مدارات حوارية
د. عبد الرحمن التمارة للمثقف: الناقد هو القادر على إنتاج خطاب نقدي متسم بالفعالية العلمية
في هذه الحلقة من مدارات حوارية تستضيف المثقف الناقد د. عبد الرحمن التمارة، وحوار شامل وصريح أجراه معها الكاتب والأديب: ابراهيم أوحسن، فاهلا وسهلا بهما في المثقف.
د. عبد الرحمن التمارة
- عضو اتحاد كتاب المغرب.
صدر له:
- جمالية النص القصصي المغربي الراهن 2010
- السرد والدلالة: دراسة في تأويل النص الروائي 2012
- مرجعيات بناء النص الروائي 2013
- سوسيولوجية الرواية: البنية واللغة 2015
- نقد النقد: بين التصور المنهجي والإنتاج النصي 2017
.......................
شقَّ في فعل القراءة مسارات أخرى غير الطقوسية الطبيعية العابرة للمتون، فتجده تارة متطلعا لبلوغ المعنى، و تارة متطلعا لتجاوز المعنى إلى معنى المعنى؛ فلم يلبث أن وجد في نفسه ذاك " الناقد " المنشغل بالنص الأدبي قراءة وتحليلا، إذ ما جدوى قراءة النصوص إن لم تكن تفكيكية تساؤلية؟ وما جدوى الناقد أصلا إن لم يستطع حمل إزميل الأركيولوجي، مستنطقا لغة النصوص، كاشفا أسرارها الدفينة، وفق ما يقتضيه النقد من منطلقات منهجية دقيقة و شروط إبستيمولوجية محددة. بهذا، استطاع على مدى سنوات مراكمة منجز نقدي مهم مكّنه من نحت اسمه بارزا إلى جانب النقاد المعروفين في الساحة الأدبية النقدية على المستويين الوطني والعربي على السواء.
خطوات ثابتة في درب النقد والسؤال النقدي، ارتبط بها اسم الناقد المغربي الدكتور "عبد الرحمن التمارة"، أستاذ السرديات والنقد الأدبي الحديث بالكلية المتعددة التخصصات التابعة لجامعة مولاي إسماعيل بالرشيدية، اسم أغنى المجال النقدي بالعديد من المؤلفات والأبحاث الرصينة والنوعية في اختياراتها وقيمتها المضافة. كان لنا معه هذا الحوار الماتع والهادف...
حاوره لصحيفة المثقف: إبراهيم أوحسين
...................
س1: ابراهيم أوحسن: بداية لا بد أن نسألك عن "عبد الرحمن التمارة"، فما قولكم فيه؟
ج1: د. عبد الرحمن التمارة: إذا كنت تسأل عن الماهية فأنا منشغل بمعرفة ذاتي في كل حين، وبمختلف الوسائل والأدوات التي تجعلني أكتشف الجوانب الغامضة فيها. أما إذا كنت تسأل عن الكينونة فأنا إنسان يعيش الحياة في امتداداتها المختلفة عبر العناية بأسرتي الصغيرة، وأستاذ باحث منشغل بالتربية والتدريس في التعليم الجامعي وما يقتضيه ذلك من التفكير في قضايا معرفية وبيداغوجية، وباحث منشغل بالنقد الأدبي الحديث؛ من نقد السرد الروائي والقصصي إلى نقد النقد الأدبي، راكمت لحدود الآن، من داخل هذا الانشغال، خمسة كتب نقدية في نقد القصة والرواية والنقد.
س2: ابراهيم أوحسن: عندما نحتكم للألقاب الأكاديمية، وتبعا لمجال اشتغالكم واهتمامكم الأدبي، فإنكم تحملون حتما لقب أو صفة "ناقد"؛ ومن الطبيعي ألاّ تكون هذه الصفة لائقة إلا بمن تستلزمهم شروط معينة، وإلا جاز أن يكون كل حامل قلم ناقدا. ما هي في نظركم؟
ج2: د. عبد الرحمن التمارة: يجب أن نميّز بين اللقب الأكاديمي باعتباره لقباً مقترناً بمؤسسة تلزم الباحث بشروط علمية يقتضيها الفعل الأكاديمي في كينونته النّوعية، وبين الهوية الذي يكتسبها المنخرط في الفعل الأدبي من مدخل النقد والدراسة. لهذا، فلقب ناقد متّصل بحجم الإنجاز المعرفي الذي ينتجه دارس الأجناس الأدبية المختلفة، برؤية نظرية أو بتحليل نصي خاضع لشروط إبستمولوجية محدّدة ومضبوطة. من هنا، فالناقد هو الذي يدرس ويحلل ويسائل الظواهر والقضايا والنصوص الأدبية بتصور نقدي غايته بناء المعرفة، وتشييد الأفكار، وإظهار المواقف والرؤى الإنسانية. لهذا، فالناقد الحقيقي يبذل جهداً معرفياً كبيراً ليبني الأفكار، ويؤسس لمطارحة القضايا الأدبية بمنهجية علمية، فيكون خطابه مؤسساً على مفاهيم مضبوطة، تقترن بمرجعية دالة ومحدّدة، وترتبط بنظرية واضحة المعالم والحدود. من هنا، فالناقد يمتثل لآليات التدبير المعرفي والمنهجي الصارم، للظواهر الأدبية المختلفة، أملاً في بناء الدلالات والمعاني، وكشف الأبعاد. لهذا، ليس مهماً أن يحمل الناقد قلماً، أو حاسوباً يدبج فيه مقالاته النقدية، لكن الأهم أنْ ينتج خطاباً نقدياً متسماً بالفعالية العلمية، وهادفاً تحقيق إنتاجية معرفية بأفق تنويري. من هنا، فمسؤولية الناقد كبيرة، من الناحية الإبستمولوجية، يجب أن تفضي لإدراك حدود النقد، لأن ذلك يؤدي لإدراك غاية وجود الناقد.
س3: ابراهيم أوحسن: بعض النقاد يمارسون دور "الوصاية" أو "الرقيب" على العمل الأدبي، فتجدهم يحددون خارطة طريق أمام هذا العمل أو ذاك بما يجب أن يكون وبما لا يجب كونُه. فهل من حق الناقد أن يستخدم هذا الحجم كله من "السلطة " الأدبية إن جاز التعبير؟
ج3: د. عبد الرحمن التمارة: أفهم من هذا السؤال أن العلاقة بين الأديب والناقد مبنية على الصراع، والحقيقة عكس ذلك. يجب أن نتفق على وظيفة الناقد أولاً، لنتبيّن آليات الفعل النقدي وطبيعته التي تجعله كينونة معرفية خاصة ثانياً. من هنا، إذا كان الناقد مطالباً بالحكم والتقويم المؤطر بالأدلة الموضوعية، الذي لا يعني الوصاية والرقابة، فلأن ذلك من صميم العمل النقدي. بهذا المعنى، فاشتغال الناقد ضمن الإطار المعرفي الضابط للممارسة النقدية، يجعل تعامله مع "الإبداع الرديء" حاسماً؛ سواء على مستوى الاقتراح النظري الذي يفيد ضرورة تجاوزه، أم على المستوى التحليلي الذي يبيّن عيوبه ومظاهر الرداءة فيه. هذه ليست سلطة مدمّرة، بل هي ممارسة تنويرية كاشفة. للأسف كثير من النقاد لا يمارسونها، وكثير من الأدباء يتضايقون منها إذا مارسها النقاد. المهم النقد دائماً في منطقة اللوم؛ سواء تحدث النقد والنقاد، أم صمتوا على بعض الأعمال الإبداعية.
س4: ابراهيم أوحسن: هل يمكن أن يتحول النقد إلى "انتقاد"؟ أم أن للنقد حدودا لا ينبغي تجاوزها؟
ج4: د. عبد الرحمن التمارة: النقد مجال معرفي، والانتقاد حكم مرتبط بموقف مبني وِفق رؤية صاحبه. لهذا، لا يمكن أن يصير مجالاً مضبوطاً بمنطلقات منهجية، وبجهاز مفاهيمي، وبرؤية إبستمولوجية، حكماً تقويمياً. كثير من الناس يحصل لهم خلط فظيع بين النقد باعتباره مجالاً معرفياً، يقوم في أحد مراحله على إصدار حكم تقويمي، وبين الانتقاد باعتباره تقويماً كاشفاً لاختلال معيّن في الممارسة الأدبية والنقدية على السواء؛ وقد تؤطره رؤية إيديولوجية منافية للغايات العلمية المراد تحقيقها من الفعل النقدي. وبالتالي، فلا معنى للحديث عن الشق الثاني من السؤال، إذا كان الهدف منه التأكيد على عدم إصدار حكم، علماً أن النقد من ثوابته إصدار الحكم الموضوعي والناضج. بهذا المعنى، فالنقد مهم من جهة التّصور النظري الذي يقترح الأفكار النظرية حول الفعل الإبداعي، ومن جهة الإنجاز العملي الذي يحلل النصوص الأدبية ويدرسها برؤى معرفية وتصورات منهجية.
س5: ابراهيم أوحسن: النقاد - في نظري- صنفان: صنف يدعو الأديب إلى انتهاج البساطة في عمله مبنىً ومعنىً، وصنف يدعو إلى التكلف وإحكام "الصنعة" ليرتقي العمل الأدبي إلى مستوى يمكن به أن يوصف برواية أو بشعر..إلخ. فإذا صح هذا التصنيف، فأي الصنفين أحق بالاتباع؟ أم أن الأديب، وهو يكتب، لا داعي لأن يستحضر ناقدا محتملا أمامه؟
ج5: د. عبد الرحمن التمارة: سأبدأ بالشّق المتعلق بتصورك للنقد. إنّ تصنيفك يستند على جهاز مفاهيمي مقترن بالنقد التراثي. لكن خارج منطق الصراع بين الفهم الحديث والقديم للنقد، يمكننا القول إن النقد، ببساطة، ممارسة معرفية يجب أن تتسم بالوضوح في لغتها ومفاهيمها واستراتيجيتها المنهجية، وتقارب النّص الأدبي، بمختلف انتماءاته الأجناسية، برؤية علمية دقيقة تشرّح محمولاته الدلالية والفكرية وأدواته الفنية والجمالية، وتربطها بالسياق التاريخي والحضاري والثقافي، أي كل ما له صلة بصميم الفكر والوجود الإنساني، بلغة إدوارد سعيد. بهذا المعنى، فالنقد البناء هو الذي يتوخى تشييد معرفة منفتحة وتعمّق تراكم الوعي بالوجود والفكر والإنسان والثقافة، برؤية منهجية دقيقة وواضحة، وبلغة معبّرة عن الخطاب النقدي وكاشفة هويته وماهيته. من هنا، يعيد بناء النص الأدبي بما يوافق منطلقاته المنهجية، وخلفيته الثقافية والمنهجية؛ وفي بنائه ذلك يكشف ماهيته الثقافية المعبّرة عن زمنيته وعصره وهويته، والكاشفة تورط الخطاب المدروس في صراع المواقع والسلطة، وانخراطه ثقافيا في الحياة. لهذا، فالعملية النقدية تقوم على الفعل الخلاّق، لأنها تهتم بالخطاب الأدبي والفني، فتكشف مضمراته وتحليل محمولاته وأدواته، مثلما الأديب يعتني بأدبه، لحظة البناء والتشييد، ويترك الباقي للناقد أو القارئ المحتمل.
س6: ابراهيم أوحسن: قد نجازف ونقول: "إننا في زمن الرواية"، ولا شك أنكم ممن يهتمون بهذا الصنف الأدبي قراءة ونقدا. بماذا تفسرون رجحان الكفة لصالح الرواية على حساب الأصناف الأدبية الأخرى، على مستويي القراءة والإنتاج؟
ج6: د. عبد الرحمن التمارة: لا نتوفر على معطيات إحصائية دقيقة لنتأكد من ذلك. من هنا، في تقديري تكتسي "هيمنة" قراءة، وهو أمر مأمول، وإنتاج الرواية رمزية مزدوجة؛ الرمزية الأولى قوامها الاستجابة لسلطة السرد السحرية التي تسيطر على القارئ، فتلزمه بمعرفة أحداث كثيرة تشتغل كتمثيل لحياة بشرية يمكنها أن تكون قريبة منه أو دالة عليه. والرمزية الثانية أساسها التداول الكبير، المدعوم بحوافز مغرية، للإبداع الروائي في الحقل الثقافي؛ وهو تداول لا يخلو من الرغبة في تثبيت "قدم" العبقرية الإبداعية في حقل صعب، ويعتقد الكثيرون أنه سهل وبسيط، وتكفي "حكاية" معينة لتشييد رواية نوعية، إن لم تحظ بجائزة معينة، فقد تجد لها قارئا ينتشلها من وحدتها في رفوف المكتبات.
س7: ابراهيم أوحسن: امتلأت الفضاءات الرقمية بنقاد "رقميين"، يكتبون عن أعمال أدبية بكل ما تحمله كلمة حرية من معنى. هل هذه المساحات الشاسعة المتاحة من طرف الوسائط تلك تخدم الحركة النقدية بشكل عام أم تسيء إليها؟
ج7: د. عبد الرحمن التمارة: النقد له شروطه، والفضاء الرقمي له غاياته. هذه الوسائط تخدم النقد على مستوى الإخبار، وأحيانا على مستوى النشر والتداول. أما غير ذلك، فالنقد نقد، مهما كان حامله (ورقيا أم إلكترونيا). وأعتقد أن غياب الوعي بفضاء بلورة خطاب نقدي يعد في حد ذاته إساءة للنقد والإبداع. بهذا المعنى، أريد أن أقول: الكثير يمارس نقده الخاص في وسائط الاتصال الجماهيري، فينال رضى المشتركين في الوسيط الإلكتروني، ولكنه يخسر هويته كناقد مطالب منه إنتاج معرفة أولاً، ثم العمل على تعميمها بما يفيد الآخرين من جهة ثانية. من هنا، فالوسيط الإلكتروني مفيد في التعريف بالفعل النقدي، وكذلك بالإنتاج داخله، لكن ليس بسرعة وتسرع، وبشكل يومي يدفع للتساؤل عن جدوائية هذا الفعل وفائدته المعرفية.
س8: ابراهيم أوحسن: يقول المفكر البلغاري «تيزفيتان تودوروف»: " النقد ليس ملحقا سطحيا للأدب، وإنما قرينه الضروري، إذ لا يمكن للنص أن يقول حقيقته الكاملة". على هذا الأساس، هل يحتاج كل منتج أدبي إلى نقد (نص ثان) يخرجه من عتماته؟
ج8: د. عبد الرحمن التمارة: لا ليس ملزما بذلك. وهذا يؤكد على حقيقة مفادها أن النقد الأدبي يمكنه أن يندرج في خطابات مختلفة ليست بالضرورة مقترنة بالنقد التحليلي للنصوص. بمعنى أن الحديث عن النقد الأدبي لا يجب أن يكون من منظور تفاضلي مع الأدب، أو من زاوية التبعية. يمكن الحديث عن التلازم التفاعلي، بحيث قد يكون النقد سابقا على الإبداع في حالة النقد التنظيري، وقد يكون النص الأدبي موجوداً ولكنه لا يعدّ أرضية لاشتغال النقد، لأنه يكون ضمن متابعة لحركيته وديناميته في سياق النقد التاريخي. كما يمكن أن يكون نقداً بمعايير محددة سلفا لأنماط مختلفة من النصوص الأدبية، ما دامت الغاية هي كشف الطبيعة المميزة لهذه النصوص؛ سواء على مستوى المضامين، أم على مستوى البناء، أم على مستوى ضبط تفكيكها وتحليلها وفق منهجية إجرائية غايتها تقريب النص الأدبي من المتلقي في سياق خاص كما هو الشأن مكع النقد المتبلور في الخطاب التربوي.
س9: ابراهيم أوحسن: لما سُئل الروائي البيروفي «ماريو فارغاس يوسا» عن معمار الرواية، أجاب بأنها تشكُّل ومزج بين الأسلوب (البناء اللغوي للسرد)، والنسق (خلق انسجام بين الراوي وبين المكان والزمان القصصي)، والإقناع (قدرة الروائي على إقناع القارئ). فإن كان الأمر كما قال الخبير «يوسا»، ألا يجعل الإنتاج الروائي الضخم الذي شهدته الساحة الأدبية اليوم الأدبَ الروائي في خطر؟
ج9: د. عبد الرحمن التمارة: تبدو رؤية يوسا جزئية، لأنها تعبّر عن تجربته وتصوره للرواية، وليس ما هي عليه الرواية في تكونها وتحولاتها المصاحبة لها منذ مدة طويلة. لهذا، فالأدب الروائي في خطر حينما لا يكون كاتبه على وعي نظري بالرواية أولاً، وعلى اطلاع جيد على النصوص الروائية ثانيا، وعلى معرفة بمجمل القضايا التي يمكن أن يتضمنها إنتاجه الروائي ثالثاً. أما الحديث عن "الإنتاج الروائي الضخم" فيبدو، في تقديري، دليل انتعاش ثقافي. وكم نحن في حاجة إلى هذا الإنتاج، كي نؤسس حوافز متنوعة للقراءة. بهذا المعنى، في ظل هيمنة وسائط الاتصال الجماهيري، وشبكة الاتصال العالمية، نحن في حاجة إلى "إنتاج ضخم" ينتشلنا من الارتباط المرضي بتلك الوسائط، التي صارت أساسية في حياتنا، ويدفعنا للقراءة والتثقيف. لهذا، فالخطر الحقيقي هو أن تتراجع القراءة، أكثر من وضعها الحالي، إلى حدودها الدنيا، بدعوى أن المبدع يجب أن يكتب وهو "كامل". لم يولد "يوسا"، الذي استشهدت به روائيا دفعة واحدة، بل خضع لمنطق التدرج في امتلاك الصناعة الإبداعية الروائية.
س10: ابراهيم أوحسن: في كتابكم "سوسيولوجية الرواية، البنية واللغة" قلتم (ص 34): "النص الروائي لا يعيش في عزلة ولا ينطلق من فراغ"، نفس المعنى الذي ذهب إليه الناقد الكندي «نورثروب فراي»، في كتابه "تشريح النقد"، قائلا: "لا يمكن إنتاج الشعر إلا انطلاقا من قصائد أخرى، ولا إنتاج رواية إلا انطلاقا من رواية أخرى". في رأيكم، ألا يفتح هذا المعنى "المتساهل" الطريق أمام "فوضى" التناص والاقتباس في مقابل الأصالة والسبق الأدبيين؟
ج10: د. عبد الرحمن التمارة: أنا لا أتحدث عن التناص، وإن كان ملازما لكل كتابة وكاتب، ويتعذر الانفصال عنه، وإن بطريقة لا واعية. ما أقصده هو علاقة الرواية بعالم الإنسان في تحققه السوسيولوجي، بما هو وجود نوعي، وبما هو نظام من العلاقات المتعددة والمتنوعة. لهذا، فمهما أوغل الروائي في الغرابة، وهنا أستحضر تجربة سليم بركات، في بناء أحداث روايته فإنها تظل، في بعدها الرمزي مقترنة بالإنسان في تحققه الوجودي والاجتماعي. كما أن رسم تلك الأحداث لا يخلو من تمثل الروائي للعالم الذي يعيش فيه. لهذا، فأقول دائما إن النص الروائي لا يرسم الواقع، ولكنه يعبر عنه، انطلاقا من وسائط جمالية وخطابية ولغوية، مما يصيّر العمل الروائي نتيجة طبيعية لرؤية الكاتب للواقع، في إطار من النسبية والرمزية التي تحجب، بالضرورة، الواقع الفعلي، وترمز إليه. من هنا، فالرواية الحقّة هي التي تبني أصالتها الأدبية انطلاقا من الفهم أولاً، ثم تشييد النّص ثانياً. أما من لا علم له بما يقع في مسار الرواية من تراكم وتحوّل فلن يفلح في الإنتاج الجيّد، وإن حقق "السبق"؛ لأن السبق لا يعني الجودة والجدة.
س11: ابراهيم أوحسن: عن دار كنوز المعرفة الأردنية صدر لكم -في طبعة أنيقة- مؤلفكم الأخير "نقد النقد"، وهو محاولة جادة لتعريف القارئ بمسار الانتقال من مرحلة البحث عن "المعنى" إلى مستوى البحث عن "معنى المعنى". هل يمكن الحديث عن "تلاشي" و"ضياع" المعنى عند الانتقال من عتبة النص الأصلي (النص الأول) إلى عتبة نقد النقد (النص الثالث)؟ وهل تفكيك النص الثالث يستلزم بالضرورة خوض غمار النص الأول والنص الثاني قبل كل شيء؟
ج11: د. عبد الرحمن التمارة: كتاب "نقد النقد: بين التصور المنهجي والإنجاز النّصي" يحكمه تصور معرفي بيداغوجي، يمكن بسطه في السؤال الآتي: كيف نحلل وندرس كتابا نقديا يحقق انتماءه للنقد الأدبي؟ أما معطيات توزيع النص إلى مراتب (الأول والثاني والثالث) فجاء للبرهنة على تميز كل نص عن الآخر، وليس أفضلية هذا النص على ذاك. وبالتالي حاولت أن أبيّن أن القراءة النقدية للكتاب النقدي الأدبي (النص الثاني) لها إطارها المنهجي الخاص بها، إذا كنا نراهن على الإنتاج المعرفي. بهذا المعنى، فما يهم المنشغل بنقد النقد هو إنتاج خطاب منسجم منهجيا، ومحكوم بجهاز مفاهيمي خاص، ومراحل تساهم في كشف جوانب متعددة من الكتاب النقدي، وخلق حوار مع أفكار الناقد ومواقفه، وعدم الاكتفاء بالمقاربة الوصفية التي تركز على مضامين الكتاب النقدي، وتجاوز "المحاكمة" و"العتاب" المجاني للناقد حين يبلور خطابه النقدي. من هنا، فالمنهجية التي أقترحها، والدراسات التطبيقية التي أنجزتها، تصبّ في تأكيد أن نقد النقد خطاب إبستمولوجي منتج. لهذا، فإنتاج نقد النقد يلزمه تمهيد ملائم ووصف لمعمار الكتاب النقدي، وإبراز لرهاناته، وكشف لمضامينه، وتحديد لجهازه المفاهيمي، ومناقشه المتن الذي اشتغل عليه، وتوضيح الآليات النقدية المعتمدة في الدراسة النقدية.
س12: ابراهيم أوحسن: قبل أيام حصل الروائي السعودي الشاب «محمد حسن علوان» على جائزة البوكر عن روايته "موت صغير"، مما يؤكد قدرة الإبداع الشبابي على المنافسة على المستويين المحلي والدولي. كيف ترون الإبداع الشبابي في الساحة الثقافية اليوم أمام تحديات "الجودة"، وأمام التوجه "الرأسمالي" لدور النشر؟
ج12: د. عبد الرحمن التمارة: يفضي الجواب إلى الحديث عن ثلاث أفكار كبرى، يؤسسها التكامل والتداخل؛ أوّلها: إن تاريخ الإبداع والنقد الأدبي، خارج مقتضيات الزمن والمكان، يقوم على مسار خطي تساهم فيه أجيال مختلفة. هذا يعني أن الأجيال المبدعة تتفاعل بينها على قاعدة التراكم البناء، فيستفيد كل جيل جديد من جيل سابق، ثم يبلور تصوره الخاص في الكتابة الذي لا يعني، بالضرورة، أنه أفضل من سابقه، وسيتميز عن لاحقه. وثانيها، إن الموجة الجديدة من الكتاب الشباب، في شتى المجالات الإبداعية والفكرية والنقدية، تحاول الإجابة عن الأسئلة الإشكالات التي تعترض وجودها الخاص والعام. وبالتالي، فهي "موجة" طبيعية، تحقّق الشرط الذاتي في الكتابة، وتنخرط في سؤال التراكم الذي يؤسس لتوالي الأجيال، ويخدمها ثقافيا ومعرفيا. وثالثها، إن قضية الإجادة والإتقان هي العنصر الفاعل في الكتابة، مهما كان نوعها. لهذا، فالشباب لا يجب النظر إليهم من زاوية الانتصار الانبهار، أو من موقع الرفض والحصار، بحكم سّنهم الصغير؛ ولكن يجب النظر إلى منجزهم ومدى احترامه لشروط الفعل الإبداعي، وقدرته على الإضافة والتجديد. بهذا المعنى، فكتاب الرواية والشعر والمسرح والقصة والنقد..، من منظور جيلي، بعضهم يبدع بتميز نوعي، وبعضهم ينتج مؤلفات ويراكم إنتاجات تؤطرها البساطة، وإن كان أصحابها يشعرون بتميزها الخاص عن "القدماء". لهذا، أقول كل وضع أو كائن جديد سيصير قديما ومتجاوزا، لكن كل كتابة متميزة ستظل كذلك على الدوام. بمعنى أن الإبداعية الخلاّق هي مقياس تميّز كل كاتب انتمى إلى جيل قديم، أو هو ابن الموجة الجديدة. أما قضية النّشر فلكل واحد مداخله الخاصة.
س13: ابراهيم أوحسن: هل ثمة عمل نقدي آت بعد عملكم الأخير "نقد النقد"؟
ج13: د. عبد الرحمن التمارة: حقيقة هي أعمال متراكمة، أرجو أن تسعفني الظروف، الذاتية والموضوعية، لتتمة الإنجاز. وهي أعمال نقدية لها علاقة وطيدة بمشروعي النقدي المنصب على نقد السرد الحديث (رواية وقصة)، ونقد النقد الأدبي.
س14: ابراهيم أوحسن: كلمة أخيرة.
ج14: د. عبد الرحمن التمارة: شكرا جزيلا على هذه الفرصة للتداول في أمور تخص الأدب والنقد.