مدارات حوارية
قصائده أشبه بنساء الأمزون اللواتي يخطفن ما يستحسنَّ من الرجال ويأخذنه عنوة الى مجاهيل الغابات .. حوار مع الشاعر جمال مصطفى
في هذه الحلقة من مدارات حوارية تستضيف المثقف الشاعر جمال مصطفى وحوار شامل وصريح أجرته معه الشاعرة ياسمينة حسيبي، فاهلا وسهلا بهما في المثقف
بُشّرَ بفيض الإلهام شعراً فامتلك ناصية الحرف لغة وثقافة وممارسة، واصطلى بجمرة الشعر، فذاب منها وبها احتراقًا وتوهّجًا، ثم نظم "قصيدة تجرها الخيول"، ومشى بـ" هودجها على التنين"، يغمرها تارة بوجدانه الصوفي، وتارة أخرى، يقدحها بوقدة روحه الشعرية اللاّفحة ثم يسكبها نبيذاً معتقاً في كأس القارئ دفعة .. دفعة وكأنها ترياق يجدد نبض الشعر في زمن اللّغو والهذر.
ولأنه وسيم الحرف ويحب ارتداء آخر ما استحدث من أثواب النظْم، فقد وجد في صنعة "الهايكو" ثوباً بمقاس شعري ذكيّ وحكيم. ثوب يليق باسمه المحلق دوماً بأجنحة النور صوب سماوات الدهشة.
انه الشاعرالقدير جمال مصطفى الذي يهادن شياطينه في وادي عبقر كلما تلبّستْه القصيدة ويتمرّد عليهم حين تعزف نفسه على وتر العصر.
فأهلا وسهلا بالشاعر جمال مصطفى في رواق صحيفة المثقف وفي مدارات حوارية
السيرة الذاتية
من مواليد البصرة -العراق عام 1958
مقيم في الدنمارك منذ عام 1986
صدر له:
أمطار بلا سبب 1988
أطلس البارحة 1991
الصندوق الأسود 2002
سماور من سمرقند 2010
هايكو مختارات عالمية معاصرة ترجمة
س1: ياسمينة حسيبي: للشاعر جمال مصطفى مملكته الشعرية الخاصة في المتخيل والرؤية:
" مدائنُ فُصحى، الروح يا ما تلــعمثتْ
ودقتْ على الأبواب مُــــدنفة، لــهفـــى"
فهل شيدتَ بُنيانها قُبيْل المشيِ على ضمإ الصحراء أم بعد الوصول إلى نبع الماء؟
ج1: جمال مصطفى: يا لها من مملكة تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد، دانية ٌ وقصية، ليست هنا وليست هناك، مملكة شبحية كبرزخ بين الوجود والعدم.
المدائن الشعرية لا تتشيد بل تنحت نحتاً والنحت يستغرق عمرَ الشاعر كله فلا تأخذ شكلها النهائي إلا بعد رحيل الشاعر النحات وبعد أن يكتشفها قيّافٌ معجب بتقصي آثار الماضي وعندها سيتم تعريف المدائن بما ينقصها لا بما فيها، وما فيها هو بالتأكيد وعدٌ بمدائن وليس مدائن من قرميد وهندسة وسلالم.
بِـ صُـرّة ِ (ماذا بعْـد؟) يَـمُّـمْتَ حافـيـا ً
تُـلبّي نداءَ الـريح ِ يا نـورسَ الـمَـرفـا
تَـريّـث ْ ولا تَـنْـزلْ، هـنـاك كرافــل ٍ
تَجرّدْ مِن الأصفـار واستكـمِـلِ الحَذفـا
فـما (مُـنـتـهـى آباد) إلاّ انـعــطــافــة ٌ
ولا دربَ بَعْـدَ الآن: ثعـبانُهـا الـتَـفـّـا
س2: ياسمينة حسيبي: حين تقتحمك القصيدة هل " تحدّقُ في ورقة بيضاء إلى أن تنزف جبهتك"، أم تصاب بحالة الفرزدق فـ" تأتي عليك أوقات، وقلع الضرس من أضراسك أهون عليك من كتابة بيت من الشعر"؟
ج2: جمال مصطفى: اللاوعي لا يتوقف عن العمل، الفنان بصورة عامة والشاعر بصورة خاصة أشبه ما يكون بالبركان الخامل ظاهراً ولكن اعماقه تمور وتتلاطم في تحولات وانصهارات باطنية بطيئة شاملة حتى إذا اقتربت الطبخة من النضوج دقت على غطاء القِدْر أو الوعي وساعتها تأتي القصيدة كأنها هبة من السماء وهي في الحقيقة هبة من الأعماق لكن حين يتعجل الشاعر القطاف ولا يجده تأخذه الظنون كلّ مأخذ، ولو كان الشعر يأتي كلما رغبنا في ذلك لكتبنا كل يوم وكل ساعة إذ الإبداع إبداع لأنه نادر ولو كثر لكان عاديّاً ومشاعاَ وليس إبداعا .
لا بـئـرَ، لـكـنْ مـاتِـحٌ و دِلاءُ
مـاءُ القـصيدة غـيـمة ٌ زرقـاءُ
هذي الفلاة ُ، سرابُهـا مرآتُهـا
وبها يَرى ما لايُـرى الشعـراءُ
حـتى لَـتَـفـترسُ الذئابُ خيـالَها
والذئبُ تعـرفُ ما بهِ الصحراءُ:
نَهَـمٌ الى عَضِّ السماء، نيوبُهُ
بَـرْقٌ تَـهـابُ سياطَهُ الظـلماءُ
مِن بَـعْـدهِ يَنهَـلُّ جـرْحٌ بَـعْـدَهُ
تَـتـلاطـمُ الآفـاقُ وَهـْيَ عُـواءُ
س3: ياسمينة حسيبي: تكتب قصيدتك وكأن كل بيت فيها هو بيت القصيد .. أهي محاولة لتجاوز نفسك في القريض أم أنك تخشى عليها قول أمير الشعراء:
"وخططنا في نقا الرمــل فلم ++ تحفظ الريح ولا الرمل وعى"؟
ج3: جمال مصطفى: يدفعني الى كتابة القصيدة العمودية شعور أقرب ما يكون الى السلطنة، أشبهَ ما يكون بزهو عازف العود لحظة الإستغراق في التقاسيم، هذا الشعور يجتذبني أحياناً الى الكتابة حتى دون توفر موضوع أو فكرة أو بدايات فكرة، كل ما اعرفه هو انني على وشك اقتناص المطلع كدفعة اولى من الغيب وبعد ذلك يتعاون الوعي مع اللاوعي على هندسة وبناء القصيدة، كأن القول المنغوم يأتي من الماوراء والما فوق جاعلاً من الشاعر كائنَ حدوس ومُستقبِلَ واردات من خزائن سريّة تنفتح له وحده في لحظات كبيسة من الإلهام ولكنّها لحظات لا سلطان للشاعر عليها أيْ لا يتحكم بحضورها وغيابها فالشاعر بحكم تبعيته لنرد القدَر الواهب لا يستحق صفة الفاعل في (نحو) الإبداع بل هو إذا توخينا الدقة نائب فاعل ولهذا السبب تحديداً أرفع دائماً أسمى آيات التقدير والامتنان والحب الى مولاتي اللغة العربية هذه اللغة التي صنعها عقلٌ ما فوق بشري ثم فتننا بها افتناناً ولا أذيع سراً إذا اعترفت بأنني شاعرٌ يعتبر اللغة العربية موضوعه الأثير فقصائدي من اللغة واليها وبها وفيها ولها وعنها، وهذا ما دفعني الى الكتابة على بحور الشعر كلها حتى المهجور منها والنادر كالمنسرح والمجتث وركوب جميع حروف الأبجدية كقواف ودافعي في كل ذلك دافع فنيّ ٌ خالص لوجه الجمال لا تشوبه شائبة ُ تعصّب قومي أو ديني، وشاعر بهذا الهوس (اللغواني) لا يطمح بطبيعة الحال الى قاعدة عريضة من القراء بل حَسْبُه أن يقرأ شعره جمهور محدود ولكنه متفاعل، جمهور يعرف قبل القراءة ان هذه القصيدة لا تهتف ولا تهجو ولا تتوسل الرقة والرومانسية ولا تلوك ما هو مكرور ومتوقع بل هي أشبه ما تكون بنساء الأمزون اللواتي يخطفن ما يستحسنَّ من الرجال ويأخذنه عنوة الى مجاهيل الغابات.
سلـطـانـة ُ الـريح ِ ثـيـــرانٌ بـلا نِـيــر ِ
عـمـيــاءُ جَـنَّـحَـهــا رَبّ ُ الأسـاطـيــر ِ
وقِـيـلَ: مُبْـصِرَة ٌ في الـبـدءِ ثم غـدَتْ
لـيـلاءَ أغــْـطَـشَهــا طـيْـشُ الـمـقـاديـرِ ِ
صـقـراءُ كَـفـَّـنَـهـا اللـيـلُ الـبهـيـمُ بـه ِ
فـمَـزّقـَـتــْهُ بـصـبـحِ ٍ مِـن مـنــاقـيــر ِ
طـيـفـاءُ: لـيـلـتُـهـا ألـفٌ وما نَـسِـيَـتْ
مِـن كُـلِّ طـيْـف ٍ حـذافـيــرَ الحـذافـيــر ِ
تَـشكـيـلُ صورتهـا: مـا شـاءَ نـاظِـرُهـا
وشَرْطـُها: حَـبّـذا مِـن غـيْـر ِ تـأطـيــر ِ
غـجْـراءُ يَنـصبُهـا مَـن كانَ غَـجَّـرَهـا
يا خـيـمـة ً غـيـمـة ً في كـلِّ تَـغـجـيــر ِ
عـشْـواءُ مـا وصـلَــتْ إلا مُـصـادفــة ً
لـكـنـهــا رجـعَــتْ مِـن غـيـر تـفـسيــر ِ
هـوجـاءُ: أزرقَ راحَ الـبـحـرُ يَـسألُهـا
سلـطـانة َالـريح ِ هـل يَشفـيكِ تعـكيـري
ثـوبُ امبراطورتي قـد لا يَـراهُ سوى الـ
أطـفـالِ، مَخصيّـة ٌ عـيْـنُ الجـمـاهـيـر ِ
س4: ياسمينة حسيبي: للطّرديّات مكان في تجربتك الإبداعية الثرية مع ندرة شعرائها في الوطن العربي.
كيف لهذا الغرض الشعري المهتم برحلات الصيد وبالصقور والجوارح أن يثير اهتمام شاعر مغترب، يعيش في بلاد التكنولوجيا؟
ج4: جمال مصطفى: في قصائدي (العمودية) تركيز على الشكل كمضمون أولي يتم به ومن خلاله إيصال مضمون ثانٍ لا هو بالتقليدي المتعارف عليه ولا هو بالجديد المألوف والمتعارف عليه كذلك بل هو شذوذ وخروج على الشائع فلا إبداع إلا بالفرادة ومن هنا فطرديتي مكرسة لمديح الغراب ولكنها ليست طردية سوى بالبحر والتقفية والموضوع لكن مضمونها الأعمق هو انها قصيدة قناع
أما كوني اعيش في الغرب فهذا شأن آخر، فأنا لا اعتبر نفسي معجبا بالغرب إلا نسبيّاً فالغرب في نهايات القرن العشرين ومطلع الألفية الجديدة راح ينحدر ولا يتقدم على جميع الصُـعُـد سوى الذكاء التقني وهذا الأخير بفضل عوامل عديدة وليس دقيقاً القول ان الغرب حضارة كاملة، فعقول كثيرة من الشرق ومن الغرب تساهم في هذا التطور التقني ولكن الحضارة ليست مجرد تطورٍ تقني ٍ بل هي في جوهرها فن وروحانيات وأخلاق وإخاء انساني وفلسفة.
أين المثقف الذي كان له صوت تقدمي يحرك مظاهرات في الشارع كسارتر مثلا ً الذي رفض جائزة نوبل؟ الغرب الآن كسلطة وقوة ليس أكثر من تابع لوحش يانكي فائق القدرة يتسلى بإعاقة وتدمير شعوب بأكملها ولا من رادع ولا من محتج احتجاجاً خجولا حتى، وما جدوى الهويتف الذكي في جيبي
وأنا مرصود حتى حين أسحب نقوداً من واجهة مصرف؟
الغرب عقلاني نسبياً ولكنه في الصميم مريض ومرضه في الروح وهذه العلة ستقضي عليه وربما على العالم إذا لم يوازن بين العقل والروح والأخلاق، والغرب مسؤول عن تخلف الشرق ولو أراد فما اسهل أن يقضي على ما في الشرق والعالم من ويلات وحروب وأمراض ولكنه غرب جشِع وأناني ومعتل ومختل ومغرور، غرب يسكب الحليب الفائض في البحر كي لا تهبط أسعاره بينما يموت الأطفال في أفريقيا وغيرها.
أفريقيا التي امتصها كمستخرب(وليس مستعمراً ) وخرج منها بعد أن تركها يفتك بها الإيدز وتوابعه من الأوبئة المستوطنة والجديدة .
بصدد طرديّتي فقد كانت مكرّسة لمديح الغراب، الغراب صديقي لا بل هو أنا ومحبتي له لا تقل عن محبتي لكل حيوان ونبات وحجر على هذا الكوكب.
أنـعَـــتُــه ُ بـمــا بــه ِ ومــا بـي:
أنـصـعُ مِـن أبـيـضِهـا الـخَـلاّب ِ
يَـعــرج ُ حـتـى دونــمـا أسـبــاب ِ
قــرارُه ُ أعــمــق ُ مِـن جــوابـي
وشيـبـُـه ُ تـحــتَ دجـى الـشـبــاب ِ
كَـمُـخـطـئ ٍ وهــو عـلى صـواب ِ
يـا زاغ ُ يـا خِـلّـي ويـا غـرابـي
إنـعَــقْ بـلا خـوفٍ ولا اقـتـضـاب ِ
إنـعَــقْ أ ُتَــرْجـِم ْ بَـثــَّـكَ الـلِـبـلابـي
طــرْدِيـّـة ً كـُـحـْـلِــيَّــة َالأهــداب ِ
س5: ياسمينة حسيبي: أبرز سِمات قصائدك، أنها وعلى شكلها الكلاسيكي النابع من الأصالة والتراث، تنهل من العصر حداثة معانيها.
كيف استطاع الشاعر جمال مصطفى أن يطوّع أوزان العمود لصالح الحداثة؟
ج5: جمال مصطفى: قصيدتي العمودية ليست منخرطة في معمعة الحداثة كونها عمودية ومبتعدة عن مجريات الواقع موضوعا ً إلا نادراً وبالتالي فهي قصيدة منسحبة توخيّا ً للتأمل وحبّاً بالعزلة.
لا اعتقد ان الشكل العمودي صعب بل هو أسهل من تقنيات قصيدة النثر الجيدة، إذ يكفي أن تستغرق في قراءة قصائد طويلة من الشعر العمودي مثنى وثلاثاً ورباعا وخماساً،حتى يترسخ النغم في لا وعيك وهذا كله يجب أن يتشربه الشاعر ويكثر منه مبكراً وليس على كِبَر حتى ينغرس كسليقة ويندغم بروح الشاعر ونبضه وأنفاسه وإلا فإن تعاطي كتابة الشعر العمودي بلا استعداد كاف سيكون مشقة ً وافتعالاً وضحالة لا طائل من ورائها ثم ان الميل الفطري يلعب دوراً كبيراً في ذلك وحب اللغة العربية لذاتها يدفع الشاعر الى معانقتها بحرارة نثراً وشعراً وبعد ذلك يتكفل اللاوعي بإعداد كل ما يلزم.
في كل نثر عربي جيد يمكن أن يعثر القارئ العارف بأوزان الشعر على جُمَل ٍ وأشباهِ جمل ٍ موزونة، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على ان اللغة العربية ضالعة في النغم ولا فكاك بين هذا وتلك إلا عند مَـن لم يتشبّع بقراءة واسعة في اللغة، فلا تكاد تخلو قصيدة نثر جيدة من جملة موزونة وشاعر قصيدة النثر يسعى دائما الى أن يخلق إيقاعاً وأنغاماً بديلة لا تستغني عنها القصيدة بأي حال من الأحوال وقصيدة النثر الأجود هي قصيدة النثر التي عثرت على ايقاعها الخاص البديل عن الإيقاع العام .
جُل ما يكتب كقصائد نثر لا يفتقر الى عنصر (إذا افتقر) أشدَّ من افتقاره الى عنصر الإيقاع.
(من قصيدة غزالة الفوضى الخلاقة)
غـزالـة ُ الـفـوضى بـلا واعــز ِ
بـريــئــة ٌ بَــراءة َ الــمــاعِــز ِ
مِـن كـلِّ مـوتـور ٍ ومِـن عـازف ٍ
مـالَ إلـى دوزانـِهـا ِ الــنــاشــز ِ
غـزالــة ٌ بَـزالــة ٌ، فـاحـزروا
جـائــزة ٌ لـلـحــازر ِ الــفــائِــز ِ
إنَّ لـهـا قــرنـا ً وحـيــداً ولا
تَـخجـلُ مِـن قــرْن ٍ لـهـا بــارز ِ
شقـراءُ لـكـنْ شَعْــرُهـا عِـيـرة ٌ
لَــمّــازة ٌ ألــمَــزُ مِـن لامِــز ِ
مـا قـفــزتْ مِـن خـبَـر ٍعـاجِـل ٍ
إلّا إلـى ثــان ٍ بـهـا قــافِـــز ِ
قـنـفــذهـا الأمـلـسُ أشـواكُــهُ
مِـن لَـيْـزَر ٍ مُـبَـرْمَـج ٍ واخــز ِ
تَـكَـنْـغَـرَتْ ونحـنُ مِـن يـومِهـا
أسرى هَـوى إيـقـاعها الـنـاقِـز
س6: ياسمينة حسيبي: العلاقة بين الشعر الحديث والتراث من أبرز القضايا التي يتناولها النقد العربي ومع ذلك مازالت قضية " ضبابية المتناول"!
لكن المُشاع هو أن "القديم دون حديث حجر عثرة، والحديث من دون قديم هراء لا طائل منه"
كيف ترى مناخ الشعر المعاصر بمعيار ثنائية التراثية والحداثية؟
ج6: جمال مصطفى: الشكل الفني ما هو إلا قالب يتوارثه الفنانون لا يهرم حتى بعد مئات السنين وهناك ما لا يزال في ورشات الإبداع حتى الآن منذ ألف عام ونصف الألف كأوزان الشعر العربي مثلا ً، لكنّ جدل الحداثة والقدامة عند العرب ارتدّ في عصرنا الراهن من تلاقح خصب تعتمد عليه ديمومة الفن الى
رغبة في الحسم والإلغاء، رغبة في إبادة الخصم كلياً والتربّع أحادياً على عرش احتكاري هو في الصميم تقليعة أو زي لا أكثر سواء كان هذا الزي محاكياً للماضي أو مدعيّاً معانقة المستقبل، وهذا الأخير ليس أكثر من وكيل يستورد بضاعة أجنبية ويبيعها على مستهلكين أصغر منه بعد مسخها وصفته كوكيل تدفعه الى تسفيه ما ينافس بضاعته أو يناقضها فصرنا نلوك مصطلحات أكبر من قصائدنا
ونكتب بلغة هي في حقيقتها ترجمة حرفية للغات اوربية مهيمنة ونخاطب جمهوراً افتراضيا ً وهكذا أحرقت الحداثة مراحلها بسرعة اغترابية ثم انسحبت الى زاوية يتصدّق بها التقدم التقني على المثقف كي يتحاور فيها مع نخبة ٍ على شاكلته هي الأخرى لا حول لها ولاقوة، فقد احتكر صاحب المصرف الدولي كل شيء موزعاً بعض هباته على وكلائه في فروعه أو أذرعه الأخطبوطية . إن عصراً كهذا لابد أن يجرف العالم بما لا يترك مجالاً لخصوبة روحية أو رفعة نفسية أو وجدانية ضارباً بعرض الحائط كل ألأشواق التي تختلج في صدور وأرواح الفيلسوف والشاعر والفنان والعالم والروحاني وغيرهم من ذخر البشرية الحضاري كله. لا خير في حضارة عضلاتية يقودها يانكي مهووس يتحكم به مصرف شايلوكي أوحد.
إنّ اعتبار التطور التقني كل شيء أو هو التقدم ولاشيء غيره، لهو دليل إضافي على العدمية التي تلف العالم المعاصر من قطبه الشمالي الى قطبه الجنوبي ولولا استثناءٌ هنا واستثناءٌ هناك عن هذه القاعدة لعمّ التعقيم عالمنا وهذا الإستثناء يكاد ينحصر في حركات انسانية تتحدى تغول اليانكي والغرب وتوابعهما في تهديم البيئة وإغراقها بنفايات لم يكن لها وجود إلا بعد دخول العصر الصناعي مرحلة التسبيخ الشامل لكوكبنا اللازوردي وثمة أصوات قليلة هنا وهناك لفلاسفة وفنانين وروحانيين (وليس رجال دين) تستنكر وتفضح دون أن يسمعها العالم، هؤلاء هم أزكى من يمشي على هذه الأرض في أيامنا هذه التي يعصف بها اللايقين عصفا .
كأنني جنَحتُ قليلا ً مبتعداً عن سؤالك ولكن إجابتي هذه لا تبتعد عن جوهر السؤال أليس كذلك؟
بغـتَـة ً
تَـبَدَّدَ الظلام
اللصوصُ تماثيل
رويدا ً
رويداً
اتـَّـسَـخَ الضـوء
التماثيلُ تَـتَـلَـفَّـتْ
س7: ياسمينة حسيبي: (في جوابك عن السؤال السابق فتحت أبوابا كثيرة، وكم تمنيت لو يسعفنا هذا الحوار للدخول منها .. وإليها)
أكثر قصائدك (وإِنْ تستحوذ على قارئها حتى الحرف الأخير) تندرج ضمن قصائد الغموضِ لما تزدحم به من ترميز ومخاتلة دلالية وإيحاء وآفاقٍ متراكِبَة، فكأني بك تنتشي كلما "أطفأتَ الضوء لهنيهة لكي يظهر المصباح مجددا" (كونتر كراس).
وأجلْ .. فالغموض مشروع على مستوى القيمة المضمونية أو القيمة الجمالية ولكن هذا لا يعني الميل إلى الإبهام والألغاز والطلاسم تحت ذريعة الرمزية.
ما موقفك من شعر "المعميات والألغاز"؟
ج7: جمال مصطفى: الدماغ البشري حتى الآن لم يفك شفرته الأعمق ولا أظنه سيصل في يوم من الأيام الى معرفة أسراره كلها ومن هنا تقذف الخافية الى الوعي ألغازاً محيرة لأنها تتجاوز قدرة الوعي على الإحاطة بما تحته وبما فوقه وهذا من أشد ما يغوي ويغري الشاعر بسبره واستدراجه بالحدوس لعله يهتدي على ضوء ذلك الى نتفة من أسرار الباطن على ان هناك فرقاً بين المُعَمَيّات والغوامض، بين الإبهام كنتيجة لفقدان السيطرة على التعبير وبين بزوغ الغموض كضوء موارب من أعماق الصورة الشعرية، ويبقى الغموض نسبياً فما هو عند هذا القارئ شديد الغموض يراه قارئ آخر معادلاً فنياً لما يريد الشاعر نقله لا على حساب شعرية النص بل من أجلها على وجه الدقة ثم ان الغموض أحياناً يتأتى لأن الشاعر مشتبك بالمُلْتَبِس ككل دون محاولة تفكيكه كي لا يفقد الموصوف نكهته الفارقة، والغموض ايضاً رديف السحر والسحر من جوهر الفن ومن جوهر الماوراء ومن جوهر الباطن وحين تكون القصيدة معنية باختراق كل ذلك سيأتي الغموض كتحصيل حاصل، والغموض هالة الساحر والشامان والصوفي والسندباد أمّا الإبهام فهوعدّة الدجّال والسارق والمتلصص ويبقى القارئ الناقد فيصلا ً في فك الإشتباك بين الغموض والإبهام في القصيدة أو في وعي المتلقي فلعل غموضاً لابد منه لقصيدة بعينها سيحسبه قارئ عابر إبهاماً وما أكثر المكتفين بإنشاء رومانسي منثال على شكل سطور شعرية وهؤلاء سينفرون بالتأكيد من كل ما يتجاوز توقعهم وقدرتهم على التوغل في أدغال شعرية يحتاج المتوغل فيها الى رغبة دافعة ومخيلة مجنحة وذخيرة لغوية
وموسيقية ومعرفية كافية .
سرّ ٌ وراءَ الـسرِّ: قــاص ٍ في طـبــيــعــتـه ِ ودانْ
الـسرّ يـَـخـتــلــقُ الــمـسـافــة َ كـالــسراب لـكـل ظــانْ
قـد يـنجـلي فـيهـا الـجـلـيـلُ الـمـسـتـحـيـل أو الـمُـصـانْ
بـحـجــابــهِ عَـنّا . يـقـول : أنـا أراك ولا تَــرانْ
سـبـّـابـة ُ الـعــيــن الـتي تُـصـغـي الى اقـصى الــرهـانْ
نـسْغُ الـصعــود الـحُـرّ اشجــاراً تـطـيــر الـى الـجــنــانْ
وتـعــود : نــسـغ نــزولـهــا ادرى بـ مـا بعـد الأوانْ
وبـمـا طـَهـا في الـغــيــب طاهـيـهـا ومـا ذاق اللـسـانْ
هـو إنْ تَـبَـخـّـرَ مُـسـتـعـيـنٌ أو تَـكَـثــَّـفَ مُـسْـتــَعـانْ
هـذا بـتـلـك، وهــؤلاءِ بـهــؤلاءِ: الــمَــعْـــمَـــعــانْ
جَـدَلٌ عـلى أمـل ِ انـدلاع ِ الـنـار ِ مِـن تـحـت الـدخــانْ
س8: ياسمينة حسيبي: بعض الشعر يعيد التوازن للروح وبعضه يكون عزاءً لها، لكن الأهم في التجربة الإبداعية هو "حسن الإصغاء للزمان وللمكان".
كيف يمارس الشاعر جمال مصطفى "حسن الإصغاء" لذاتيته الشاعرة في الغربة؟
ج8: جمال مصطفى: لا أراني شاعراً مغتربا ً فلم أكن في العراق سوى فتى يطمح الى ان يكون شاعراً أما الآن فأنا واحد من ملايين الغجر الذين لا وطن لهم أكثر دفئاً من لغتهم الأم، فالغجري وطنه غجري مثله.
التغجّر الآن زمكانيّ والغجري الآن لا يصغي إلاّ الى غجري آخر كي يحدد موقعه مما يتحرك من حوله وبسرعة يستعصي معها الإصغاء إلا إذا كان الإصغاء يعني التلفت فغجر اوروبا الجدد من أمثالي يصغون إذ يتلفتون، نحن نتلفت وجوها ً وأرواحاً وذكريات ٍ.
أصغي الى ذاتي غائباً فلا أسمع سوى رياح الخريف تكنس ذكرياتي الغجرية كلها تاركة ً غصوني الأولى عارية ً على جذع عريق مما قبل العصر الغجري..
هـذه الـلـيـلـة َ، يَـعــوي وحـدَه ُ
في بـراري راحـتــيــهِ الـشاعــرُ
لا عـلى شيء ٍ ولـكــنْ مـثـلَـمـا
في جـبـيـن الصمت ِعِـرْقٌ نافـرُ
هـذه الـلـيـلـة َ ريــشٌ عـارف ٌ
بـمـهـبِّ الـريــح ِ لــكــنْ حـائــرُ
لا بـمـا قـبْـلَ ومـا بـعْــدَ ولا
كـيـفَ يا سحْـرُ يـمـوت الساحـرُ
بـل بـلـبــلاب ٍ ولـبــلاب ٍ إلى ...
زاحَــمَ الـغـيــمـة َ هـذا الـسـادرُ
س9: ياسمينة حسيبي: مشهود لك بالحسّ النقدي إلى جانب شاعريتك الفذة. ما الذي يدفع الشاعر الى ممارسة النقد خارج إبداعه الشعري رغم افتقاده للمنهجية الأكاديمية؟
ج9: جمال مصطفى: لا أتعاطى النقد ولست ناقداً ولكنني أعلق على ما ينشره زملائي بتفاعل
فإذا كان ذلك نقداً فكل شاعر ينطوي على ناقد بالضرورة غير ان البعض من الشعراء لا ينشّط الناقد الكامن فيه بخلاً ربما وربما كسلاً أو تجنباً لإحراج هو في غنى عنه، وأنا من الذين يرون في كل مادة منشورة فرصة ً لقول نقدي يحرك الراكد ويجتذب الإنتباه الى نقطة بذاتها قد تنفع المنقود وإلا فلن يعدو التعليق أكثر من كونه مجاملة عابرة خمس تعليقات جادة أو أقل من ذلك على مادة ابداعية لهيَ أفضل من متابعة صحفية للمادة ذاتها لا تقول جديداً سوى التعريف بالمادة وصاحبها.
س10: ياسمينة حسيبي: قال أدونيس "أن تبدع اليوم هو أن تعيش فِي خطر"
ألم تفكر على هذا النحو حين راودتك قصيدة الهايكو ذات الاصول اليابانية بكل اختلافها البيئي وخياراتها الإبداعية والجمالية البعيدة عن القصيدة العربية والواقع الذي نعيشه خصوصا في العراق حيث للشعر طقوسه سواء كان حرًّا أو مقفى وحيث طريقة إلقاء الشاعر هي التي تعزف على الوتر الحساس للمتلقي؟
ج10: جمال مصطفى: صدقَ ادونيس.
المهيمن الرجعي العربي لا يرى في الإبداع سوى بدعة وهي كفر صريح عنده وخروج على ثوابت السماء والأرض ولكن الشعراء العرب قالوا ويقولون ما لا يستطيع ذلك المهيمن متابعته .الهايكو كبدعة ليس جديداً فقد حل علينا ضيفاً منذ سبعينيات القرن العشرين وهو الآن معروف على نطاق واسع حتى تجاوز النخبة الى القارىء العربي العادي وشخصياً لم افعل سوى رفع لافتة صغيرة مكتوب عليها: تعالوا نحاول كتابة الهايكو فلبى النداء شعراء مبدعون تتفاوت مواهبهم وحماستهم ومما ساعد في تكبير لافتتي ووصول ندائي الى كثيرين هو مكبرالصوت الذي تبرعت به المثقف كباب للهايكو جنباً الى جنب مع القصة والقصيدة فكان أن ترعرعت قصيدة الهايكو ونمت وتجذرت وحتى لو لم تتجذر فهي قد غدت مألوفة ومعروفة، وقرأ القارىء المتابع نماذج منها وهذا ليس قليلا ً فنظرة سريعة على المنشور في باب الهايكو تكشف كم من المياه الإبداعية والأسماء قد جرت ومرّت في بحر سنة واحدة فقط .
لست شاعر هايكو، كل ما هنالك انني ترجمت مختارات من الهايكو المعاصر نشرتها دار طوى السعودية وقد كتبت شخصياً مجموعة هايكو صغيرة ثم وجدت استجابة من بعض الأصدقاء في المثقف فتوسعت في الترجمات وسعيت الى متابعة ما ينشر بالتعليق وذلك لتحريك عجلة إبداع الهايكو ولو على نطاق محدود ولكنني متفائل جداً في ان الهايكو سيجد جيلاً عربياً جديداً من الشعراء يخطو به الى أمام فراسخ إبداعية واثقة
وقد ربح الهايكو حتى الآن شعراءَ عراقيين وعرب بفضل باب الهايكو بعضهم نشر باقات قليلة وتوقف وبعضهم نشر كثيراً كسالم الياس مدالو ولا يزال وبعضهم ترسخ في محبة الهايكو وإبداعه كزاحم جهاد مطر الذي أرى فيه شاعر هايكو غزير الكتابة وهذا يجعل منه شجرة هايكو عراقية في الداخل ستنشر لقاح الهايكو من حولها آجلا أم عاجلاً وهناك استاذنا وشيخ شعراء الهايكو العراقيين لطفي شفيق سعيد حيث نشر باقات من الهايكو فيها نماذج ممتازة وقد استرعى انتباهي الشاعر جودت العاني في نماذجه الهايكوية الجميلة الأخيرة المنشورة في المثقف ولا أدري لماذا توقفت شاعرة هايكو مدهشة هي آسيا رحاحلية فقد نشرت في المثقف باقتيْ هايكو نالتا استحسان الكثير من القراء، أمّا ان بعض ما ينشر لا يمت الى الهايكو بصلة فهذا صحيح ولكنني أعوّل على الزمن في غربلة ما ينشر
ولا بد من الصبر حتى يترعرع كمّ ٌ ونوعٌ كافٍ للحكم والدراسة والتصنيف.
منتصف الليل
غيمة تقضم البدر هلالا ً
بعد هلال
س11: ياسمينة حسيبي: قلتَ: (كان في نيتي تكريس ديوان للهايكو. لكني سرعان ما اصطدمت بمعوقات لا يمكن حلها إلا بـ "خيانة" الهايكو شكلاً ومضموناً)
خيانتك هذه اثمرت عن " شقائق للهايكو" فحدثنا عن دوافع هذه الخيانة المشروعة ولماذا أطلقت عليها تسمية "شقائق" عوض ومضات أو أقصودات مثلا؟
ج11: جمال مصطفى: في اللغات الأوربية جرت العادة على ترجمة الهايكو وكتابته ضمن صيغة
مقطعية بعينها لا يمكن نقلها الى العربية ولكن العربية قادرة على اجتراح هايكو حر دون التفريط بالمواصفات الأخرى للهايكو المعروفة وقراءة النماذج الجيدة المنقولة الى العربية كفيلة بترسيخ شكل
الهايكو المختلف عن القصيدة القصيرة جداً فمن المعروف ان الهايكو متقشف لغوياً ولا يميل الى المجاز والأستعارة ويترك الذروة الى السطر الأخير وكل هذا غير مشروط في القصيدة القصيرة جداً ثم ان الهايكو غيرالياباني تمرد على الكثير من الثوابت اليابانية والهايكو العربي لن يلتزم هو الآخر سوى ببعض الثوابت الشكلية الكافية لتمييزه عن شبيهته وأعني بها القصيدة القصيرة ثلاثية الأسطر وقد اندفعت أول الأمر الى كتابة نماذج تحاول ان تجترح طعماً عربياً فوجدت ذلك عسيراً ومحصورا ببعض الألتماعات فقصيدة الهايكو متخففة من الأبهة اللغوية والشعرية
وهذا يتطلب شاعراً من طراز خاص ثم ان الهايكو يخضع لتصفيات ولا يبقى للنشر في كتاب سوى القليل القليل من مجموع ما يكتبه الشاعر
ومن يدري لعلني أعود اليه فأكتب فيه ولكنني أميل الى هايكو معقد لا يقل عن القصيدة في رقيّه الإبداعي وفي قدرته على الإدهاش العميق لا السطحي الذي يعتمد على المفارقة فقط مع شغل على اللغة ودس طيات من الأيحاء والمعاني داخل نسيجه السحري.
أما لماذا أطلقت عليها (شقائق الهايكو ) فلإنها ليست هايكو بمقاساته اليابانية ولكنها تطمح الى ان تكون كأخيها الهايكو الأصلي ولإنها ليست ومضات بمعنى قصائد قصيرة جداً (ثلاثيات ) ولا اقصودات بمعنى انها تنطوي على أقصوصة وقصيدة في نص واحد بل هي اقرب الى الهايكو منها الى قصيدة الومضة وحتى لا يقول قارىء هذا ليس هايكو بصيغته الحقيقية وكل هذا ما يزال قيد الدرس والمراجعة نقدياً وإبداعيا ً والكلمة الأخيرة للأجيال القادمة في ما هو الهايكو العربي وكيف ولماذا .
في انتظار الالهام
الشروع في تدخين سيجارة
القداحة لا تقدح
س12: ياسمينة حسيبي: مِئتاَ هايْكو .. ثم أنشدتَ البحتري
"لَوْ تَوَلّيتُ عَنْهُ خِيفَ رُجُوعي ++ أوْ تَجَوّزْتُ فيهِ خِيفَ ارْتِجاع"
أهو الملل وكثرة التفاصيل التي تطغى على الحياة اليومية أم هي صعوبة اختمار الفكرة وتكثيفها في لحظة برق عفوية؟
ج12: جمال مصطفى: كل شاعر عربي قادر على استيعاب تقنية كتابة الهايكو نظرياً ولكن الإنخراط في الكتابة يتطلب أكثر من ذلك، يتطلب تحديداً قناعات شعرية مختلفة عما نظنه جوهراً شعرياً لا يمكن التخلي عنه إلا إذا كان ذلك الشاعر على استعداد نفسي وذوقي وثقافي تام وهذا هو السبب في ان كثيرين يحجمون عن كتابته والهايكو كالقصيدة يتجاوب مع من يكرس نفسه إبداعياً له وحده والهايكو العربي في انتظار شعراء هايكو حصرياً .
نحلة تتوغل
في زجاجة مارتيني على الساحل
حتى الثمالة
س13: ياسمينة حسيبي: ترجمتَ المئات من قصائد الهايكو الياباني (يشهد لذلك باب هايكو في صحيفة المثقف) ومع ذلك لا أظن أننا سنراها قريبا تصدر في كتاب عن إحدى دور النشر العربية.
ما السبب الذي يجعل دور النشر تشيح بوجهها عن هذا النوع الادبي رغم انتشاره في كل الوطن العربي؟
ج13: جمال مصطفى: ترجمت مختارات عالمية وقد صدر قبل أربع سنوات عن دار طوى ولم
أحصل من الناشر حتى على نسخة واحدة بحجة انني لم أدفع له ثمن النشر وقد قرأت عن كتابي هذا الكثير والكثير من التعليقات والمقالات وأرسل لي أحد الأصداقاء خمس نسخ مشكورا وهكذا غسلت يدي من رجس التعاطي مع دور النشر العربية ولا استغرب إذا لم يتبرع أحدهم بنشر كتابي ولكنني
سأنشره على حلقات في باب الهايكو ولعل الحظ يبتسم لكتابي هذا فيجد ناشراً يختلف عن الناشرين العرب اللصوص فلا يخلو الأمر من استثناء.النشر في العالم العربي تحوّل في العقدين الأخيرين الى تجارة بعيدة كل البعد عن الهم الثقافي التنويري فدور النشر وجدت مَن يدفع من الكثرة الكاثرة ممن يتعاطون كتابة الشعر والخواطر فراحت تنشر لكل من هب ودب شرطَ الدفع ثم تدهور الحال أكثر حين دخلت الشابكة العنكبوتية على الخط فكسدت سوق الكتاب الورقي تماماً سوى بعض المطبوعات الدينية والتجارية ولأسباب معروفة وهناك شعراء عرب كبار لا يجدون من ينشر أعمالهم مجاناً ناهيك عن حصولهم على ما يستحقون من مردود مادي.
اعتقد ان الكتاب الورقي سيكون في المستقبل القريب وليس البعيد مجرد تقليد متحفي وسيتحول النشر الى الشابكة العنكبوتية والأقراص وما الى ذلك ونحن كجيل مخضرم سيبقى يحن الى مجد الكتاب الورقي والى أيامه التليدة .
س14: ياسمينة حسيبي: تُشَجّع الشعراء على التجربة الهايكوية لكنْ "ما كل من ذاق الصبابة مغرم"، فالهايكو ليس فقط " فزعة أولى" وإنما ثلاثة أسطر لها أصول وقواعد معينة.
ألا ترى معي أن ثمة هناك "شعراء" ظلموا الهايكو حتى كاد ينشد:
إذا ما ظالم استحسن الظلم مذهبــــــاً
ولَـجّ عُتُــوّا في قبيـــحِ اكتسابـــــــه؟
ج14: جمال مصطفى: لولا التشجيع والمتابعة لما كان باب الهايكو ولتأخر التعريف بالهايكو وتذوق بعض نماذجه العالمية الى سنوات قادمة فالهايكو قادم لا محالة وهو يطرق أبواب جميع اللغات والعربية ليست مستثناة ً من ذلك وأنا وعشرات مثلي هنا وهناك يترجمون ويكتبون عن الهايكو في العالم العربي من المغرب حتى عمان مروراً بلبنان وسوريا والعرب المنتشرين في جميع أصقاع الأرض ومن الطبيعي أن تجدي في خضم البدايات الكثير من التجارب الغثة ولكن الزمن سيغربل وهذا ديدن كل إبداع وكل جديد
قـصـيدة الـهـايـكـو
تعـالـي برتـقـالـيّـة ً، حـمـراءَ: مُـرَقــّـطَـة ً
أيـتـهـا الـدعـسـوقـة
س15: ياسمينة حسيبي: "إن اطلالة هايكو الشاعر جمال مصطفى على صفحات المثقف كانت كبروق في لحظات الشفق"، هكذا افتتحت الشاعرة المبدعة ميادة ابو شنب باب الهايكو بالمثقف باقتراحِ ورعاية الشاعرة والناقدة الفذة أ.د. بشرى البستاني
ما تقييمك لتجربة "باب الهايكو" في صحيفة المثقف بعد حوالي السنة من هذا الافتتاح؟
ج15: جمال مصطفى: باب الهايكو هو الآن حديقة هايكو جميلة في (المثقف) وستجدين ان هذه الحديقة قد تحولت الى غابة ممتدة الأطراف بعد سنوات قليلة ويكفي المثقف فخراً أن يرعى ذلك وقد انتقلت عدواه الجميلة الى مواقع اخرى فخصصوا للهايكو حيزاً الى جانب القصيدة والقصة وبالتأكيد يسعدني كثيراً متابعة باب الهايكو وقد توسع كما ونوعاً خاصة حين يدخل شعراء جدد الى ساحة إبداعه وأنا بهذه المناسبة اقدم التحية الى الأصدقاء والصديقات وكل من ساهم في باب الهايكو نقداً وترجمة وإبداعاً وتعليقاً وتحريرا.
س16: ياسمينة حسيبي: إيقاع العصر، فرض عدة محاولات عربية تسعى بجهود حثيثة لرفد الكتابة الشعرية العربية بنموذج "الهايكو العربي" والنهوض به ليأخذ هوية عربية دون المساس ببنيته وجوهره
هل لك مشروع مماثل ينطلق من بلاد المهجر؟
ج16: جمال مصطفى: المهجر؟
ليس أكثر من مكان بديل ولغة اخرى ولا أنسى ان هذا المهجر اشترك مع أنداده في تهديم بلدي ولا أقول هذا انطلاقاً من نعرة عدوانية أو حسد أو غير ذلك بل هذا هو واقع الحال وكما قلت في إجابة على سؤال سابق أنا هنا واحد من ملايين لا ملامح لهم سوى انهم غرباء يتمتعون بحقوق لابد منها ليبقى الغرب غرباً محكوماً بقوانين تبدو ظاهرياً أفضل مما عداها في أصقاع الأرض الأخرى.
أقول هذا مستثنياً المواطن الغربي العادي من كل إدانة، إدانتي تخص المتحكم بالغرب سياسياً ومالياً وستراتيجياً وإعلامياً (مردوخيّاً) فشعوب الغرب مغلوبة على أمرها وكل ما هنالك انها تعيش في بحبوبة وحرية أفضل نسبياً من غيرها لأسباب معروفة لا تخفى على المحلل العارف ببواطن الأمور ولعبة الأمم .
س17: ياسمينة حسيبي: العراق "جنة وجحيم" لمُبدعيه ولشعرائه المغتربين. ما مدى تأثير ثنائية " الخارج والداخل" على الأدب العراقي بشكل عامّ. وهل يُنْصف العراق شعراء الخارج في مهرجاناته الشعرية؟
ج17: جمال مصطفى: بعد انهيار برج بابل تبلبلت الألسنة وخرج البابليون هائمين على وجوههم في الأرضين ولا يزالون منذ ذلك الحين حتى الآن فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا، كأنها قرابين لعنة أزلية حتى صارت الشعرية العراقية إذا صح هذا التوصيف شعريات وليست شعرية واحدة، الشعرية العراقية الآن أرخبيل جزره متناثرة ما بين قطبي الكرة الأرضية وصار من الصعب أن تعود الى قمقمها العراقي الذي تهشم هو الآخر ولم يبق منه سوى أطلاله أو شظاياه الجارحة .
والختام، سيكون جمالاً بمقطع من "قصيدة تجرها الخيول" وتسحبنا معها صوب عوالمك الثرة والممهورة بالشعرية الاصيلة.
شكرا لك الشاعر القدير جمال مصطفى على السماح لنا بولوج روحك والخروج منها بهذه الكنوز الشعرية والمعرفية القيمة
قـصيـدةٌ
تجـرّهــا
الخـيــول
إلـهــة ٌ لــيــسَ لــهـــا رســول ُ
تـقــولُ: إنّ صـمــتَـهــا يـَـقــولُ
لا يـخـتــفـي الـبــرقُ إذا أرادتْ
ولا يُـغـِـذ ّ الـنـيــزكُ الــعَــجــولُ
محـبــرة ٌ حـبـلى بـكـلّ آي ٍ
وجَــنّــة ٌ مِـن أزل ٍ بَــتـــولُ
مَـن هـاؤهـــا لـيـستْ كـأي هـاء ٍ
ولامُهـا: مُـسْتَــفـْـعـَـلـنْ فـعـولُ
صِـدّيـقَــة ٌ بُـهـتــانُـهـا كُــرومٌ
يَحـرسـهُ لـصوصُهـا الـفـحـولُ
نـمــوت مِـن جـمــالـهــا ونـحـيـا
وديـنـنـا مِـن فـرْطـِهــا الـحُـلـولُ
(مَصارعُ الـعـشّاق)؟ هـرْطـقـاتٌ
لا يَـصـرعُ الكـواكـبَ الأفـــولُ
على الـسمـاء انـقـلـبـتْ طـريـقـاً
قـصـيــدة ٌ تَـجــرّهـــا الـخـيــولُ
وخـلـْـفـَهــا الـخـيـالُ سـنـدبـادا ً
وألــفُ غـول ٍ عاشق ٍ وغــولُ
مُـبَـجّــلٌ كـطـيــشِـهــا حِـجـاهــا
مُـحَـجّــلٌ كُـمَــيْــتُــهــا شَـمــولُ
الـجَـذبُ والـنَـبْـذ ُ وحـاجـبــاهــا
والشوط والـمِضمـارُ والفـصولُ
مـا بـيـننـا وبـيـنـهـا وبَـيْـن الــ
زيــت ِ الـذي يُـضـيـئـنـا يحــولُ
يـسرقـهـا منهـا، يـقـول:عـندي
ولـن تـعـودَ، الـعَـدَم الـعـذولُ
تَــمَـوّجـاتُ الـسـوط ِ ألـسَعـِـيـّـا ً
والـمُـطـلـقُ العـريـانُ والـذهـولُ
شَـرّدَهــا مَـجَــرّة ً شَـذاهـــا
وكُــلّـهــا و جُــلّــهــا فـــلــول
تَـهَــشّـمَ الـبــلّــورُ أرخـبــيــلاً
مِـن شَـغَــفٍ وهـامَـتْ الـوعـولُ
ومــاؤهـــا عَــذ ّبَ كـلَّ بَـحـْــر ٍ
وكَـيْــدُهــا لـبـحــرهـــا يَــؤولُ
تـركـتُـهـا في الـطـيـف تـركـوازا ً
تَـأويـلُــهُ: لا يُـمْـكِــنُ الـدخــولُ
يـاغُــنّــة ً تَـغـــارقـــتْ غِــنــاء ً
يـا ذروة ً: لـم يَـصِـلِ الـوصـولُ
نَـزَّلـْـتِ أو نَـزَلـْـتِ، مُـدهـشاتٌ
أسبــابُـهُ الـعـلـْـويّـة ُ، الـنـزولُ
ياسمينة حسيبي
مدارات حوارية – المثقف
12 3 - 2016