حوارات عامة

د. زهير ياسين شليبه يحاور المستعربة الروسيىة البروفيسورة أولجا بوريسوڤنا فرولوڤا

فرولوﭭا أولجا بوريسوفنا اسم معروف في الاستعراب السوفييتي، تعرفت أول مرة عليها من خلال مطالعتي ترجمتها لقصة “زينب” لمحمد حسين هيكل. ثم أخذت وبمرور الزمن أطلع على اهتماماتها العلمية وعلى النصوص المترجمة من قبلها من العربية إلى الروسية.

وأخيرا صرت اسمع عن صفاتها الشخصية كإنسانه محبه للآخرين تقدم لهم المساعدة الضرورية في أي وقت كان، وهي امرأة متواضعة لا تعرف التكلف ولا الرسميات، أخيرا فإن بعض الطلبة العرب “الجديين” الذين يدرسون في مدينتها لينينغراد يحبونها ويحترمونها ويطلبون منها المساعدة والنصح العلمية باستمرار.

وهكذا كنت أفكر باللقاء بالبروفيسوره اولجا بوريسوفنا رئيسة القسم العربي في الكلية الشرقية التابعة لجامعة لينينغراد.

وشاءت الظروف أن يعينها المجلس العلمي لمعهد الاستشراق الذي أدرس فيه كمناقشة ومقيّمة رسمية علمية لأطروحتى فسهّلَ هذا الأمر لقائي بها. فنحن الآن مع أولجا بوريسوفنا في بيتها الذي يقع على شارع دوبرولوبوف في الساعة السابعة من يوم 15 أيار، وكان الطقس في ذلك اليوم رائعا وكانت خيوط الشمس الذهبية تضيء غرفتها الكبيرة لكنها تبدو صغيرة بسبب كثرة الكتب وما يتبعها من مظاهر البحث العلمي (منضدة عمل، آلة طابعة وإلخ).

أهم ما يلفت النظر في مكتبتها كثرة الكتب العربية: تاريخ الشعوب الإسلامية لكارل بروكلمان، من التراث العربي “اللزوميات أو لزوم ما لا يلزم، سيرة بني هلال، ديوان عمر بن أبي ربيعه” وأشعار أحمد فؤاد نجم وغيرها من الكتب القصصية، والشعرية، والقديمة، والمعاصرة.

كانت أولجا بوريسوفنا قد رجعت توا من مكان عملها في الكلية الشرقية وكان التعب بادياً عليها، فأستأذنتني بأن تحضر بعض المأكولات الجاهزة والسريعة، إضافة إلى الشاي والبسكويت. وما هي لحظات حتى بدأت أولجا بوريسوفنا حديثها قائلة:

- عم تريد أن أحدثك؟

- لنبدأ بالخاص ثم ننتقل إلى العام. حدثينا عن بداية اهتمامك بالاستعراب. متى كان ذلك؟ ولم الاستعراب بالذات؟

ابتسمت أولجا بوريسوفنا وكان واضحًا أن هذه الابتسامة كانت بمثابة تحيه حب وتقدير واجلال إلى أولئك الذين شجعوها على تعلم اللغة العربية وقالت:

- أنا أكبر من غائب طعمه فرمان بسنه واحده.

كم عمر غائب؟ هل تتذكر؟

سألتني وهي مستمرة في حديثها فأجبتها:

- هو من مواليد 1927

واستمرت في حديثها معلّقةً:

بالضبط. أما أنا فمن مواليد 1926. وأنا أذكر الحرب تماما كما يذكرها غائب طعمه فرمان، بل وأكثر لأني شاركت فيها. ولعبت الحرب دورا كبيرا في تكويني الشخصي. ودخلت في الكلية الشرقية التابعة لجامعة لينينغراد في عام 1941 ثم انقطعت عن الدراسة بسبب مشاركتي في الدفاع عن لينينغراد وحصلت على وسام الدفاع عن هذه المدينة البطلة (وبالمناسبة حصلت على وسام العمل عام 1953 بمناسبة مرور 250 عام على تأسيس لينينغراد).

ثم قالت: لنرجع إلى أهمية الحرب العالمية في حياتي. بسبب مشاركتنا في هذه الحرب كانت أفكار التحرر من الاستعمار والعبودية بشكل عام قريبه جدًا منا، وكنا نتعاطف مع شعوب الشرق لأنها كانت تعيش تحت نير العبودية ومستغله من قبل الدول الاستعمارية، ولهذا فكنت أحب الشرق وأحلم واتمنى أن أقدم مساعدة ما لها، وأن أدرس ثقافاتِها وآدابَها وتاريخها، فبدأت بقراءة أحد الكتب القديمة بقلم رونشتين، واعتقد اسم الكتاب (استغلال مصر) أو (استعباد مصر)، المهم أنه كان يتحدث عن تاريخ مصر القديم، وعن حضارتها ثم عن واقعها الحالي وكيف آلت الظروف أن تتحول إلى بلد يعاني من الظلم والعبودية. وأستطيع أن أقول إن هذا الكتاب بالذات هو الذي دفعني للعمل في مجال الاستشراق. وبالمناسبة لم أكن في شبابي أميز بين الدول العربية وبين دول الشرق الأخرى، فكنت أتصور إيران وتركيا والدول العربية كلها تقع ضمن حدود قومية واحدة، وكان بالإمكان أختيار أية دولة من دول الشرق لتكون مركز اهتماماتي ودراساتي. وكان أن التقيت بالمستعرب الكبير كراتشكوفسكي، وحسم هذا اللقاء مسألة اختيار التخصص حيث أخذت مجال الاستعراب بالذات والفضل يعود إليه فهو شخصية وقوره ومؤثرة ومحترمة جدا.

كان لقائي به محض صدفةٍ. كنت في وقتها أتحدث مع نائب عميد الكلية الشرقية بشأن الاختصاص، حيث كنت حائرة بين اختيارين: الدول العربية أم دول شرقية أخرى، وهنا دخل شخص لا أعرفه فقال لي نائب العميد مشيرا إليه:

- هذا هو كراتشكوفسكى، اختاري.

وفعلا عندها قررت دراسة اللغة العربية وكان هذا عام 1945 وكان عدد الطلبة 16 طالبا في الصف الأول. المستعرب المعروف فيكتور بلاييف هو الذي درسنا اللغة العربية، أما كراتشكوفسكى فكان يقرأ علينا محاضرات في مواد مثل: المدخل في الدراسات العربية، تاريخ الآداب العربية، القرآن الكريم وتفسيره، الشعر العربي الجاهلي، اللهجة السورية لأنه عاش في سوريا وتعلمها بشكل جيد. كان كراتشكوفسكي دائم النشاط، يحب العمل الدؤوب والجاد رغم مرض القلب الذي أعاقة وأدى به إلى الوفاة عام 1951.

أما زوجته فيرا الكسندروفنا كراتشكوفسكايا فقد توفيت عام 1974 عن عمر يناهز التسعين.

س: وهل كانت فيرا كراتشكوفسكايا مستعربه؟

ج: بالتأكيد وكانت مختصة بالنقوش العربية في المساجد وعلى القبور وعلى مختلف الآلات والأدوات، وكانت تلقى محاضرات عن تاريخ الثقافة المعمارية عند العرب وعن الهندسة المعمارية في اليمن بشكل خاص. وهي بالمناسبة رسامه ماهرة وجيدة.

ثم سألتُ محدثتي أولجا فرولوفا:

س: وماذا بعد تخرجك من الكلية الشرقية؟

فأجابتني: أنهيت الدراسة عام 1950 وقررت الاستمرار في الدراسات العليا فكتبت أطروحة بعنوان: (الكامل في التاريخ لابن الأثير) ودافعت عنها عام 1954، ثم تابعت: ابن الأثير ولد في مدينة (جزيرة بن عمر) ثم عاش في (الموصل) وهو عراقي، إلا أن مؤلف المنجد يشير إلى أن (جزيرة بن عمر) هي مدينة سورية تقع على دجلة الأوسط واسم مؤسسها الكامل هو الحسن بن عمر بن الخطاب التغلبي.

س: في عام 1975 دافعت عن أطروحة الدكتوراه في (الشعر الشعبي المصري)، هل يمكن أن تحدثينا عن سبب اختيارك لهذا الموضوع؟

ج: لقد عملت كمترجمة في المعرض الصناعي السوفيتي الذي أقيم في مصر في 1957-1956. ثم عملت في القاهرة من 1959 حتى 1963 في (مدرسة الألسن العليا) والآن تسمى كلية الألسن العليا في جامعة عين شمس. ولقد اعانتنى هذه الفترة كثيرا في الاطلاع على حياة الشعب المصري وتقاليده ولهجته الشعبية ودرست هناك مادة الترجمة في قسم اللغة الروسية الذي كنت أرأسه بنفسي. وبلا شك أن تدريس هذه الماده أيضا ساعدني على تعلم اللهجة المصرية. وكنت أحضر هناك الحفلات الغنائية التي أقامتها كوكب الشرق أم كلثوم، ومازلت أذكر أن ريع هذه الحفلات كان مخصصاً للدفاع عن مصر.

س: لننتقل إلى بعض خصوصيات اللغة العربية ونظام التأليف العربي الرفيع.

كما تعلمين مازالت مفاهيم هذا النظام تمارس حضورها حتى عند النقاد العرب المعاصرين من حيث تأكيدهم على جمال لغة الشعر ومتانتها، وهناك دوائر رسمية رفضت الاعتراف بالشعر الشعبي كشعر حقيقي، فما هي وجهة نظرك في هذا المجال؟ وما هي استنتاجاتك؟

وهنا تحمست للإجابة فقالت:

ج: أنا أؤيد وجود اللغة القومية الأدبية الواحدة للعرب، لأن هذا الأمر له أهمية سياسية ويساعد على الوحدة القومية والنضال من أجل التحرر الوطني والقومي. ولكن وجود الشعر الشعبي، وحب الناس وتغنيهم بالشعر الشعبي لا يعني تفرق العرب. إن الشعر الشعبي يختلف قليلا عن اللهجة ويمكن برأيي تسميته بـ(اللهجة الرفيعة) لأنه شعر وليس لهجه. إنه شكل خاص أرفع مما يتصور الكثير. وكذلك فإن اللهجة هي لغة الحياة اليومية ويجب دراستها من حيث كونها ظاهرة اجتماعية، يجب تحليلها تحليلا دقيقا. وأنا أتفق مع ما ذكرته في أطروحتك بخصوص تعدد النبرات اللغوية في العمل الأدبي. أي يجب دراسة تعدد أشكال التعبير اللغوية وتنوع طرقه عند الناس، الذين يكتب عنهم الأدباء.. أي لا بدّ من رفع المستوى اللغوي عند القراء، ولكن ليس على حساب فنية العمل الأدبي، فلا بدّ إذن من لغة عربية فصيحة جميلة، غير منقطعه عن الحياة الاجتماعية.

س: سبق وأن ترجمت رواية (زينب) لمحمد حسين هيكل، وأنت مطلعة عليها وعلى غيرها، فهل تؤيدين وجهة النظر التي تؤكد أن هذا العمل هو أول رواية فنية مصرية أم (عودة الروح) لتوفيق الحكيم؟

ج: أنا شخصيا اعتقد أن زينب هي أول رواية فنية حقيقية في مصر لأنها تطرح واقع الفلاحين المصريين، تطرح "تعدد الأصوات" التي ذكرتها في أطروحتك، وتعدد النماذج البشرية، وتطرح حالتهم المزاجية الاجتماعية ووضع المرأة الاجتماعي، وفيها عناصر وجدانية أيضًا، أي أن العنصر الوجداني ينسجم في هذه الرواية مع العناصر الفنية الأخرى.

س: وما هو رأيك بأصل الرواية العربية؟ هل يمكننا أن نقول: إنها ظهرت نتيجة لتأثير الآداب الأوروبية فقط؟

ج: في الحقيقة أني لا أتفق نهائيا مع هذه الفكرة وأرى أن هذه المسألة يجب ألا تعالج بطريقة أحادية الجانب، ولهذا أنا لا اتفق مع العبارة التي استخدمتها أنت مثلا في “التقرير الملخص” لأطروحتك، أقصد عبارة: الأدب الأوروبي قام “بتلقيح” أو تزاوج الأدب العربي فظهرت الرواية العربية. أنا اقترح استخدام مصطلح آخر ألا وهو: العلاقات المتبادلة بين الآداب، تعايش الآداب وتأثيرها على بعضها، لأن مثل هذه العبارات تساعدنا على التخلص من الآراء الحادة والأحادية الجانب، أنا اعتقد بوجود أشكال قصصيه في الأدب العربي القديم شبيهة بالرواية، مع الأخذ بنظر الاعتبار الفارق بين أسلوب الكتابة المعاصرة والكتابة التقليدية. بشكل عام وجهة نظرى حول هذا الموضوع لا تختلف عما طرحته أنت في الفصل الأول من أطروحتك حول أصل الرواية العراقية، وجهة النظر التي تأخذ بنظر الاعتبار كل العوامل التي مارست حضورها في عملية تطور الرواية العراقية المعاصرة وعدم التحدد بعامل واحد كتأثير الأدب الأوروبي مثلا أو الأدب العربي التقليدى والخ.

س: تلعب حركة الاستشراق الروسية والسوفييتية المعاصرة دورا كبيرا – في كتابة تاريخ الأدب العربي القديم والمعاصر على حد سواء، وهناك الكثير من الأعمال الاستشراقية التي تستحق الاهتمام ليس في الاتحاد السوفييتي فحسب، بل وفي الدول العربية، في النقد العربي المعاصر، ونحن هنا نتسائل عن سبب عدم ترجمة الكثير من الأعمال الاستشراقية إلى العربية كذلك عن ضعف العلاقات بين المستشرقين السوفيت والنقاد والاختصاصين العرب؟

ج: نحن نحاول من جانبنا أن نعرف القراء العرب بأعمالنا وأبحاثنا الاستشراقية، ولكن وكما تعلم أن الإمكانيات والفرص محدودة. وأنا شخصيا نشرت مقال “التقليد والتجديد في شعر أحمد رامي”. ضمن مجموعة مقالات بعنوان (بحوث سوفييتية) من إصدار دار التقدم في موسكو.

علاقاتنا جيدة مع جامعة الخرطوم ولنا اتفاقية معها، فسافرتُ إلى هناك وعملتُ فيها لشهرين وكتبتُ هناك عن الشعر السوداني بشكل عام وعن الشعر الصوفي بخاصة. ونشرت في الخرطوم مقالاً عن تاريخ الاستعراب الروسي وعن المخطوطات العربية في لينينغراد.

س: هل من جديد في مجال عملك كمترجمة ومنقحة وناقدة للمخطوطات العربية؟

ج: كتبت في الفترة الأخيرة عن المخطوطات (مواويل مصرية) وهي فريدة من نوعها وموجودة فقط في لينينغراد ونشرت في عام 1974 ضمن كتاب “آثار الشرق الأدبية القديمة” إضافة إلى مقالات أخرى تضمنها هذا الكتاب. وهذا عمل كبير في طريق إحياء التراث العربي.

كذلك توجد عندنا في المكتبة مخطوطة “مواويل يوسف المغربي”، وهي نادره، ولقد جلبت هذه المواويل من مصر مباشرة من قبل السياح الروس بعد حملة نابليون على مصر. وبالمناسبة أنا اكتشفت وجود صله بين بوشكين وبين هذه المواويل، فقد كتب شاعرنا الكبير بوشكين إحدى قصائده على أساس موال شعبي مصري اطلع عليه بالترجمة الفرنسية وأقرأ عليك مقطعًا صغيرًا من هذا الموال:

قامت فقلت اقعدي قالت مشيبتك بان

فقلت كافور بدا من بعد مسك كان

*

قالت صدقت، ولكن فاتك العرفان

المسك للعرس والكافور للأكفان

أما قصيدة بوشكين فهي بعنوان: تركتني ليلى لوحدي مساءً بلا اكتراث.

س: طيب، ولكن قد يكون بوشكين لم يطلع على هذا الموال؟

ج: ابتسمت أولجا فرولوفا وقالت: ترجم أحد المصريين المقيمين في فرنسا أنذاك مجموعة مواويل مصرية، بما فيها الموال المشار إليه إلى اللغة الفرنسية، وكان هذا الكتاب موجودا في مكتبة بوشكين الشخصية وهذا دليل قاطع على قراءته لهذا الكتاب.

أخيرًا لاحظت أن محدثتي تعبت رغم رغبتها في الحديث عن مختلف قضايا الأدب العربي فأستأذنتها وطلبت منها أن تقول آخر كلماتها للقراء العرب فقالت:

في مرة من المرات ألقيتُ كلمه أمام تجمع كبير للطلبة المصريين ثم قلت لهم آخر كلماتي وتمنياتي لهم واعتقد أنها مهمة لأنها تخص السلام في العالم وملخصة بعبارة عربية أصلية أحبها كثيرا وأعيدها الآن مرة أخرى على القراء العرب وهي:

الله هو السلام ومنه السلام وعليكم السلام.

استودعنا البروفيسوره أولجا بوريسوفنا فرولوفا بعد أن شكرناها وتمنينا لها باسم القراء العرب دوام الصحة والنجاحات العلمية.

***

حاورها: الدكتور زهير ياسين شليبه

...............................

* نُشرت في جريدة الوطن الكويتية، 25-09-1984

 

في المثقف اليوم