مدارات حوارية
عدنان حسين احمد يحاور المخرج قتيبة الجنابي في مدارات حوارية
في هذه الحلقة من مدارات حوارية تستضيف المثقف المخرج الأستاذ قتيبة الجنابي، وحوار شامل وصريح أجراه معه الكاتب والناقد القدير الأستاذ عدنان حسين احمد، فاهلا وسهلا بهما.
المُخرج قتيبة الجنابي لـ"المثقف":
استطاعت كاميرتي أن تثير تعاطف المشاهدين مع "رجل الخشب"
يمتلك المُخرج السينمائي قتيبة الجنابي بصمة خاصة في أفلامه الروائية والوثائقية والقصيرة، ولعل أبرز سمات هذه البصمة هي شحة الحوار وندرته مع هيمنة واضحة للصورة البصرية التي تحاول أن تقول كل شيء مع الاحتفاظ ببعض اللمسات الرمزية الغامضة هنا وهناك يستشفها من القصص الخرافية المحلية والعالمية ليصنع منها أسطورته الخاصة، تمامًا كما فعل في فيلمه الروائي الأخير "رجل الخشب" الذي يجسّد شخصية اللاجئ العراقي الذي يريد العودة إلى وطنه ولا يظل مثل شجرة مُقتلعة من جذورها ومزروعة في أرض غريبة وموحشة ونائية. لا تتمحور هذه المقابلة على فيلم "رجل الخشب" فقط وإنما تتعداها إلى فيلمه الآخر "أين أنت يا بطرس؟" حيث قدّم لنا بعض المعلومات القيّمة التي تتحدث عن ثيمة الفيلم، وأحداثة التي تدور في سرداب إحدى الكنائس البغدادية والمصائر المتقاطعة التي تجمع بين الضحية والجلاد وبصيص الأمل الذي يمدّنا بإكسير الحياة في بلدنا الجريح. لابد من الإشارة بأن "رجل الخشب" هو الجزء الأخير من ثلاثية الهجرة واللجوء التي بدأها الجنابي بفيلميّ "الرحيل من بغداد" و"قصص العابرين". وقد سبق له أن أنجز أفلامًا عديدة نذكر منها "حياة صامتة"، "المراسل البغدادي"، "القطار"، "عكس الضوء"، "الرجل الذي لا يعرف السكون".
ولمناسبة وضع اللمسات الأخيرة على فيلم "رجل الخشب" التقته صحيفة "المثقف" فكان هذا اللقاء.
س1: عدنان حسين احمد: قبل أن نخوض في تفاصيل الحوار دعني أسألك إن كنتَ تأثرت بمخرجين مجريين وأوروبيين محدّدين، وهل ثمة مؤثرات لمخرجين عربًا وعراقيين على تجربتك الفنية؟
ج1: قتيبة الجنابي: نعم، لقد تاثرت بتجارب سينمائية عديدة تمتدّ من أمريكا اللاتينية منهم المخرج الأرجنتيني فيرناندو سولاناس الذي ظلت أفلامهُ عن المنافي عالقة في ذهني. وكذلك المخرج الالماني فيم فيندرز الذي تبنّى أفلام الطريق وفيرنر هرتزوغ، أيقونة السينما الألمانية المعاصرة والمخرج اليوناني ثيو أنجيلوبولوس، المتشبث بفكرة الحنين إلى الوطن، وصولاً إلى تجارب السينما المجرية المتنوعة وأخص بالذكر المخرج بلاتار، وانتهاءً بالسينما العربية وخاصة سينما يوسف شاهين الذي كتبت عنه أطروحتي لنيل درجة الدكتوراه.
أفلام مستقلة وميزانيات محدودة
س2: عدنان حسين احمد: حين أنجزتَ فيلم "رجل الخشب" هل كان في ذهنك أن يكون الجزء الأخير من ثلاثية المنفى التي تضم "الرحيل من بغداد" و"قصص العابرين"؟
ج2: قتيبة الجنابي: نعم، فيلم "رجل الخشب" هو الجزء الأخير من ثلاثية المنفى، وهذه الأفلام الثلاثة الطويلة تم إنتاجها خلال 10 سنوات، وهي كلها أفلام مستقلة، وذات ميزانيات محدودة، وتنتمي إلى "سينما المؤلف"، وآمل مُستقبلاً أن تكون في حوزة المشاهدين، والنقّاد السينمائين الذين يتمثلونها جيدًا، ويجدون فيها ضالتهم المنشودة فهي ثلاثية التحدي والإصرار والمغامرة التي كرّست لها سنواتٍ طوالاً من حياتي في أكثر من منفى أوروبي.
الرمزية والتشويق والنَفَس الخرافي
س3: عدنان حسين احمد: لماذا اخترتَ هذا المكان النائي والموحش لتصوير أحداث "رجل الخشب"، هل ثمة دلالة أو رمزية محددة لهذا اللوكيشن؟
ج3: قتيبة الجنابي: مكان التصوير هو قرية تقع ضمن الحدود المجرية - الصربية؛ وهذه القرية هي الأقرب للجدار الفاصل بين أوروبا الغربية وصربيا، وهذا المكان تحديدًا كان الأكثر سخونة وتوترًا في قصص اللاجئين، كما أنّ هذه القرية الحدودية تضم عددًا كبيرًا من شرطة الحدود يفوق عدد السكان أنفسهم. حاولت أن أوظّف المكان حيث ألغيت كل الأسماء والعناوين ليكون عالمًا رمزيًا عن رجل من خشب هارب من الغابة لأن هنالك قوىً شريره، وغير مرئية تطادره بلا هوادة. حاولت أن أعمّق رمزية "رجل الخشب" من خلال رغبته الجامحة في العودة إلى الغابة التي تمثّل مكانه الأول، وحاضنته الأصلية. ومَن يتمعّن في هذا الفيلم ربما يجده أقرب إلى "حدوتة" الأطفال لأن فيها جانبًا من الرمزية، والتشويق، ونَفَس القصة الخرافية. وعلى الرغم من الاستعمال المحدود للغة المجرية لكنني حاولت أن أتجاوز اللغات لأن المناطق الحدودية تشبه الموانئ، ومحطات القطار، والمطارات التي تتداخل فيها الأصوات واللغات القادمة من مختلف أرجاء العالم.
منزل مُحتشد بالذكريات
س4: عدنان حسين احمد: تشكِّل المرأة في "رجل الخشب" الضلع الثالث من مثلث الشخصيات الرئيسة. كيف اهتديت إلى هذه الشخصية الإشكالية التي تناصر اللاجئين بطريقة أو بأخرى؟
ج4: قتيبة الجنابي: كنت قريبًا من هؤلاء السيدات اللواتي يعشن في أوروبا وخاصة في لندن، فما إن يموت الوالد أو الوالدة حتى تحزم المرأة حقيبتها وترجع إلى بيت الأهل خلال ٢٤ ساعة، وغالبًا ما نراها تتصفّح ألبومات الصور قبل الرحيل كما فعلت بطلة الفيلم "حنّة هيفنر"،ثم وضعت إعلانًا لبيع المنزل قبل أن تسلّم المفتاح إلى الحارس الذي يعتني بهذا المنزل المحتشد بالذكريات وأنفاس الأحبة الذين كانوا يتحركون في أرجائه. لقد كنتُ قريبًا من هذه السيدة في يومها الأخير وهي ترتدي ثوبها الأسود بينما كان العنصريون يوزِّعون البيانات التحذيرية على منازل القرية كلها ويدعونهم إلى عدم مساعدة الغرباء واللاجئين. وعلى الرغم من ذلك فإنها كانت تسمع شيئًا غريبًا أقرب إلى البكاء وحينما تصل إليه تكتشف أنه "رجل من خشب" فتتعاطف معه، وتتلمسه لكنها تغادر المنزل دون أن تلتفت إلى الوراء.
الحنين للعائلة في جو من الخشية والترقّب
س5: عدنان حسين احمد: لماذا أقحمتَ مشهد بطاقة والدتك المعلّمة في مدرسة الشروق الابتدائية للبنات. هل أردت الإشارة إلى تلك الحقبة الزمنية التي تعود إلى فترة الستينات من القرن الماضي؟
ج5: قتيبة الجنابي: فيلم "رجل الخشب" هو تجربة سينمائية ذاتية وأنا من المتحمسين لصناعة سينما شديدة الخصوصية ودائمًا انطلق من أحاسيسي الخاصة وأسلوبي الذي ينتمي إلى (سينما المؤلف) ولهذا كنت أسعى لأن أمزج الخاص بالعام، والذاتي بالموضوعي، وأن تأتي الأحاسيس والمَشاهد من داخلي. في بداية الفيلم يقرأ المتلقي بأنّ الفيلم مُهدى الى أمي، ولهذا استعملت الصور الفوتوغرافية لوالدتي .نعم، الوالدة كانت معلمة في مدرسة الشروق الابتدائية واسمها "ثمينة محمد الجنابي"، وهذا ساعدني على أن أعكس البعد الروحي والمكاني لشخصية بطل الفيلم الذي هو رجل من خشب، ولا يتكلم، وقد جاء هذا المشهد مع ألبوم الصور كحالة حلم وذكريات متناغمة لأمي مع السيدة التي تغادر المنزل وهي متشحة بالسواد، وهو ينظر إليها، ويشعر بها مثل الأم ولو من بعيد، وفي جو من الخشية والترقب. كما أنّ الشخصيات الثلاث بالفيلم تجدها تفتقد العائلة ولهذا تقوى علاقة الشخصيات الرئيسة بالصور الفوتوغرافية التي تعكس الحنين للعائلة، وهذه هي ثيمة الفيلم التي تشبه فكرة "رجل الخشب" الذي يود أن يعود للمكان الأول وهو الغابة ولكنني كنت أريد أن أعطيه هوية خاصة كأن يكون عراقيًا أو عربيًا، وهكذا وجدت الصورة الفوتوغرافية أحد أدوات التعبير المهمة في الفيلم. وكذلك استعملنا شيئًا من أغاني الفنانة الكبيرة أم كلثوم للولوج إلى التجربة الروحية وقد جاءت هذه الإضافة من مصصمة الصوت رنا عيد والمؤلف الموسيقى نديم مشلاوي.
خطيئة وغفران وبارقة أمل
س6: عدنان حسين احمد: تدور أحداث فيلمكَ القادم "أين أنت يا بطرس؟" في سرداب تحت كنيسة كبيرة، هل لك أن تسرد لنا بإيجاز حكاية الفيلم وفكرته الرئيسة وكيف لمعت هذه الثيمة في ذهنك؟
ج6: قتيبة الجنابي: بدأت الفكرة عندي منذ سنوات بعيدة عندما كنت أدرس السينما في أكاديمية الفنون السينمائية المجرية، وكنت أحب مادة تاريخ الفن، وتستهويني الكنائس، وطرز بنائها من أقواس ومنحنيات وشبابيك عالية، وكانت الشموع والفوانيس هي مصدر الضوء الوحيد في عموم اللوحات المرسومة آنذاك وخاصة مرحلة عصر النهضة ولهذا كانت أمنيتي أن أنجز فيلمًا يعتمد على إنارة الشموع والفوانيس فقط. هكذا اقتربت من الفكرة بمفهوم الضوء والظل والمكان المغلق الذي أتاحَ لي أن أبحر في عوالم مشروعي السينمائي الجديد "أين انتِ يا بطرس؟". تتمحور فكرة الفيلم على شخصية مريم التي تدفعها الظروف لأن تختبئ في سرداب إحدى الكنائس وسط العاصمة بغداد، وهنالك يزداد تعلّقها بالمكان وترفض الهروب رغم صعوبة العالم الخارجي وتنتظر بصبر إلى أن تقرع الكنائس أجراسها في سماء بغداد من جديد. تنطوي الأحداث على شئ يجمع بين الواقع والخيال وما بينهما من خطيئة وغفران وقهر وبارقة أمل.
التأمل في سرداب العُزلة
س7: عدنان حسين احمد: قلتَ في حوار صحفي بأن ثيمة هذا الفيلم مستوحاة من فكرة القنفذ وهو أحد أبطال الفيلم. تُرى ما سبب لجوئك إلى الترميز والغرابة، تمامًا كما فعلت مع رجل الخشب؟ وهل سيكون القنفذ هو البطل أيضًا؟
ج7: قتيبة الجنابي: أعتقد أنّ محاولات البحث عن شيء جديد وغير مطروق تقريبًا هي التي دفعتني لإنجاز فيلمي الروائي "رجل الخشب"، الكائن الذي لا يتحرك ولا ينطق لكن الآخرين يتواصلون معه. هكذا أمور تتطلب قوة إبداعية عالية لخلق تعاطف مع رجل من خشب، وأنا أحب المغامرة والتحدي، وكنت على يقين بأنّ من الصعب إقناع أي منتج أو أي جيهة داعمة بما أود الوصول إليه، ولهذا قررت أن أدخل فضاء المغامرة الإنتاجية، وهذا أعطاني حرية أكبر في إنجاز فيلم "رجل الخشب" بالطريقة التي أريدها. كنت قلقًا من هذه المحاولات في البداية ولكنني وجدت تفاهمًا مع طاقم العمل وعلى رأسهم المونتير البريطاني المعروف هيو وليامز. وعندما رأى تجارب التصوير الأولى أبهره المنجز وقال: أنا معك. قلت له: لماذا؟ أجابني بعد لحظات: أحب التصوير، وأتساءل: كيف استطاعت كاميرتي أن تنطق وتثير تعاطف المشاهدين مع قطعة من الخشب وهكذا كان الشيء نفسه مع مصممة الصوت اللبنانية رنا عيد عندما شاهدت المادة المصورة وقالت: أنا لم أنم لمدة ثلاثة أيام، كل هذا شجعني لأن أغوص في أعماق البحث والتجديد. الان أعود الى مشروع فيلم"أين انتِ يا بطرس؟" هنا لا أقصد أي ترميز أو تغريب، فالقنفذ من أكثر الحيوانات القريبة إلى نفسي فهو يفضّل الوحدة والعزلة والإنطواء. أشعر به وكأنه يعيش في حالة من التصوّف والتأمل والتفكير، وهكذا شخصية مريم في الفيلم، فهي معلِّمة لغة إنكليزية تتعرّض لحادث قهري وتنعزل فتجد القنفذ معها في السرداب.
جائحة كورونا أوقفت كل شيء
س8: عدنان حسين احمد: هل أثّر الغلق بسبب جائحة كورونا على تصوير أحداث ووقائع فيلملك الجديد. متى ستبدأ بالتصوير تحديدًا؟
ج8: قتيبة الجنابي: نعم وبشدة كنا نود أن نصوّر في الشهر السادس من عام ٢٠٢٠ وقد جهزنا كل شيء تقريباً ولأول مرة في حياتي كنت سأعمل مع مدير تصوير بريطاني كان متعاطفًا جدًا مع السيناريو وشخصيات الفيلم وكذلك أحبَّ فكرة تصوير كل الفيلم بإنارة الشموع والفوانيس، وهذه رغبتي لعكس حالة العراق لأعوام كثيرة عندما كانت الشموع والفوانيس هما مصدرا الضوء الوحيد بسبب الحصار والحروب المستمرة وكذلك هو الحل الأمثل للتصعيد وعكس الخط الدرامي والبعد الروحي لشخصيات الفليم. وبسبب جائحة كورونا توقف كل شيء، وكما تعرف فقد أثرّ هذا التوقف على الميزانية ودخلنا في أشهر من العزلة التي لم تنتهِ حتى الآن. أعتقد في الشهر السادس سوف تُخفّف الاجراءات وأستطيع أن أحرّك المشروع من جديد وكلي أمل أن أبدأ التصوير في الشهر الثامن أو التاسع من هذا العام.
ضحايا وجلاّدين في مكان مُغلَق
س9: عدنان حسين احمد: الهجرة لم تقتصر على الآشوريين فقط، فالصابئة والإيزيديين قد قاموا بالهجرة وخسرناهم. هل سينفع نداءك الإنساني بإيقاف مدّ الهجرة من العراق إلى المنافي الأوروبية والأمريكية؟
ج9: قتيبة الجنابي: الاحتقانات والتوترات والحروب الأهلية تحرق الأخضر واليابس والكل يصبحون ضحايا. هناك في الفيلم مريم وبطرس وجمال وعلي والأم الإيزيدية التي تبحث عن ابنتها، كلهم يتقاطعون في هذا السرداب أو المكان المغلق. ضحايا، وجلادين، وبصيص أمل. الان أتواصل باستمرار مع صديقة قديمة هي سهير بهنام لتجسِّد شخصية مريم حيث وجدت بعينيها الكثير مما تحملهُ شخصية مريم، وكذلك سيؤدي المخرج باز البازي شخصية بطرس.
حوار: عدنان حسين أحمد