اخترنا لكم
محمد البشاري: بين منطق أرسطو وعقل ابن رشد
في المسافة الفاصلة بين أرسطو وابن رشد، يتبدّى العقل الإنساني، وهو يعيد اكتشاف نفسه، كمن ينظر في مرآةٍ تتجاوز الزمان لتقيس عمق الفكر لا صورته. المنطق عند أرسطو لم يكن علماً من العلوم، بل كان الشرط الذي يجعل كل علمٍ ممكناً. هو لغة العقل حين يترجم ذاته، والنظام الذي به يتمايز القول الحق من الوهم المتلبّس بالبرهان.
غير أنّ ابن رشد، حين التقط خيط هذا البناء اليوناني، لم يتعامل معه بوصفه معبداً يُزار، بل مختبراً يُعاد فيه تركيب العلاقة بين الفكر والوجود. كان أرسطو يُعلّم الإنسان كيف يُفكّر، أما ابن رشد فكان يُعلّمه لماذا يُفكّر، وبأي معنى يكون الفكر طريقاً إلى الحقيقة لا إلى ذاته.
في عالم أرسطو، المقولات هي المفاتيح التي تفتح أبواب الوجود، إذ يصنّف الكائنات بحسب مقاديرها وأوصافها، لتنتظم الأشياء في عقلٍ يطلب النظام أكثر مما يطلب الغاية. أما ابن رشد فقد تجاوز هذا التصنيف إلى قراءة المقولات بوصفها وجوهاً للمعرفة لا أقساماً للوجود. الجوهر والكمّ والكيف ليست ألفاظاً جامدة، بل هي لحظات للعقل وهو يعقل، وصورٌ للحقيقة وهي تتجلّى في الذهن. لم يعد المنطق عنده علماً بل حالا من الوعي، وفعلاً من أفعال العقل الذي لا يكتفي بأن يصف الأشياء، بل يتساءل عن سرّ انتظامها. من هنا صار المنطق عنده يقظةً للمعنى، لا آلةً لتدبير القول.
وحين يصل ابن رشد إلى العبارة، يرى فيها أكثر من تركيب لغوي، يراها تجربة للمعنى في حدوده القصوى. الجملة ليست بناءً نحوياً، بل حدثاً وجودياً، لأن القول حين يُنطَق يخلق مسافةً بين الإنسان والعالم، بين اللفظ والشيء، وهي المسافة التي يولد منها الفكر. في هذا التصور، تتحوّل اللغة إلى فضاءٍ للفهم، والكلمة إلى مرآةٍ للعقل، فلا ينفصل المنطق عن البيان، ولا الفكر عن النطق، لأن الحقيقة تُقال كما تُدرك، وتُدرك لأنها تُقال.
أما القياس، الذي هو قلب المنطق الأرسطي، فيعيد ابن رشد صياغته من جديد. عند أرسطو هو الآلة التي تقود من المقدمات إلى النتائج، من المعروف إلى المجهول، وفق ترتيبٍ صارمٍ للذهن، غير أنّ ابن رشد ينزع عنه صرامتَه الهندسية ليكشف طابعَه الغائي. فالقياس عنده ليس فقط بناءً صورياً، بل هو مسار نحو المعنى. لا يقين بغير علة، ولا علة بغير قصد، ومن هنا تتحوّل صورة القياس إلى حركة داخل الفكر، لا مجرّد رسمٍ خارجي له. إنّه اختبارٌ لحدود العقل، وإقرارٌ بأنّ اليقين ليس نهاية الرحلة بل بدايتها، وأنّ المنطق لا يكتمل إلا حين يُدرك ضعف الإنسان في طلب الحقيقة، لا قوته فيها.
وحين يتحدّث ابن رشد عن البرهان، يرفعه إلى مقام النور العقلي الذي به تُرى الأشياء على ما هي عليه. البرهان ليس برودةَ الاستدلال، بل حرارة الكشف، إذ تتجلّى فيه العلّة كجوهرٍ للعلم، ويصير العلم ذاته نوعاً من التوحيد العقلي للعالم. وهنا يلتقي المنطق بالفلسفة والكلام بالوجود، فلا تعود المعرفة انتقالاً من مقدمة إلى نتيجة، بل عروجاً من الظاهر إلى الباطن، ومن الصورة إلى الجوهر. البرهان عنده فعلُ وعيٍ يضيء ما وراء الظاهر، والعقل الذي يبرهن لا يعلّل فقط، بل يتطهّر من الغفلة، كأنه عبادة للفكر في محراب الوجود. أما الجدل، فقد أبقاه ابن رشد مجالاً مفتوحاً لتعدد المعاني دون أن يفقد الانضباط، فالمحاورة ليست ضعفاً في اليقين بل هي إقرار بتعدده. الجدل في فكره ليس نزاعاً بين المتكلمين، بل تلاقٍ بين العقول، حيث يُختبَر البرهان في ضوء الاحتمال، ويُصاغ اليقين في حضرة الآخر.. وهو الوجه الإنساني للمنطق، كما أن البرهان وجهه الإلهي، كلاهما يكشف عن طاقة العقل في الجمع بين التناقضات دون أن يضيع في فوضاها.
وهكذا يتحول المنطق في يد ابن رشد من علمٍ للقياس إلى فلسفةٍ للوعي. فقد كان أرسطو يسعى إلى تأسيس العقل، بينما كان ابن رشد يسعى إلى تحريره. في منطق الأول تسكن الصورة، وفي منطق الثاني يتنفس المعنى. بينهما تمتدّ رحلة الفكر الإنساني، وهو يتعلّم أن البرهان ليس غاية، وأن اليقين لا يُنال إلا بقدر ما يُسائل نفسه، وأنّ المنطق حين يدخل القلب يصبح نوراً لا آلة، وفهماً لا قانوناً.
***
د. محمد البشاري
عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 10 ديسمبر 2025 01:03






