اخترنا لكم

أمين الزاوي: بيان الفصل ما بين الجد والهزل

كل شيء متوافر وكل شيء مفقود

عندنا كليات للطب في كل الجامعات تقريباً، فيها جميع التخصصات وعلى رغم كل ذلك فإننا لا نملك منظومة صحية في صحة جيدة (أ ف ب)

ملخص

عندنا أحزاب سياسية كثيرة، الوطنية والإسلامية والعمالية والاشتراكية، أحزاب المعارضة وأحزاب الموالاة، أحزاب بمقار ورؤساء أو أمناء عامين وبصفحات على الـ "فيسبوك"، لا يوجد فيها سوى صورة رئيس الحزب والعلم الوطني، لا نسمع خطاباتها العالية النبرة إلا في مواعد الانتخابات المحلية أو التشريعية، تصرخ لبضعة أيام، تنتهي الوليمة، ثم تعود لبياتها الشتوي في انتظار انتخابات مقبلة، نملك كل هذه الأحزاب والتي يفوق عددها عدد أحزاب كتاب الله، ولا نملك حياة سياسية معافاة وجادة.

هناك خطأ كبير يشبه كرة الثلج يكبر كلما تكور وتكور، يكبر أمامنا وفينا جميعاً، ونحن نتفرج.

شيء غريب يحدث في بلدنا الجميل: كل شيء متوافر وكل شيء مفقود، عندنا وزارة للصحة، وعندنا أطباء وطبيبات بالآلاف المؤلفة، أطباء عامون ومتخصصون، ولدينا مئات المستشفيات الجامعية الكبرى الجديدة منها والقديمة، وآلاف المستشفيات العامة، وآلاف العيادات متعددة الخدمات التابعة للقطاع العام، ومثلها أكثر تلك التابعة للقطاع الخاص: عيادات التوليد، وعيادات جراحة الأسنان، وعيادات الأمراض الداخلية، وعيادات أمراض الحساسية، وعيادات جراحة العظام، وعيادات جراحة العيون، وهلم جرا.

وعندنا كليات للطب في كل الجامعات تقريباً، فيها جميع التخصصات، وعندنا صيدليات مزروعة في كل ركن شارع، ومصانع للأدوية وأخرى لمكملات الأغذية، ومخابر للتحاليل الطبية المجهزة بأحدث الآلات التي تشتغل بالذكاء الاصطناعي، وعلى رغم وجود كل هذه الترسانة من المؤسسات ومن الكفاءات العلمية، وعلى رغم ما تقدمه الدولة سنوياً من موازنات ضخمة لتسييرها وتجهيزها وتجديدها باستمرار، على رغم كل ذلك فإننا لا نملك منظومة صحية في صحة جيدة.

ما السبب ومن المتسبب؟

عندنا كتّاب، شعراء وروائيون ونقاد وقصاصون يكتبون باللغات الثلاثة أو الأربعة، العربية والأمازيغية والفرنسية والدارجة، وعندنا سينمائيون حصدوا جوائز عالمية في مهرجانات مرجعية، وعندنا مسرحيون من القامات التي يخلدها التاريخ، وعندنا فنانون تشكيليون لوحاتهم محفوظة في أكبر متاحف العالم، من اليابان إلى بريطانيا إلى الولايات المتحدة الأميركية، وعندنا مراكز ثقافية في كل بلدية، ومراكز الشباب، ومكتبات للمطالعة العمومية ومكتبات البلدية ومسارح وقاعات للسنيما وأروقة للفنون التشكيلية، ومع ذلك لا نملك حياة ثقافية صحيحة متواصلة ومتجددة وجادة.

ما السبب ومن المتسبب؟

يحدث هذا منذ الاستقلال: عندنا أراض فلاحية واسعة بتربة خصبة ونادرة وتربة متوسطة وأخرى تتطلب التطبيب، أراض تكفي لتغطية حاجات القارة الأفريقية، وعندنا ماء ينزل من السماء بكمية معتبرة، وعندنا ماء ينام في باطن الأرض بحجم البحر، وعندنا سدود وحواجز مائية كثيرة، وعندنا مصانع لتحلية ماء البحر، وعندنا مهندسون فلاحيون بالآلاف في كل التخصصات، وعندنا وزارة للفلاحة بموازنة سنوية تفوق موازنة العامة لكثير من الدول المجاورة، وتمنح الدولة للفلاحين البذور والزرع والأسمدة مجاناً، وتخصهم بالقروض التي لا تتردد في مسحها، وتسهل لهم شراء الآلات الزراعية المطلوبة، وعلى رغم كل ذلك لا نملك فلاحة بمقاييس عالمية، ومع ذلك فنحن غير قادرين على تحقيق الاكتفاء الذاتي في الخبز والحليب والذرة والبطاطا والثوم والبصل.

ما السبب ومن المتسبب؟

يا سبحان الله، عندنا جبال مبهرة وصحارى مدهشة وبحر بشاطئ طويل يفوق 1400 كيلومتر، وثلج على سلسلة جبال الشريعة وجرجرة والأوراس، ورمل كالتبر وغابات رز وواحات نخل وحقول لوز ومتحف مفتوح بآثار تعود لآلاف السنين، مساحته أكبر من مساحة كثير من الدول الأوروبية، ونملك تاريخاً عريقاً بمعالم عمرانية دينية ومدنية مميزة، وعلى رغم كل هذا الذي وهبتنا الطبيعة فإننا لا نملك سياحة قادرة على أن تكون قطباً اقتصادياً مؤثراً ومركزياً.

ما السبب ومن المتسبب؟

عندنا حواضر عريقة، أو ما بقي منها واقفاً شاهداً، وعندنا مدن كثيرة ومتنوعة، الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، بحسب تصنيف الوزارة الوصية، عندنا مدن كولونيالية جميلة مدهشة شيدت بسواعد الجزائريين استعادوها من الاستعمار يوم الاستقلال وهي حقهم، أو ما بقي منها، وعندنا في كل مدينة قصبة عتيقة أو ما بقي منها، عندنا شوارع بأعمدة إضاءة عمومية تضيء مصابيحها أو لا تضيء، وأرصفة تصغر وتكبر وتختفي كما يرغب البقال وصاحب الخضراوات والمقهى والنجار وبائع الأثاث وبائع الساعات المهربة وبائع العطور المغشوشة، ومصلّح الهواتف المحمولة وبائع الأدوات المدرسية وبائع أعلام النوادي الرياضية، أرصفة تحفر على مدى العام، يعاد حفرها بين عشية وضحاها، شركة الكهرباء تحفر ثم تردم نصف الردم ولا تسفلت، ثم تجيء شركة الماء فتحفر ثم تردم ربع الردم وتضع قليلاً من القطران السائل الذي يذهب في نعال الخلق، ثم شركة الاتصالات الهاتفية تحفر من أجل مد حبال الألياف البصرية ثم تردم وتنسى جزء كبيراً خلف العمارات وفي الحديقة العمومية وفي موقف السيارات، ثم تأتي شركة لحفر قنوات الصرف الصحي تحفر هي الأخرى بدورها ولا تردم، لأن العقد الموقع معها لا يتضمن التكفل بعملية الردم، الجميع يحفر ويردم ويترك شيئاً غير كامل، والبلدية هي الأخرى تحفر لتستبدل بلاط الرصيف كل عام قبل غلق السنة المالية، والناس الجالسون في المقهى يثرثرون على الرصيف الذي استولى عليه صاحب المقهى، ينتقدون الحكومة ويسبون الوالي ويشربون القهوة ويتكلمون في هواتفهم ويتفرجون على الفيديوهات السخيفة والنكت البذيئة، وبهذا تبدو مدننا الكثيرة الكبيرة والصغيرة والمتوسطة شبيهة بهيكل عظمي لحيوان خرافي، نعم عندنا مدن ولكننا لا نملك سلوكاً مدنياً، عندنا مدن بلا ثقافة المدينة.

ما السبب ومن المتسبب؟

عندنا مدارس وثانويات بالآلاف، في المدن والقرى والمداشر، مدارس عمومية وخاصة، وعندنا أطفال جميلون وشباب مليء بالطاقة والذكاء، شأنهم شأن الأطفال والشباب في العالم، 14 مليون تلميذ رقم رهيب، يذهبون كل صباح إلى مؤسساتهم التربوية، يجد كل واحد من الـ 14 مليون مقعداً ومعلماً وكتاباً مدرسياً ووسيلة نقل، خصصت الدولة موازنة لوزارة التربية تفوق موازنة كثير من الموازنات العامة لدول في الجوار، وعلى رغم كل هذا الجهاز المادي والتأطير البشري فإننا لا نملك منظومة تربوية سليمة.

ما السبب ومن المتسبب؟

عندنا جامعات ومدارس عليا في كل مدينة وحتى في بعض القرى، نبتت كالفطر، وهذا شيء إيجابي جداً ما في ذلك شك، وعندنا آلاف مخابر البحث ومراكز البحث ومجلات البحث المحكمة، إلا أننا لا نملك فكراً جامعياً، لا نملك حياة جامعية، الجامعة تحولت إلى ما يشبه المدرسة أو حضانة للكبار والجميع فيها منشغل بالتوظيف وبالراتب.

ما السبب ومن المتسبب؟

نعم يا سيدي، عندنا مساجد تعد بالآلاف، والحمد لله، عددها بحسب وزارة الشؤون الدينية والأوقاف يقارب الـ 20 ألف مسجد، من دون حساب المساجد التي بنيت من دون رخص والمساجد الفوضوية وقاعات الصلاة في كل المؤسسات وفي المطارات، كل هذا العدد الهائل من بيوت الله يشرف عليه ويأطره مئات آلاف الأئمة والمرشدين والمؤذنين والخطباء، والذين لهم نقابة تدافع عن حقوقهم الدنيوية قبل حقوقهم السماوية، وقد سبقوا الفنانين والكتّاب في تأسيس نقابتهم، وعلى رغم هذا العدد الهائل من بيوت الله وهذه الصلوات التي تقام فيها خمس مرات في اليوم، على رغم كل ذلك فإننا لا نملك أخلاقاً.

ما السبب ومن المتسبب؟

عندنا أحزاب سياسية كثيرة، الوطنية والإسلامية والعمالية والاشتراكية، أحزاب المعارضة وأحزاب الموالاة، أحزاب بمقار ورؤساء أو أمناء عامين وبصفحات على الـ "فيسبوك" لا يوجد فيها سوى صورة رئيس الحزب والعلم الوطني، لا نسمع خطاباتها العالية النبرة إلا في مواعد الانتخابات المحلية أو التشريعية، تصرخ لبضعة أيام، تنتهي الوليمة ثم تعود لبياتها الشتوي في انتظار انتخابات مقبلة، نملك كل هذه الأحزاب والتي يفوق عددها عدد أحزاب كتاب الله، ولا نملك حياة سياسية معافاة وجادة.

ما السبب ومن المتسبب؟

عندنا بنوك بأسماء مختلفة لكنها متشابهة، البنك الوطني والبنك الخارجي وبنك الفلاحة وبنك التنمية وبنك التوفير وبنك البركة وبنك البريد وغيرها، فيها أكياس متراكمة من الأوراق النقدية بالعملة الأجنبية وبالعملة الوطنية، وفيها موظفون وموظفات، ومديرون ومديرات، برواتب عالية وبربطات عنق، وعلى رغم كل هذا لا نملك ثقافة المال الذكي.

ما السبب ومن المتسبب؟

عندنا قنوات تلفزيونية كثيرة خاصة وعامة، متشابهة كالتوائم أو كقطط الحمل الواحد لا فرق بين هذه وتلك، وعندنا صحافيون يحسنون العربية ومذيعات محجبات وأخريات طبيعيات وبرامج للطبخ والرياضة والمآسي والرقية والجن، عندنا كل هذا ولا نملك منظومة إعلامية جادة قادرة على تشكيل وعي نقدي جمعي.

ما السبب ومن المتسبب؟

عندنا لغات كثيرة نتعلمها ونقرأ بها، نكتب بها ونعيش بها، الفرنسية والعربية الفصيحة والدارجة والأمازيغية بتنوعها القبائلي والميزابي والشاوي والتارقي، ونطمح إلى تعليم هذا الشعب الإنجليزية، لغة شكسبير نكاية في لغة موليير، ولنا كتّاب بهذه اللغات جميعها، كتّاب مشهورون في الغرب والشرق وآخرون أقل شهرة، ولكننا لا نملك تنوعاً فكرياً، الكل يفكر كالكل، الجميع يشبه الجميع.

ما السبب ومن المتسبب؟

السبب أننا أعطينا الأولوية لبناء الحجر قبل أن التفكير في بناء البشر.

***

أمين الزاوي كاتب ومفكر

عن موقع اندبندنت عربية، يوم: الخميس 25 سبتمبر 2025 0:10

في المثقف اليوم