اخترنا لكم
خالد الغنّامي: اللغة بوصفها اقتلاعاً للإنسان عن ذاته
حين تنفصل عن التجربة تتحول إلى نظامٍ من التكرار
منذ بدايات الفكر الفلسفي، انشغل الإنسان باللغة، هل هي مجرد أداة للتواصل، أم هي التي تشكّل حدود الفكر وطبيعة الوجود؟ غير أن ما تنبّه إليه بعض الفلاسفة العظام هو الوجه المظلم للغة، حين لا تكون وسيلة انكشاف، بل آلية اقتلاعٍ تُبعد الإنسان عن تجربته الأصيلة، وتحيله إلى كائنٍ يعيش داخل قوالب الكلام خارج صميم الوجود.
أعمق من تناول هذا الجانب كان هايدغر، الذي رأى أن اللغة ليست أداة في يد الإنسان، بل هي «منزل الوجود»، حيث يقيم الإنسان لا بوصفه متكلّماً، بل كائن يُنادى من قِبل الوجود ذاته عبر اللغة. غير أن هذا المنزل قد يتحوّل إلى سجن. فاللغة اليومية، لغة «الثرثرة» و«القيل والقال»، كما يصفها هايدغر، تغطي على الأصالة وتحجب الانكشاف. حين يتكلم الإنسان بلغة الجماعة لا بلغة تجربته الفريدة، يفقد حضوره في العالم. وهكذا تصبح اللغة طريقاً إلى الاغتراب، إذ تحلّ الكلمات مكان الرؤية، ويصبح الكلام بديلاً عن الفهم.
أما نيتشه، فكان أول من فكّك الثقة في اللغة نفسها. رأى أن الكلمات ليست مرايا للواقع، بل أقنعةٌ تغطيه. الحقيقة عنده ليست سوى «استعاراتٍ نُسي أنها استعارات»، أي أن البشر كوّنوا عبر اللغة صوراً تواضعوا عليها، ونسوا أصلها الحسيّ، فحسبوها حقائق. هنا يتجلّى الاقتلاع في أصفى صوره، فاللغة تجرّد التجربة من حرارتها الحيّة، وتحوّلها إلى مفاهيم جامدة، فتقطع الإنسان عن الفوضى الخلّاقة التي هي شرط الوجود الأصيل. عند نيتشه، اللغة هي المقبرة التي تُدفن فيها الحقائق بعد أن تُجمَّد في الكلمات.
وواصل فتغنشتاين هذا النقد، لكن من داخل تحليل الممارسة. ففي «تحقيقات فلسفية»، كشف أن المعاني لا تسكن الكلمات بل استعمالها. حين ننسى هذا، نخضع لوهمٍ لغويٍّ يجعلنا نطرح أسئلة لا معنى لها، ونعيش داخل شبكة من المفاهيم التي صارت تعيش بدلاً منّا. اللغة ليست وسيطاً بريئاً بل لعبةٌ اجتماعية، وحين نأخذها كجوهرٍ للفكر نفقد اتصالنا بالحياة. فالقول إذ يتكرر خارج سياقه، يتحول إلى تكرارٍ ميكانيكي يقتلع المعنى من تجربته الأصلية.
دريدا ذهب أبعد، مفككاً فكرة الحضور نفسها. يرى أن اللغة لا تمنحنا أبداً انكشافاً مباشراً، لأن المعنى مؤجَّل دائماً، يتوارى خلف أثرٍ لغويٍّ لشيءٍ غائب. كل كلمة تستدعي أخرى، ولا تصل إلى الأصل. فاللغة لا تكشف الوجود بل تؤجله، والكتابة، بوصفها نموذج اللغة، تغطي على الحضور وتخلقه من جديد. وهكذا يتحول الإنسان إلى كائنٍ يعيش في ظلال الكلمات، لا في ضوء التجربة. عند دريدا، لا فكاك من هذا النفي المتكرر للحضور، لأن اللغة نفسها حركة غياب.
وفي خطّ قريب، رأى موريس بلانشو أن اللغة تُكوّن مسافةً لا يمكن ردمها بين الإنسان وما يريد قوله. حين نكتب، نفقد الشيء ذاته في لحظة الإمساك به، لأن الكلمة لا تُعيد التجربة، بل تحلّ محلها. الكتابة، عنده، هي إقامة في الغياب، والكاتب هو من يعيش هذا الفقد بوصفه قَدره. المعنى عند بلانشو لا يُستعاد، لأنه لا يوجد قبل اللغة في صورةٍ نقية، بل يولد معها ويفنى معها. بهذا المعنى، كل قولٍ هو شكل من أشكال الفقد، وكل محاولةٍ للتعبير هي اقتلاع للذات من لحظتها الحيّة.
أما والتر بنيامين فركّز على هشاشة اللغة في نقل المعنى. في تأملاته عن الترجمة، يرى أن اللغة لا تحتوي الحقيقة بل تشير إليها. إنها تومئ إلى ما وراءها، لكنها لا تبلغه. فالترجمة، واللغة عموماً، تُظهر أن كل معنى يحمل في داخله ما لا يُقال، وأن المعنى الكامل لا يتحقق. اللغة، بهذا، لا تُبلّغنا العالم بل تدور حوله، وكل قول هو وعدٌ لم يتحقق بعد.
ويرى مارتن بوبر أن اللغة تفقد حقيقتها حين تنقطع عن المخاطبة. فالقول الذي لا يتوجّه إلى «أنت»، يتحوّل إلى كلامٍ ميت. اللغة الحيّة هي تلك التي تفتح علاقة بين الذات والآخر، أما اللغة المنغلقة على نفسها فتجعل الإنسان يتحدث إلى لا أحد، أي إلى الفراغ. عند بوبر، الفقد الوجوديّ يبدأ حين يتكلم الإنسان بلا حوار، لأن اللغة التي لا تُخاطِب تُميت الوجود المشترك وتحوّل الذات إلى صدى أجوف.
في القرن العشرين، أعاد شتاينر طرح المشكلة في سياق الترجمة والتواصل. في كتابه «بعد بابل»، يرى أن اللغة لا تنقل فقط، بل تُشوّه وتُعيد الخلق. كل ترجمة هي فقد جزئي، وكل محاولة للتعبير تنطوي على خيانةٍ للأصل. وهكذا تظهر اللغة كقوةٍ مزدوجةٍ تبني المعنى وتهدمه، تكشف وتخفي في آن. لا يمكن للإنسان أن يتجاوزها، لكنه يدرك في داخلها غربته العميقة.
كل هؤلاء المفكرين، على اختلاف مناهجهم، يشيرون إلى حقيقةٍ واحدةٍ، هي أن اللغة ليست جسراً بسيطاً بين الذات والعالم، بل فضاءٌ يتكوّن فيه الفكر نفسه، وقد يكون هذا الفضاء مرآةً أو قيداً. حين تنفصل اللغة عن التجربة، تتحول إلى نظامٍ من التكرار، إلى كلامٍ عن العالم لا عن الوجود فيه. وحين تصبح اللغة بديلاً عن الصمت، فإنها تفقد طاقتها الكاشفة وتغدو آلةً للابتذال. إن ما يسمّيه هايدغر «الثرثرة» وما يسميه نيتشه «الاستعارة الميتة» وما يسميه دريدا «أثر الغياب»، كلها إشارات إلى الخطر نفسه، أن الإنسان قد يُقتلع من ذاته عبر لغته. لذلك لا بد من العودة إلى الكلمة التي تنبع من تجربةٍ حقيقية، إلى اللغة التي تصدر عن الحضور لا عن العادة، عن المعايشة لا عن التكرار. تلك العودة ليست رفضاً للغة، بل إنقاذٌ لها من التحول إلى شيء، وإنقاذٌ للإنسان من التلاشي داخل كلامٍ لا يسكنه أحدٌ. فاللغة، إن لم تنبثق من عمق الكينونة، تتحوّل من بيتٍ للوجود إلى مقبرةٍ له.
***
خالد الغنّامي - كاتب سعودي
عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 27 أكتوبر 2025 م ـ 06 جمادي الأول 1447 هـ






