اخترنا لكم

السيد ولد أباه: ديمقراطية التمرد وأزمة الثقة في الغرب الليبرالي

تعليقاً على موجة الاحتجاج العارم التي اجتاحت الشارع الفرنسي يوم 10 سبتمبر، قال رئيس الحكومة الأسبق الان جوبيه، إن ديمقراطية التمثيل الانتخابي غدت عاجزةً في الغرب الليبرالي عن ضمان حالة الثقة والاستقرار التي تقتضيها السلطة السياسية الفاعلة. وليست الحالة خاصة بفرنسا التي عُين فيها خلال ثلاث سنوات خمسة رؤساء وزراء، بل نلمسها في عموم الديمقراطيات الغربية التي عادةً ما تتحول فيها اللحظة الانتخابية إلى أزمة سياسية حادة، وتتزايد فيها الحركاتُ الاحتجاجية العنيفة التي لم يعد بالإمكان احتواؤها داخل النسيج المؤسسي القائم.

 ومن مظاهر هذا التحول الجذري انهيار الطبقة السياسية التقليدية، والعزوف عن الأحزاب والتنظيمات النقابية والمدنية، وصعود الزعامات الشعبوية، وتنامي حركات التطرف الراديكالي.

قبل سنوات كتب بيار روزنفالون عن هذه الظاهرة في كتابه «الديمقراطية المضادة»، مبيناً أن المجتمعات الليبرالية الغربية انتقلت من «ديمقراطية الثقة» إلى «ديمقراطية التمرد» التي تأخذ شكل رقابة واسعة على النظم السياسية والمؤسسية، بما يتجلى في أنماط جديدة من سياسة المواطنة، من بينها اليقظة المستمرة إزاء النشاط العمومي عبر فعاليات التنظيمات الحقوقية والأهلية، والحركة الاحتجاجية في الشارع، والتقويم الدائم من خلال شبكات التواصل الاجتماعي واستطلاعات الرأي والتعليقات الظرفية.

 وبالنسبة لروزنفالون، لا بد من مراجعة أدوات ومفاهيم الشرعية من أجل التلاؤم مع هذا الوضع الجديد، الذي لم تعد فيه زمنية الحراك الانتخابي قادرة على ضبط إيقاع العمل السياسي، ولم تعد فيه الأحزاب والقنوات التداولية التقليدية كفيلة بتأطير النقاش العمومي الذي هو جوهر الممارسة الديمقراطية.

بيد أن المعادلة الجديدة تطرح تحدياً نوعياً على الفكرة الديمقراطية نفسها التي ظهرت حلا نهائياً لمأزق الشرعية السياسية في مجتمعات تسمها الفردية التعددية. فإذا كان من شأن الفردية الذاتية، التي هي الخلفية المعيارية للحالة الليبرالية والمضمون الحقيقي لمثال الحرية، أن تعزز الشعورَ بالاستقلالية إزاء السلط العمومية مهما كانت طبيعتها، فإن دوائر الاندماج الاجتماعي التي عوضت بها الدولةُ القومية الحديثة الانتماءات العضوية السابقة تحفظ الحدَّ المطلوب من الاستقرار الداخلي الذي تتطلبه الحركيةُ السياسية التداولية.

تلك هي مفارقة «الترابطية التنافرية» التي تحدث عنها الفيلسوف الألماني كانط، واعتبر أنها الحافز للتقدم الإنساني في العصور الحديثة، ولا يمكن أن تتجسد إلا في أنساق قانونية ملزِمة تضمن العيشَ المشترك.

ولا شك في أن خصوصية المنطق الديمقراطي تكمن في أنه يعترف في آن واحد بأسبقية الحرية الذاتية على النظام الاجتماعي القائم، في الوقت الذي يضمن الولاء لدولة سيادية شاملة السلطة ويمنحها الشرعية المطلقة. ومن هنا التأليف المعقّد بين التصادمية الدائمة التي هي شرط التنافسية الديمقراطية (دون السقوط في فخ الفتنة والصراع الأهلي) والتضامن المدني على خلفية الاختيار الحر والبناء المؤسسي المستقر.

ما تعيشه المجتمعاتُ الليبرالية من أزمة داخلية خانقة حالياً ناتجٌ عن انهيار التوازنات المؤسسية والتنظيمية التي ضمنت لمدةِ عقودٍ معادلةَ الاستقرار السياسي وشرعية الحكم.

هذا التحول يفسَّر بعاملين أساسيين هما: شعورُ قطاع واسع من القاعدة الشعبية بأن مركز القرار لم يعد بيد الكتلة الانتخابية والسلطة السيادية، بل تتحكم فيه الدوائر التكنوقراطية والمالية المعولمة، مما أفقد الماكينةَ الديمقراطية نجاعتَها ودلالتها، وطغيان ما دعاه رجيس دوبريه «الآنية الاتصالية» بما تعنيه من هاجس الشفافية والمباشَرة إلى حد التشكيك الكامل في صدقية الخطاب السياسي ومواقف النخب الحاكمة، بما يُفقد الممارسةَ السياسيةَ ذاتها معناها وجدوائيتَها.

ما هو مستقبل الديمقراطية الليبرالية في هذا السياق الذي أشرنا إلى بعض محدداته؟ وهل أصبح التمرد بديلا عن الثقة في آلية الفعل السياسي في المجتمعات الغربية؟

لا ننفك نسمع عدة تصريحات لكبار السياسيين الغربيين، من رئيس الحكومة الإيطالي الأسبق ماتيو رنزي إلى الرئيس الفرنسي ماكرون، تحذِّر من كون البلدان الديمقراطية لم تعد قابلة للحكم، نتيجةً لخروج الشارع عن نطاق السيطرة والطاعة.

 وأمام هذا المأزق المعقد، هل يكون الحل هو الانتقال إلى نمط جديد من الديمقراطية يراجع نظمَها المؤسسية التمثيلية والتداولية والتشاركية وصولا إلى تصور جديد للشرعية السياسية (أطروحة وزنفالون)، أم أن الحل يمكن في الخروج من ديمقراطية التمثيل والانتخاب، التي غدت عاجزة عن ضبط رهانات التعددية الحرة في المجتمعات المعاصرة (أطروحة آلان باديو)؟

لا شك في أن هذا هو الإشكال الجوهري الذي سيحدد مستقبلاً صيغَ وآليات العمل السياسي في البلدان الليبرالية الغربية.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الإماراتية، يوم: 14 سبتمبر 2025 23:33

في المثقف اليوم