مرايا فكرية

المثقف في حوار خاص مع الدكتور سامي عبد العال (10)

خاص بالمثقف: الحلقة العاشرة مع الدكتور سامي عبد العال، أستاذ الفلسفة في جامعة الزقازيق، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول آفاق الفكر الفلسفي، فأهلاً وسهلاً بهما:

***

القسم الثالث: الدين والأخلاق وفلسفة القيم (2)

س 29: أ. مراد غريبي: ما تعليقكم حول الفصل الممنهج القائم بين الأخلاقي والديني في مختلف حقول المعرفة الدينية، أي ماذا عن أخلقة الفقه في مشوار تأسيس فقه الأخلاق، ولماذا فلسفة الأخلاق عند البعض هي ضد فلسفة الفقه، كون الحقيقة الدينية تنبع من الضرورة الأخلاقية في مدينة الإنسان المؤمن؟

ج 29: د. سامي عبد العال: دعُونا نطرح مسألةَ العلاقةِ بين الاخلاق والدين بطريقةٍ مختلفةٍ. فعادةً حينما نتعرض للأخلاقيات، نقول ينبغي كذا ويجب كذا.. ويتعيّن كذا وكذا ... إلى آخر السلسلة. بحكم أنَّ الأخلاق علم معياري. والجانب المعياري يشدُ الأفكار نحو التفضيل المفترض لمسائله المطروحة. ويتميز بالأحكام التي تتسع للأفضل والأهم، كأنَّه يوجد في الإمكان أبدع مما كان.  علماً بأننا نحن البشر لدينا كمٌ غير قليل من الينبغيّات المغلِّفة للكلام، وقد نجعلها رافعة مفترضة لأوضاع لا نقبلها.

ربما الينبغيّات نظرةٌ مقلوبةٌ تضع الأعلى بالأسفل وترفع الواقع دون جدوى. فلو رأينا موقفاً لإنسانٍ أقل مما يحترمُ فيه شخصاً آخر، فسنقول له كان يجب عليك أنْ تُقدّر هذا الشخص وأنْ تحترم إياه، وأنه (ما كان ينبغي) حدوث ذلك. حيث يقفز الجانب المعياري ويدفع بصاحبه إلى الأمام. وهذا طرح تقليدي نجدهُ في الخطابات التي تلتقي عند حدود الدين والاخلاقيات. حدودٌ تبقى بارزة، حتى لو داخل كلاهما معاً. لأنّهما كثيراً ما يتبادلان الأدوار في حياة الناس.

أمَّا الطرح المختلف، فهو كالتالي: أنَّه لا يحدُث (إتصالٌّ أو انفصال) بين الاخلاق والدين إلاَّ إذا كانت ثمة مرجعية (يتم الاحتكام إليها وتأويلها) لصالح أغراضٍ معينةٍ. وسواء أكانت الأغراض مقبولةً أم لا، فهي الكفيلة بتوضيح العلاقة ابتداءً. ليس يهم جوهر تلك الأغراض، لكونها مرهونةً بمواقف أصحابها من الدين والاخلاق. والأغراض عملية ذات طابع برجماتي، وفي غير حالة قد تكون متسقةً مع الاعتقاد الغالب. على سبيل الشرح: عندما ترى (جماعة تأويلية ماhermeneutic community) – وكل مجتمع يتكون من جماعات تأويلية- أنَّ فصلاً للاخلاق عن الدين يخدم طريقةَ تفكيرها، فستشرع من فورها لتأكيد الفصل، ولن تكف عن محاولات تأويله. وعندما ترى جماعةٌ تأويلية أخرى أنَّ الاتصال أمرٌ مهم عملياً، فستكون هي أول المؤيدين لذلك الوضع.

دوماً العلاقة بين الطرفين تستند إلى طرف ثالثٍ بخلاف جوهري الدين والأخلاق، هذا الطرف الخفي الذي يبرر عمليات التأويل ويسوق الأهداف المبتغاة. وهو طرف المرجعية القابلة للتأويل، والتي تدفع المؤولين إلى استباق الواقع، وأخذ خطوات إلى الامام مقارنةً بالخطوات الآنفة. وستكون خطوةُ الفصل بين الاخلاق والدين خطوةً مقصودة وراء غبار الكلام هنا وهناك. ببساطة لأنَّ ثمة نتائج متحققة من وراء ذلك. وبخاصة أن كل جماعة تأويلية يهمها في المقام الأول تحقيق قدر كبير من التواجد الرمزي في عقول أفرادها، ويهمها ايجاد المردود العقلي الذي يوفر التماسك والمرونة للتعامل مع الحياة والعالم. وإذا ألقينا نظرة على تاريخ الأديان، سنجد أن الجماعات التأويلية كانت تتداول خطاباً ما، وكذلك تبادل تفسيرات معينة وهي جزء لا يتجزأ من أفق تأويلاتها المستعملة.

في المقابل، تعد الاخلاق سابقةً على المعتقدات، لأنها بمثابة البناء القيمي الحامل لأسس الأفعال والممارسات، كما أنها توجد حيث يوجد إنسان. فالأخلاق تنشأ عن وجود الآخر باختلاف مستوياته بين البشر، الآخر الذي لا تخلو منه حياة إنسانية صغرت أم كبرت، حتى بالنسبة لوجود الأنا أمام نفسه. والآخر أسبق دلالة وأكثر تعدُداً، لكونه وجوداً يعرفني على ماهيتي، على وجودى وقدراتي، بدءاً من الخالق وانتهاء بالمخلوق في تاريخ الأديان. ولذلك، فإنَّ الاخلاق هي إمكانية الدين عموماً، وطالما أنَّ انساناً يتخلق (أي يتحلى بالأخلاقيات)، فهو كائن بإستطاعته أنْ يؤمن لا العكس. أي تظهر الاخلاق ثمَّ يأتي الدين ... هكذا هو الترتيب المنطقي والتاريخي لباطن الإنسان. إذْ " لا يستطيع أنْ يتدين منْ لم يستطع أنْ يتخلُّق ".

ولكن.. ما الجديد في هذا الانفصال قيد الاستفهام؟!

إنَّ ما أطلقتم عليه " فصلاً ممنهجاً " هو الفصل المقصود وغير المحدود في الوقت نفسه. لماذاً؟! لأنَّ ذلك يؤخذ من زاويتين: زاوية الدين وزاوية الأخلاق. وكلتاهما زاويتان محوطتان بشكوك كثيرةٍ.

أولاً: من زاوية الدين. الزاوية التي ترى في الدين اتجاهين.

1-الأصولية الدينية (الحياة الأولى).

وهي نزوع نحو التمسك الحرفي بالأصول بما هي كذلك. فالأصول موجودة، ولكن توجهنا نحوها توجُه انقياد وتوجُه ايمان مطلق. أي يتم رسم الأصول في صورة كاملة ومثالية دون ريبٍ. فالبعض ينظر إلى الأصول بوصفها قائمة في حالةٍ من النقاء والخلوص التّامين. وعلينا التطلع إلى هذه الحالة المتفردة باستمرار، وأنَّه علينا التشبُث بها دون افلاتٍ. وقد لا نحتاج إلى أي شيءٍ آخر في هذا السياق.

ولكن الخطوة المنطقية اللاحقة هي أنَّ الأصول كانت موجودة عبر التاريخ الذي وجدت فيه وكان حاضنة لها، إذن يجب إحياء التاريخ الذي وجدت خلاله وتكوّن بدوره حولها. وأنْ نضم ما أفرزته الأصول السالفة من حياة إلى المعتقدات جنباً إلى جنبٍ. وليس هذا فقط، بل ستُبذل القداسة- كل القداسة- إزاء هذه الأصول والحياة التي انتجتها بالمثل. لا فارق بين الاثنين.

المهم أنَّ (الأصولية وحياتها fundamentalism and its life) تصبحان في مرتبة المقدس الذي يبتدئ به الفكر والفعل والمعرفة والقيم. وستمثلان تباعاً منشأً واحداً لأية حياة تالية، إنهما منبع كل شيء ومنهما تُستمد القيم والأخلاقيات والعادات والتقاليد. والأرجح- من وجهة تلك الزاوية- أن الإنسان لا يستطيع العيش إلاّ على سبيل العرض بالنسبة لهما رغم اختلاف الأزمان والظروف. الحياة عندئذ هي "الحياة السلفية " التي تعود إلى الماضي أصلاً وتاريخاً، وكأنّ الواقع يسير إلى الخلف لا إلى الأمام. هي فكرة "السلف الصالح" التي تبلورت في تراث الأديان بأشكال مختلفة.

وبعد كل ما سبق، فإنَّ الدين سيكون منبعاً للاخلاق لا غير. وأنه من الأفضل إبعاد الاخلاق بمعناها الإنساني والاجتماعي عن العقيدة. ذلك حفاظاً على نقاء الاعتقاد وخوفاً من تلوث المثال الذي جاءنا في اهاب من الشفافية والطهرانية. وهذا هو موقف السلفية، تلك النزعة التي ترى في الأصول الدينية خلوصاً فائقاً عن الواقع، وأنها أصول أحادية الجانب دون أية وجوه أخرى. وأن المقارنة بين الأصول وسواها من أمور مسألة لا تجوز إطلاقاً. لدرجة أن الأصول تتجلى خالصة بكل وضوح فوق التاريخ. وإذا وجدت، فإنها توجد في الحياة بفعل إعجازي لابد من المحافظة عليه وتقديسه طوال الوقت.

إنّ السلفية نزعةٌ لا تاريخية، فالذي تُؤمن به تراه خارج التاريخ. إنه لا يوجد في التاريخ سوى الظواهر والأحداث التي انتهت بلا رجعة. ذلك رغم أن الأصول التي نتحدث عنها وجدت وتجسدت وتجلت وامتدت في التاريخ. وأن الأصول لم تكن لتُوجد إلاّ بهذه الصورة المتفاعلة مع الأحداث والظواهر قاطبة.

ولكن السلفية- وهنا الإجابة المنشودة- تنزع الاخلاقيات عن الدين بحجة أن الدين هو لأخلاق وكفى. وأن جوانب الدين (أحكام ومسائل الفقه والأصول الثابتة) هي مصدر كل أخلاقيات حميدة ولا طريق آخر دون ذلك. وأن كل الاخلاقيات الأخرى إنما هي محض انحراف وبُعد عن الطريق المستقيم. وثمة عبارة شهيرة في هذا السياق تقول: إنه " لا يصلح شأن هذه الأمة إلّا بما صلُح به أولها". وهي العبارة التي تحمل وجوها متعددة لا وجهاً متفرداً. فهل الشأن واحد فقط.. ما الضمان إلى ذلك؟ وهل التماثل بين عصر وآخر مطلوب في هذه الحالات المتناثرة عبر التاريخ؟ وما الذي أدرانا أن علاجاً واحداً يصح لاختلاف الأمراض (الثقافية والحضارية)؟ وهل ما يصلح شأن الأمة هو الدين فقط أم المبادئ التي تستند إليه والمستمدة منه؟ كيف يتم اختزال الدين في حياة جيل صالح ليس أكثر؟ وما الذي يؤكد أن الصلاح معيار معرفي وحضاري في الآن نفسه؟

إنَّ سياسات السلفية متشابهةٌ قبضاً على الحاضر بمشجب الماضي. وهي تسليم البشر إلى عصور غابرةٍ من المعنى والتأويل الذي فات أوانه ولا فرصة للإضافة إليه بحال. وتلك النقطة تعد مفترقاً للطرق بين الاخلاقيات أيا كانت والدين.. ما كان منه وما سيكون.

لقد تمَّ سلخ الاخلاقيات عن الأصول كما تُسلخ الشاة عن جلدها. وأصبح من غير الممكن التخلق خارج الدين، ولا بد أن يستمد الشخص إيمانه وقيمه وأفعاله من تلك الأصول. والفصل بين الاخلاقيات والدين هنا فصل تام لا رجعة فيه. فالأخلاق حين تكون قريبة من الدين تمثل تهديداً للدين نفسه وتشكل لوناً من عودة المؤمنين إلى ما قبل الإسلام. والسلفيات ليست قاصرة على دين بعينه، بل كل الأديان تستقبل سلفيات مختلفة من جنس المعتقدات. فاليهودية لديها سلفية "طائفة الحريديم". وهم من يعيشون في مدن منعزلة ويلتزمون بالأزياء والتقاليد التي تفصلهم عن باقي الطوائف اليهودية. وهم سلفيون يتمسكون بما جاء في التوراة حرفياً. وإنْ استجدَ أمر في الحياة، سرعان ما يبحثون عن تفسيره في الكتاب المقدس. فإذا لم يجدوه، لفظوه من فورهم ولهم مواقف متشددة من مجريات الأحداث في الدولة العبرية والعمل والخدمة في مؤسساتها الرسمية.

وكذلك المسيحية تقف على موروثات السلف. فالحياة الأولى للمسيح كانت محل اعتبار من كافة الطوائف بجانب حياة التلاميذ، وكيف كانوا يتعاملون مع معلمهم، إذ كانت التعاليم موضع دراسة واقتداء. وكذلك الروايات والقصص التي تروى عن السيد المسيح والتلاميذ مازالت تروى بنكهة سلفية. ولا يخفى في عصرنا الراهن الأصولية المسيحية الغارقة في عصور من الماضي وتنشد العودة بالمسيحية إلى الفكرة الأولى. وكم أخذت تدافع عن مواقف لاهوتية وسياسية حتى إزاء العالم والتيارات الأخرى.

والبوذية لم تبعد كثيراً عن السلفية أيضاً، حين ظهر تيار بوذي يعيد تأويل حياة بوذا في محاولة لاستعادة الأصول المبكرة للديانة البوذية. ونشأ معيار العودة إلى الماضي بخلاف الانهماك في الحاضر وظهرت أقوال بأن البوذية المعاصرة لم تكن مطابقة لبوذية بوذا. مما دعى كهان البوذية إلى تكريس الطقوس والشعائر والممارسات في المعابد. وقد تحولت البوذية من مجرد حكم وتعاليم إلى لاهوت سلفي.

هكذا مع تباين السلفيات يتم تجنب الأخلاق بمعناها المعروف، بل ترفض فكرة وجود أخلاق، لأنها تتعارض مع ضروب الحقائق اللاهوتية وكذلك تتعارض مع سياسة المقدس الذي تحدد آفاقه كلُّ سلفية عائدة إلى الماضي. كل عودة لا تخلو من سياسة التقديس بمعناها القائل: إنه من الأهمية بمكان قيادة البشر نحو أصول موجودة على شكل ما في زمن آخر.

2- التطرف الديني (الأيديولوجيات):

التطرف هو اتخاذ موقف نقيض من المرونة الفكرية، واحاطة المعتقدات بأفكار مؤدلجة مثل الفيروسات التي تنموا بكثرة في الخلايا وقد استولت على كامل وجودها حتى النهاية.

تنعزل الأيديولوجيا بالدين واضعة المرجعية في حالة استنفار طوال الوقت. إنها ضرب من توظيف الدين لأغراض الجماعة التأويلية القائمة بها. فقد نرى الايديولوجيا مساحة من التأويل الخاص، ولكنه تأويل قابل للتعميم بأدوات جماعية وجماهيرية. مثل الشعارات التي ترفعها بعض الجماعات الدينية تحقيقاً لنشر الأفكار والتفسيرات المؤدلجة وأدبياتها الخطابية.

وهذا اللون من الايديولوجيات لا يريد لشيءٍ أن يعكر صفوه، ولا أن يزاحمه فكر، ولا أن يذكّره أحد بما يلوي عليه من أهدافٍ. ولا سيما إذا كان هذا الشيء هو الأخلاقيات التي يتقاسمها مع غيره. والأخلاقيات بمثابة الخط الفاصل الذي تم تدميره التحاماً بالجماهير واستغلالاً لها. فلئن كانت القيم الاخلاقية تحث على تقدير الآخرين، فالأيديولوجيات تقتات دائماً على احلام الناس وعلى آمالهم وأفكارهم البسيطة. وإذا كانت القيم الاخلاقية ترعى الفضائل وتهتم بوجودها كمعايير، فليست الايديولوجيات إلاَّ نوازع استثمار للفضائل وتحويلها إلى مآرب دفينةٍ.

كل أيديولوجيا دينية ما كانت لتترك آثارها إلاّ بمواقف غير مريحة اخلاقياً. ولذلك لا مهادنة من قبل رعاة الأيديولوجيا في الاتجاه، ولو كانت الأخلاقيات محل مراعاة لما ظهرت الايديولوجيات. لكون الأخيرة تضخماً للأفكار المتداولة على حساب أفكار أخرى. والأفكار التي تمثل الطرف المقابل تحتاج إلى منافذ للتنفس والحركة، ودوماً الايديولوجيات لا تترك أي منفذ، بل تخنق الأفكار الأخرى خنقاً، وتضعها تحت التهديد والاغتيال. إن الايديولوجيا موقف لا أخلاقي من القاعدة قبل خروجها للحياة، لأنها تتجاوز بفعل ذاتها حدود الإمكان، وتُبنى على اغتصاب أرض وعقول لم تكن لها ابتداء.

الأخطر عندما تتخلق الايديولوجيا اللاهوتية في كيان مادي، فهي الوجود المحتل لوجود الآخرين بالضرورة. وهي كيان غامض ومتقلب يلتهم كل ما يواجهه من أفعال وصور الحياة. حيث تسعى للممارسة وتسلح أفرادها بجميع الوسائل الكفيلة باستمرارية الصراع. هل يمكن التحدث عن الاخلاق، حينما تتكتل الايديولوجيا في حروب وكراهيات ممتدةٍ؟!

ومن ثمَّ، فإن" فصلاً ممنهجاً " بين الاخلاق والدين هو الحل لإحداث قطيعة بين الايديولوجيا والواقع. وستكون الخطابات الدينية فقهاً وتنظيراً وقولا عاماً بلا أساس أخلاقي. بالأحرى ستدخل الاخلاقيات في جراب التوظيف البرجماتي ليس أكثر. فالقنّاص الأيديولوجي يضع كل شيء في جرابه تمهيداً لاستلاله في أي وقت. وأن يصيب الهدف المرجو ويحصل على الفريسة وقتما شاء. لا شيء ثابت لديه، كل الاشياء المادية والرمزية أهداف وراء أهداف نفعية لا يفصله عنها سوى مسألة الوقت فقط.

الاخلاقيات هي الهاجس الذي لا يريده أن يعترض طريقه. كابوس يلاحقه أينما ذهب، ولكنه يراوغه ليل نهار. والهروب منه يتم بالإيغال في اكتساب أراض جديدة واحتلال مواقع متقدمة في النزال مع القيم وأطراف الصراع. ولذلك لا يهم الأيديولوجي أي شيء قدر ما يهمه المؤيدين والحشود التي يتلاعب بها. فهو يتساءل من حين للآخر: كيف استولي على عقول الآخرين؟ كيف أكون حشداً مؤيدا لما أقول؟!

الفقه في الحالين (السلفيات والأيدولوجيات اللاهوتية) أداة مرنة جداً، سياسة هيمنة وسيطرة على المجتمعات. إن الفقه تطبيق حرفي لآليات " السمع والطاعة "، بحيث يشغل أوقات الجماهير بالأحكام والتشريعات وما يجب عمله وما يفضل تركه. الفقهاء على الجانبين رجال استراتيجيون من طراز خاص، يجيدون حبك الخطابات وسرد القصص والاتيان بالأمثلة الدينية وشرح بلاغة المواقف وربط القديم بالحديث واستنباط العلل والإشارة إلى المعاني واخراج أدق النغمات الخطابية المطلوبة لتبرير الأحداث. لا ابتغاء ارشاد وهداية الجماهير، إنما لإلغاء إرادة الفعل الحر لديهم. النيل من الحرية هي الغاية البعيدة من وراء ترويض الجماهير سلفياً كان أم ايديولوجياً.

إنه فقه " السمع والطاعة".. ماذا تنتظر من أحكامه وفتاويه؟  فقه يتحدث عن الفقر بلا معرفة أسباب الفقر. فقه يتكلم عن الجهل من غير تحليل بنية التجهيل. فقه يتكلم عن حد السرقة من غير ما يشعرك بسرقة المجتمع ككل. فقه تُطاول كلماته عنان دخان الغضب المنتشر في كل مكان، دون أن يحرك ساكنا في مواقف الاستبداد والتسلط. فقه يروض الضحايا ويعطيهم وصايا للصبر بلا أية إيماءة تجاه الجلاد. لو تحرر الفقه من مغازلة السلطات السائدة، لكانت له علاقة قوية بأخلاقيات الأحرار والبعد عن التدجين، ولأصبح جديراً بكل ما يليق بالإنسانية في أي مكان. شريطة أن ينفتح على المعارف المتطورة ويستعمل المناهج العلمية في دراسة الواقع. وهذا يجيب عن أي استفهام حول تناقض فلسفة الاخلاق مع فلسفة الفقه ... وينقلنا إلى النقطة التالية.

ثانياً: من زاوية الأخلاق: حيث:

1- الأخلاق العامة (القوانين والشأن العام).

2- الأخلاق المدنية (الثقافة).

1-     الاخلاق العامة:

هي اخلاقيات من جنس ما هو عمومي على الأصالة. وليس ضرباً من العشواء، تحديد ما هو عام من أول وهلة. فأصعب ما يكون أن تدرك العمومي مع وجود التنوع الهائل والعميق لانتماءات واختلافات عناصر المجتمع.

منذ ولادتها، تبتعد الاخلاقيات العامة عن المحددات الدينية الخاصة لأي دين من الأديان. المجتمعات المعنيّة بالشأن العام لا تترك الساحة لسيادة معتقدات بعينها. وقد تكون هناك فكرة التناقض بين كونها اخلاقيات عامة وما يؤسس للشأن العام، وهو تناقض لا محل له من الوجاهة. لأن الجانبين (الاخلاق والشأن العام) قائمان على المبادئ والقواعد العمومية، طالما يراعيان التنوع والاختلافات في نسيج المجتمع.

أبداً لم تكن الاخلاقيات العامة - بما هي كذلك- حاملةً للانحياز أو الهيمنة. وبخاصة أنها تظل لصيقة بالإنسانية في مجملها، وقد تجاوزت الحدود الضيقة والسمات النوعية لحياة الجماعات البشرية. الاخلاقيات تقف خارج هذه الفوارق الحدية، إذْ تركز على نقاط الالتقاء مثل العدالة والمساواة والحرية واحترام الآخر وإقامة القوانين والحقوق والواجبات موازاة لتمتُع الانسان بالانتماء الحر والقدرات المؤهلة لوجوده.

ففي المجتمعات الراهنة، هناك اختلاف بين الأديان والموروثات وهناك تنوع في الأفكار والاتجاهات. ولا يكون الشأن العام سطحاً عاماً يضغط ذلك تحت شكل واحد. ولكنه التناغم الذي يحدث نتيجة الآليات العامة والمبادئ التي تحدد الأدوار وتطرح لفاعليها مجالات العمل والانجاز. ليس منطقياً دخول الاكراه أو الانحياز كعوامل مؤثرة، المنطقي أن يشعر كل فرد بكونه ذا أهميةٍ وذا حرية في اختيار ما يريد وفي التعبير عن ذاته بالطرائق والسمات التي يتمتع بها غيره.

وفي حالة كهذه لا يجدي الخطاب الفقهي، لأن الفقه هو صورة التسليم والانقياد الخاصين بالدين مقارنة بما هو عام. إنَّ الفقه أبكم تجاه القضايا العمومية إلاّ من بعض المواعظ والحكم والمأثورات. وتعوزه مراحل وراء مراحل من التطور الاصطلاحي والمفاهيمي، حتى يبلغ تلك المرتبة إنْ لم يفقد ماهيته وصولاً إليها. وعندما يتكلم الفقيه في الشأن العام كم يتكلم لغة مختلفة تماماً عن اللغة التي يتداولها الناس. هو في كل مرة يحتاج إلى مترجم خاص، إلى وسيط خاص. وليس هذا فقط، بل يحتاج إلى قطع عصور حتى يلتقي مع الآخرين.

مُحصلة ذلك أنْ ضّعُفت العلاقة بين الاخلاق والدين من تلك الزاوية. بات الشأن العام مختبراً قوياً لكل خطابات الفقه، لأنّ سياسة الحقائق العامة لم تصل إلى ثرائها العمومي إلاَّ بعد أنْ اختارت خطاباً مناسباً من جنسها. وهي ما يستطيع أنْ يفهمه كلُّ من يعيش تراكم الحداثة ومؤسساتها. بينما عبارات الفقه تستحوذ على إيمانه- في تناقض علني- تجاه دينٍ ما. فالإيمان الديني يأخذه إلى الخاص، يضعه في سياق نوعي، بحكم كون الايمان تجربة الإنسان مع يقينه، في حين أنَّ اشتراكه مع أغياره في الإنسانية العامة يضعه داخل التنوع  والتعايش.

المفارقات هنا (بين الخاص والعام) هي أصل نشأة المبادئ العامة التي كفلتها القوانين والدساتير المعاصرة بفضل تباين البشر. وهي المفارقات التي توجد في خلفية التطورات الحاصلة عبر الأزمنة المختلفة مع كيانات الدول والمجتمعات. ويستحيل التخلص منها (المفارقات) لكونها مطلوبة لإنضاج قدرتنا على أن نكون أناساً عموميين لا أقل. لأنَّ التجارب الخاصة والتخندُق في معسكرات لاهوتية أمور لا تضيف إلى حياتنا المشتركة الكثير. بل هي ستنال من رصيدنا الجمعي قريباً أم بعيداً. ورغم الأدوار التي لا تنكر للفلسفة السياسية تجاه تلك المسألة مع تحولات الديمقراطية وظهور الليبرالية، إلاّ أنها يجب أن تغامر بمزيد من التطوير والنقد لمواكبة ما هو عمومي.

2- الأخلاق المدنية (قيم المواطنة):

هي القيم التي ظهرت مع الحياة المدنية التي عاشها الإنسان الحديث. قيم مشتقة من طبيعة الأعمال والممارسات العامة وما يحوطها من شروط وجوانب. مثل التعايش.. وهو قيمة مدنية، أي قدرتنا لاحتمال الآخرين بكل رحابة صدر وقدرتنا على وجودنا بينهم ووجودهم بيننا مع الاحتفاظ بأية اختلافات تميزهم وتميزنا. وهذه القيمة العملية لم تكن موجودةً قبل العصر الحديث، عصر الصناعة والتجارة والاقتصاد الحر وتبادل المواقع وتداول السلطات والأعمال العامة.

تقف الاخلاقيات المدنية في الاتجاه النقيض للأخلاقيات الدينية. إنَّه ما اُفترضت الاخلاق المدنية إلاَّ لتأخذ هذه المكانة ابتداءً، فهي نتاج اجتماع البشر على صعيد مدني لا لاهوتي ولا ميتافيزيقي. أُناس نشأت بينهم علاقات مادية وسياسية وانسانية كإفراز اجتماعي حر. ويجب أن تعود عليهم تلك العلاقات في شكلها الثري الحامل لقوة العلاقات. فالأعمال تتطلب وجود مؤسسات ترعاها وفقاً للقانون واللوائح المنظمة. أيضاً الروابط الإنسانية التي تربط أصحابها أثناء العمل، فتسمى اخلاقيات المهنة والآليات التي تعطي كل الأفراد حقوقهم داعية لبذل واجباتهم دون تفرقة.

وإذا كان ذلك بالنسبة للأعمال، فما ينطبق عليها ينطبق على المجتمع المدني. وهو مجتمع ليس لاهوتياً ولا تحكمه المقدسات أو سلطات تراتبية، إنما تسهر عليه اخلاقيات المواطنة التي تظلل الجميع. حيث يتمتع الأفراد بالعيش المشترك وحرية التعبير والمساواة والعدالة وحقوق العمل والإنجاز والكسب ودولة القانون والشعور الذاتي بالمسئولية والاستقلال ونزع المخاوف إزاء السلطة.

وتلك الاخلاقيات ليست في حاجة إلى ربط الأخلاق بالدين، لأن " الوعاء الثقافي " الذي يربط الأفراد لا يفهم: ما معنى وجود مرجعية لاهوتية تحكم الناس؟ هو وعاء ثقافي تطور عن رحم مدني يحتاج إلى آليات أخرى. وحتى الأفراد لا يجدون مبررات غير قانونية وغير مدنية لتبرير أعمالهم وممارساتهم في المجال العمومي. دوماً يجب عليهم التصرف والتبرير بشكل يتسق مع عضويتهم المدنية في الجماعة البشرية. هم لا يشكلون جماعة لاهوتية، بل جماعة تحتكم إلى المواطنة ومستويات العمل التي ينخرطون فيه.

س 30: أ. مراد غريبي: كيف تفسرون رؤية الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس بأنه بإمكان أي دين العودة للفلسفة وليس العكس، أليست القيم هي البناء الجوهري للأديان وبالتالي الفلسفة تكون أقرب للدين وموضوعا لها في جوهره القيمي، أي فلسفة القيم وعلاقتها بالمعرفة الدينية؟

ج 30: د. سامي عبد العال: يتميز يورغن هابرماس بتجربته الفلسفية الثرية تجاه المجال العمومي. أصدر كتابه المكون من جزئين " نظرية الفعل التواصلي" the theory of communicative action تأسيساً لهذا الشأن. إذْ يعد أخطر كتاب يرصد حركة التأسيس للمجال العمومي كتطور بين المجتمع والمعرفة والفكروالإقتصاد. وبخاصة كونه مجالاً قد نشأ في المجتمعات البرجوازية التي مازالت تتطور حتى اللحظة. لا يتحدث هابرماس تجاه الأديان أو الفلسفة إلاَّ اخذاً بهذا العامل المؤثر: كيف توجد الأديان في الفضاء التواصلي؟ ما موقع الاعتقاد والايمان وسط العقلانية التواصلية؟ علماً بأنّ الأديان مرّت بتطور في علاقتها بالفضاءات المطروحة بين الناس. فكر هابرماس جزء من النظرية النقدية التي اهتمت بأبعاد المجتمع وتحقيق المفاهيم لمداها التاريخي الذي تتداخل فيه تأثيرات السلطة والقوى الفاعلة.

قبل الإجابة عن الأسئلة، علينا أن نعرف أن الأديان بدأت بإنشاء مركزيتها الخاصة، عندما تمحورت حولها الجماعة البشرية. كل دين كان بمثابة نواة غُرست، فإذا بها تنشأ في اخراج غابة كاملة الأركان والأطراف ليأتيها الناس من كل صوب وحدب. لم تكن الأديان معنيةً بالفضاء العمومي خارج ذاتها، لأنَّها عوملت كلون من التأسيس لأي فضاء آخر. ثم دخلت الأديان نفق العصور الوسطى الغربية أو بالأحرى حفرت نفقاً لتوطين معتقداتها، فلم تستطع الخروج منه، لتُحدث اختناقاً كونياً في الوقت ذاته، تمثلَ الاختناق في إظلام الحياة كما هو مشهور عن القرون الوسطى المسيحية. رغم وجود ازدهار وشروق شمس المسلمين والعرب – بتعبير المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه- على الضفة الأخرى من الزمن. لكن ذهنية القارئ للتاريخ هي التي تختزل كونية الزمن: أين تقع الأزمنة المهمة بالضبط حتى وقت الأزمات؟!

خرج (العصر الحديث) ليسائل الأديان، حيث وضعت المسيحية مجتمعاتها الغربية في مأزق ثقافي ضخم. أصبحت عائقاً أمام التطور والتقدم وباتت عبئاً على عقل الإنسانية. ولم تسمح بالحرية، بل كانت بيئة خصبة لنشأة بكتيريا اللاهوت السياسي وجذور الديكتاتوريات والانغلاق الفكري والحروب الطاحنة بين الملل. كان العصر الحديث بمثابة المضاد الثقافي  anti- cultural لعصر الظلام، وذلك بظهور فلسفات النهضة والتنوير والتحديث، وتبلورت في مفاهيم الحريات والدولة والعدالة والقوانين والشرائع. ورغم أن العصر الحديث تبنى مفاهيم خطية لكل ما يأخذ بيد المجتمعات نحو المستقبل، إلا أنه كان عصراً تأسيسياً على الأصالة. تأسيس لصورة الغرب ولصورة العالم بالوقت نفسه. ولم تكن أوروبا تفصل نفسها عن فضاء الحياة الكونية ككل، بل لم تكن لتتصور وجود عالم آخر ليس أوروباً. العالم دوماً عندما يذكر، فهو أوروبي إن لم يكن بالجغرافيا فبالتاريخ. فقد كان التحديث اجتياحاً لجغرافيا العالم بتاريخ أوروبا. أي نقل الغرب التاريخ خارج أرضه.

بينما جاء العصر (ما بعد الحديث) لتصبح الأديان سرديات وتأويلات خارجة لتوها من المستقبل. فالناس يتساءلون عن الأديان كأنها أخيلة حطت من الماضي لتحملهم إلى المستقبل. وانتشرت فكرة عودة المقدس والدين كأداء وإجراء لصيقي الصلة بالعقول والأفكار المتداولة. ومن ثم نشأت محاولات نقد السرديات الميتافيزيقية. فالأديان تنويعات على هذا المتن كما نوّه الفرنسي جان فرانسوا ليوتار أن السرديات الكبرى لاحت نهايتها، عندما أصبحت حياتنا المعاصرة مفتتة ومتشذرة. ولا مفر من غرق الإنسان في الجزئي والعرضي واليومي. لم يستطع الإنسان الراهن لملمة وجوده، ترك نفسه مكشوفاً بل عارياً أمام الكاميرات والمعلوماتية وعصر الديجيتال. كل التفاصيل يمكن للمتابع أن ينبش فيها وأن يبحث عنها، حيث تحولت المعلومات والصور إلى عالم مكتف بذاته. اكتفاء دلالة ومُعطى يُطْبق على ذهنية المتابعين، يرونه بوافر زخمه كما يقصدهم بالتبادل.

في هذا الخضم، أراد يورغن هابرماس انشاء العقلانية التواصليةcommunicative rationality  القائمة على رؤية نقدية لتراث المجتمعات الغربية وفتح آفاق حُرة تتبلور ضمن الفضاء العام. حيث تنشأ الذوات للمشاركة والإسهام في كل الممارسات العمومية من جنس الواقع المعيش. لم يكن هابرماس فيلسوفاً ما بعد حداثياً رغم راهنيته الشديدة والمدهشة حتى الآن، لكنه رأى في الحداثة مشروعاً لم يكتمل. وظل معنياً بإعادة إنتاج الفضاء العمومي بمفهوم المعقولية التي يمكن خلالها تشبيك أيدي الناس في أيدي الآخرين من أجل الانجاز العام. لا يصلح أن نتكلم عن المجتمعات من غير التكلم عن السياق العمومي بالأساس. فهو سياق انتشل المجتمعات من التقهقر وأنتج ممارسات تعاونية تتداخل فيها كافة المسائل التي تهم الشعوب. فدول أوروبا ليست أكثر من سياقات عمومية تطورت فيها مفاهيم الذوات التحرر والتقدم والمعرفة العلمية.

ظل هابرماس يستهدف تطوير بنية الحداثة باستخدام مفاهيم نظرية تواصلية تمتلك دقة تحليلية تحتاجها الظواهر الاجتماعية. لا تقوم الفلسفة فيها بدور " بومة الحكمة" التي تنعق وقت الغسق، ولا تقوم بالتنظير المتأمل لأسس الحياة إنْ وجدت، بل تقوم الفلسفة بتهيئة الأجواء المشتركة لتأسيس الحوار وتبادل النقاش وتمتين عُرى العلاقات بين البشر ونقد الانتكاسات الميتافيزيقية.

إنَّ وضوح الحياة اليومية المعيشة هو مطلب هابرماس الأول، شريطة أن تعقد الفلسفة العزم على تقريب وجهات النظر وتأكيد الأداء الجماعي دون إقصاء وأنْ يرى الناس أفعالهم المعيشة لا المنفصلة في عالم آخر. الوضوح هو دائرة التبادل الذي يكف عن المزيد، لكونه عملاً تبادلياً من لحمة الحياة المشتركة. وذلك من أجل لونين من النشاط فيما يرى هابرماس..:

أولاً: نشاط عقلي معرفي أدائي، فليس الإنسان فاقداً لماهيته في نصف حياته الأول ثم راكضاً وراءها طوال نصف حياته الآخر. النصف معروف والنصف التالي مفقود. لا يوجد هذا الانقسام، الأداء والتعاون والتآزر والفاعلية أشياء تعيد اللحمة للعالم من جديد.

ثانياً: نشاط عقلي تواصلي تنخرط فيه الذوات الحرة تأكيداً للفعل والحوار.

من ثمَّ، تتكون طرائق فهمنا لبعضنا البعض ويحدونا الجدل اليومي لملامسة الآفاق البعيدة في عالم الإنسان. كل إنسان يمسك بطرف التأويل الذي يطرحه آخر يمتلك البعض منه، وكذا يطرحانه الإثنان لثالث في مباراة حياتية تنتهي بالفوز الجمعي لا بالتعادل ولا الهزيمة. كل تأويل هو مباراة نربح فيها جميعاً، لأن الفضاء العمومي هو موضوعنا المشترك، هو قدرتنا معاً على أن نكون خارج وجودنا الفردي. حيث تؤدي اللغة دور الوسيط الذي يجسد ما نريد فعله وهي الخطاب الذي يوجّه إلينا من ذواتنا الجمعية. اللغة هي الأفعال العمومية التي تقارب وجهات نظرنا عن طريق قول ما يصعب أنْ ينعزل عن وجودنا البيني.

على هذه الخلفية، يمكن فهم عودة الأديان إلى الفلسفة، هي عودة لم تكن متاحة إلا لكيفية التفاعل في الفضاء العمومي. ليس من باب كون الأديان معتقدات صماء، بل كجزء من نسيح الحياة. وهي التي يصعب تجاهلها. ولكن بما أنَّه لا يوجد حوار بين موجودات لاهوتية صماء، فالفلسفة تمارس دورها في تقريب وجهات النظر بين العقائد. لا بمسماها ستكون العقائد سائرة دون عنوان، ولكنها تدخل في آفاق الأفعال والتواصل. الفلسفة ستقول لأصحاب الأديان: فلتفتحوا أعينكم على مصراعيها، ويجب ألّا تستنكفوا الحركة والتواصل، لأن الحياة تتطلب أن نتفاعل لا أنْ نتباعد.

هناك رأي جدير بالاهتمام يقول: إن جوهر الدين هو القيم، وتلك فكرة خليقة بجذب الفلسفة إلى الأديان نظراً لأن مشكلاتهما مشتركة. ومع وجاهة ذلك القول إلا أنه يمثل نظرة أخلاقية لا معرفية، نظرة أحادية لا تواصلية. الفلسفة أبعد من الدين وأكثر معقولية من المعتقدات. وليست الفلسفة قائمة على التوازن الأخلاقي المحايد، بحيث يؤكد التفضيل القيمي نفسه. ولكنها لون من الحياد الذي يعرف: كيف يكون منحازاً لدلالة الإنسان بلا أسماء ومرتبطاً بدلالة العقول الحرة دون معتقدات؟ أنْ يكون العقل تواصلاً وحريةً بلا حدود... وتلك هي المعضلة المزمنة لكل فلسفة من وراء الحياة المشتركة. بحيث تجسد الفلسفة المواقف التي نقيس بها الأشياء ونحدد العلاقات ونحدث التناغم المنتج.

لو حاولت الفلسفة أنْ تلبس عباءة اخلاقية من نتاج الدين، فلن تستطيع. وعدم القدرة هنا موقف مبدئي وليس كراهية عمل ذلك. أنْ نتفلسف هو ألّا نكون أخلاقيين عندما تكون الأخلاق بمعناها المعروف. لأنَّ الفلسفة تكشف اخلاقية الأخلاق، أي مدى قدرة الأخلاق على أن تكون مبادئ حُرة لا أساور شكلية تُرتدى في المناسبات واللقاءات الجمعية. الفلسفة موقف حر إزاء أكثر المواقف تمسكاً بالأخلاق. ولا تعطي القيم انطباعاً أبدياً، لكن جميع القيم تدرك ماهيتها كما يدرك أصحابها، القيم تطرح جوهرها أمام الفلسفة بما هي كذلك.

يبدو أننا كما بدأنا الحوار بالأخلاق بصدد السؤال السابق، ستكون القيم هي النهاية لفكرة تحتاج إلى حوار آخر. لأن الفلسفة تجري حواراً مع ما هو خفي لدينا، مع ما لا ندركه من أول وهلة حياتياً وثقافياً. والقيم لا ندركها كما يجب. وعدم الإدراك هو المسافة الخالية – مثل صحراء الربع الخالي- بين جوهر ما نفكر فيه كموضوع وطبيعة هذا الموضوع بالفعل. وهي مسافة الأخطاء والأوهام والهواجس التي تملأ مجتمعاتنا. وصحيح أنّ الدين– أي دين- يتحدد بالقيم التي يحملها، غير أنَّ القيم في الأديان تكون إطاراً أو مرجعية أو أصلاً أو غاية أو سراً خفياً. وجميع تلك الأشياء بوصفها قوى لدى الإنسان ستقف الفلسفة إزاءها كنوعٍ من التساؤل. فالفلسفة ستطرحُ استفهاماً حول: ما الذي يجعل القيم غايات؟ وهل الغايات خليقة بهذا الاسم؟ وبأية صور ستكون القيم كذلك؟ وهذا من أجل إدراك التفلسف بأنَّ المقولات المذكورة لا تخلو من قضايا للحوار والنقد والنقاش.

***

حاوره: ا. مراد غريبي – صحيفة المثقف

11/9/2024م

 

في المثقف اليوم