عدم المساواة الخارجية ... وبإختصار، فإن واجبنا الأساسي في الوقت الحاضر هو خلق أخلاق لأنفسنا ".
لذا ، "أوقفوا الشذوذ" - أي التخلي عن عزل الشخصية عن المجتمع، وعن الإحباط ، وعن عدم تنظيم القواعد والمؤسسات.
بالنسبة للعديد من الناس، كان النظام السوفيتي ملكاً لهم، ولكن في الحياة الجديدة في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، أصبح هذا مجرد أسطورة. لم يستطع السوفييت والشيوعيون المخلصون فهم المنظومة السياسية للبيريسترويكا، حيث وجدوا أنفسهم مقيدين بمفاهيم وهياكل عفا عليها الزمن. من الواضح أنه لم يكن لدى أحد تقريباً معرفة حديثة بالعمليات الاجتماعية، ونتيجة لذلك، تبين أن الغالبية عاجزة في ميدان السياسة، سواء من اليسار أو اليمين، أو من الباحثين في العلوم الاجتماعية.
يمكننا القول أنه خلال 15 عاماً من الهزيمة المستمرة للبلاد، كنا، نحن المجتمع، متسترون بضباب كثيف من الجهل. كما أدى هذا الضباب إلى فقدان البصيرة لدى "الشعب البسيط" والعمال والعاملين في الحزب والأيديولوجيين، أولئك الذين يقع على عاتقهم ضمن واجبهم التواصل المباشرة مع الناس وشرح جوهر تلك اللحظة التاريخية.
طلاب جامعة موسكو يتوجهون إلى الفصول الدراسية عام 1955
في إطار برنامج البحث الدولي "بارومتر الديمقراطيات الجديدة" الذي عقد في آب عام 1996، نُشر تقرير قائدي المشروع R. Rose و K. Harpfer. وتوصلا إلى الاستنتاجات التالية: "في الجمهوريات السوفيتية السابقة، لا أحد يقدم عملياً تقييمات إيجابية لكل النظام الاقتصادي السوفييتي ، وتم إعطاء تقييمات غير إيجابية للنظام الاقتصادي السوفيتي: في روسيا 72٪ ، في بيلاروسيا 88٪ ، في أوكرانيا 90٪."
وهكذا فعل منطق الاضمحلال مفعوله.
الاقتصاد السياسي
لقد تم إعداد أول كتاب مدرسي عن الاقتصاد السياسي للاشتراكية بعد عشرين عاماً من المناقشات حوله؛ أي في عام 1954 فقط! ففي خلال أكثر من ثلاثين عاماً، ظل الاقتصاديون يتجادلون حول "خلافاتهم" حول مضمون الكتاب، وحول تجريدات الآخرين. ولم يلاحظ الأكاديمي ك. أوستروفيتيانوف نفسه، مؤلف الكتاب المدرسي ، هذا الأمر!
في عام 1938 ألفوا نموذجاً للكتاب المدرسي "الاقتصاد السياسي"، وفي عام 1940 تم تأليف نموذجان آخران. وأجّل ستالين النشر قدر استطاعته، وتمت مناقشة الكتاب المدرسي في اجتماعات مع ستالين في عامي 1941 و 1951. (هو نفسه عمل عليها لعدة سنوات). في عام 1941 علق ستالين معلقاً: "إذا بحثتم عن إجابات لجميع أسئلتكم من ماركس، فسوف تضيعون. علينا أن نعمل مع رؤوسنا بأنفسنا، ولا ننخرط في اقتباسات متوترة. لم يستطع ماركس أن يتنبأ بالاشتراكية بكل مضمونها، ولكن يوجد الآن معمل يسمى الاتحاد السوفيتي. لذلك، يجب أن نأخذ في الاعتبار كل تجاربنا الثرية وأن نفهمها نظرياً ".
عقد الخمسينيات، الشعب السوفيتي كان بحمل وجهة نظر "شيوعية الفلاحين"
في عام 1951 جرى نقاش بين الاقتصاديين، وأدلى ستالين بتعليقاته. في عام 1952 التقى بمجموعة من الاقتصاديين، ولكنه توفي في عام 1953. وفي عام 1954 فقط، أي بعد 18 عاماً من إعلان الحزب انتصار الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي، تم نشر كتاب "الاقتصاد السياسي للإشتراكية". وبدأ تفسير اقتصاد اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية تدريجياً في مقولات الماركسية (بتعبير أدق ، في مقولات الرأسمالية) ، وأخذت النظرية تبتعد أكثر فأكثر عن الممارسة، وكان ذلك بداية لمرض خطير أصاب الاتحاد السوفياتي.
دعونا نتذكر أن زعيم الحزب الشيوعي الإيطالي أ. غرامشي ، في مقالته "ثورة ضد رأس المال" (1918) ، عبر عن فكرة مهمة حول الثورة الروسية: "هذه ثورة ضد" رأسمال" كارل ماركس. ففي روسيا، أضحى كتاب ماركس رأس المال كتاباً للبرجوازية وليس للبروليتاريا ".
في القرن الحادي والعشرين، نُشر الكتاب المدرسي "الاقتصاد السياسي" الذي طال إنتظاره في الهند ، وفي الصين ، حيث تابعوا عن كثب المناقشة في الاتحاد السوفياتي حول الاقتصاد السياسي للاشتراكية. وعلقت مقدمة الطبعة الهندية: "كانت هذه الكتب مهمة في شرح الاقتصاد السياسي للرأسمالية، لكنها لم تتحدث عن الأساس الاقتصادي للاشتراكية ... بين عامي 1953 و 1955 ، حدثت تغييرات جذرية في في اقتصاد الاتحاد السوفياتي بروح من الليبرالية الجديدة".
كان لدينا نماذج مختلفة: الاقتصاد السياسي لرأسمالية ماركس، وفي إطار علم الوجود، هناك الاقتصاد السياسي للينين - علم الصيرورة. وعلى هذا الأساس الأيديولوجي، حاولت النخبة الروسية الانتقال من واقع الاتحاد السوفياتي إلى الرأسمالية العالمية. ومن هنا استمر فعل منطق الإضمحلال.
عشنا بعد عام 1955 حالة من القصور الذاتي، ولم يكن أحد في الاتحاد السوفياتي على الإطلاق يتخيل أنه في غضون 30 عاماً، نتيجة البيريسترويكا ، أصبح الجنرال السوفيتي دوداييف والشاعر يانداربييف وعالم المياه باساييف منظمي دولة شبه إرهابية!
يتذكر الجيل الأكبر سناً الإضطرابات التي إقترنت بالبيريسترويكا: قتل الأتراك المسخاتيين في وادي فرغانة، والمذابح في سومگئيت، والحرب في ناغورنو قره باخ مع مذبحة اللاجئين ، والحرب الأهلية في طاجيكستان. وفي يونيو 1992 أصدر زعيم مولدوفا، سنيغور، أمراً بشن هجوم صاروخي على الاحتفالات المدرسية مما أودى بحياة ستمائة قتيل وتشريد 160 ألف لاجئ.
وبعد الأحداث الدموية التالية، وصلت إلى أسماعنا عبارات محيرة من قبل من يطلق عليهم عادة النخبة: "نحن لا نعرف المجتمع الذي نعيش فيه". أو: "كنا في الواقع فاقدو البصيرة نُقاد من قبل مرشدين مكفوفين".
كتب عالم اجتماع الثقافة ل. لونين في عام 1995: "أدى موت الثقافة السوفيتية إلى تفكك صورة العالم التي كانت قد تشكلت لعقود، الأمر الذي لا يمكن إلا أن يؤدي إلى ارتباك هائل وفقدان الهوية على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة، وكذلك على مستوى المجتمع ككل ".
وقدأعلنت مديرة مركز سيربسكي للطب النفسي الجنائي وزيرة الصحة السابقة في الاتحاد الروسي ت. ديميترييفا في أحد المؤتمرات عام 2005:" أن مستوى الاضطرابات النفسية قد زاد 11.5 مرة منذ بداية التسعينيات. وإن معدلات الوفيات والمرضى المصابين بالاضطرابات النفسية آخذة في الازدياد، وعلى وجه الخصوص، فإن 80 ٪ من السكتة الدماغية في البلاد حدثت على خلفية الاكتئاب. كل هذه علامات على مرض روحي خطير". وأستطردت دميترييفا: "على مدى العقد الماضي، زاد عدد المواطنين الروس الذين يعانون من اضطرابات نفسية بنسبة 40٪، وفي كل عشر سنوات يزداد عدد أطفال المدارس الذين يعانون من اضطرابات نفسية بنسبة 10-15٪، و بين المراهقين الروس يصل هذا الرقم إلى 70-80٪ ".
وأشار ت. ديميترييفا في مؤتمر "الطب النفسي الاجتماعي للمستقبل" المنعقد في عام 2008: إلى أنه"من الممكن أن يؤدي الوضع الحالي بالتأكيد، بالإقتران مع الأزمة المالية، إلى زيادة عدد الفقراء، وقد تنشأ حلقة مفرغة عندما يتعمق الفقر وعدم إمكانية توفير الرعاية الصحية مما يؤدي إلى تدهور منظومة الرعاية الصحية، بما في ذلك الصحة العقلية. ولذا يجب أن تبدأ جميع مرافق الخدمات النفسية منذ اليوم العمل بجدية بالغة لدعم الحالة النفسية للسكان ".
إن ضغوط نفسية واجتماعية وثقافية جديدة: كالإرهاب الدولي، والموجة العبثية من العنف في أوكرانيا من شأنها أن تعمق من الأوضاع السلبية. ونحن على علم بأن الناس الذين عاشوا الكوارث وتعرضوا لصدمة ثقافية قوية يقعون في دهليز الشذوذ. ولا يختلف الشذوذ الذي اقترن بأزمة التصنيع في القرن التاسع عشر عن شذوذ روسيا الحديثة. وفي مظاهر الأزمة الراهنة، يمكن للمرء أن يخمن مشاكل كل من الاتحاد السوفيتي وروسيا في فترة التسعينيات.
إننا نعلم أيضاً أن الانهيار في الحرب يحدث في لحظة إنعدام التوازن المستقر، حيث يمكن تحريكه بلمسة إصبع. وفي مثل هذه اللحظات، لا تلعب الشروط المسبقة الدور الحاسم ، ولكن فعل "مشعلي الحرائق"، وهم مجموعات اجتماعية صغيرة ولكنها نشطة تقوم بدور "الفتيل".
..................
* لجنة الدولة لحالة الطوارئ في الاتحاد السوفياتي،هي سلطة معلنة ذاتياً في الاتحاد السوفياتي كانت موجودة في الفترة من 18 إلى 21 أغسطس 1991. وضمت عددا من كبار المسؤولين في الحكومة السوفيتية. عارض أعضاء لجنة الطوارئ التابعة للدولة سياسة البيريسترويكا التي انتهجها رئيس اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية إم إس جورباتشوف ، وكذلك وقفت ضد التوقيع على معاهدة اتحاد جديدة وتحويل الاتحاد السوفياتي إلى اتحاد كونفدرالي لدول ذات سيادة ، والذي لم يتجاوز 9 من أصل 15 جمهوريات اتحادية يعتزم دخولها. كان المعارضون الرئيسيون للمشروع هم من أنصار رئيس جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية يلتسين .