اخترنا لكم
محمد البشاري: النص المفارِق للتاريخ

ليس النص القرآني خطاباً من الإنسان إلى ذاته، ولا لغة ثقافية نتجت عن سياقها، ولا أثراً موقّتاً في زمنٍ عابر، بل هو تنزُّل من علٍ، يفيض من الغيب على التاريخ، لا ليذوب فيه، بل ليمنحه معناه. ومِن هنا، فإنّ كل محاولة لقراءة القرآن بوصفه «منتَجاً ثقافياً» هي، في عمقها، قراءة تنطلق من مركزية الإنسان لا مركزية الوحي، ومِن هيمنة التاريخ لا من سلطان الغيب.. فتؤول – ولو عن غير قصد – إلى نفيٍ صامت لقداسته!
إنّ أعظم ما يميّز النصَّ القرآني أنه مفارِق للتاريخ من حيث مصدره، ومتصِل بالتاريخ من حيث مخاطبته للإنسان. وهذه المفارقة هي ما يغفلها دعاة القراءة «التاريخية»، حين يجعلون من النص الإلهي مجرّدَ بنية لغوية ثقافية، تنتمي إلى القرن السابع الميلادي، وتعبّر عن تصوراته وقضاياه. بيد أنّ الوحيَ، كما يقدمه القرآنُ نفسُه، ليس ناتجاً عن الزمن، بل هو فاعل فيه، نازعٌ لأوهام العادة، ومنبِّهٌ للضمير، وصادعٌ بكلمة الحق، لا تابع لمزاج اللغة أو عرف الجماعة.
لقد نزل القرآن الكريم بالعربية، لكن اللسان لم يصنعه، بل اصطفاه الله له، كما قال تعالى: «إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» (الزخرف: 3). فالقرآن نزل بالعربية لا ليُختزل فيها، بل ليُعلِّمها، ويُهذّب بنيتَها، ويملأها بمدد الغيب. ومَن ظنّ أن اللغةَ تَحكم النصَّ، إنما يجعل مِن القالب سيداً على الجوهر، ومِن الوعاء مُنشئاً للماء، وهذا انقلاب في سلّم الفهم وفي منطق التدبر.
ثم إنّ القولَ بتاريخية النص لا يقف عند حدود اللغة، بل يمتد ليطالَ الدلالةَ. والحقُّ أن النصَّ الذي وصف نفسَه بأنه «كتابٌ مبين» و«نورٌ من الله» لا يمكن أن تكون دلالاتُه منقطعةً بانقطاع السياق الذي نزل فيه، وإلا انتفى وصف البيان. فكيف يكون بياناً لمن بعده إن كان لا يتجاوز زمنَ نزوله؟ إنّ مَن يتحدث عن «نهاية صلاحية الدلالة» إنما يُختزل الوحيَ في حدود الظرف، في حين أن الآيات قد بيّنت أنَّ في النص متجدداً لا ينفد: «وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (لقمان: 27).
إن الأزمةَ ليست في ثبات النص، بل في اضطراب القراءة، ولا في قدسيته، بل في تفريط العقول المعاصرة التي استبدلت خشيةَ الوحي بسلطة التأويل، ونصاعةَ البيان القرآني بتعقيد أدوات التفكيك الفلسفي. يقال إن القول بقداسة النص يفضي إلى تعطيل العقل، لكن الحقيقةَ أن مَن يؤمن بقدسية النص لا يقتل عقلَه، بل يطهّره من الادعاء، ويُعيده إلى موقعه كوسيط في الفهم لا كخالق للمعنى. إن منطق الغيب، لا منطق التاريخ، هو الذي يؤسس لسلطان الوحي. والقرآن لم يأتِ ليواكبَ التحولات الثقافية، بل ليعيد توجيهَها نحو غايات التزكية والتوحيد والعدل. والآيات التي نزلت في لحظات تاريخية مخصوصة لم تُربط بها ربطاً قطعياً، بل فُتح باب التدبر والتأويل على اتساعه، دون أن يُلغى البعد الثابت أو تُمحى القيم المطلقة.
أما مَن يجعل النصَّ مجردَ «منتَج ثقافي»، فقد وقع في إسقاط معرفي خطير، إذ جعل مِن الإنسان «مشرِّعاً على الله»، ومِن النص رهينةً لشرط النزول. وهذا قلبٌ لحقيقة الرسالة التي ما فتئت تذكِّر بأن الله هو الفاعل الأعلى، وأن الإنسانَ هو المتلقِّي المُكلَّف.
إن النص القرآني، في جوهره، تنزُّل لا تَأثّر، وبيانٌ لا وثيقةٌ، وهدايةٌ لا مادةُ تحليل.. ومَن يقرأه بوصفه منتَجاً تاريخياً قد يَفهم بعضَ وقائعه، لكنه يفقد روحَه، أما مَن يُنصت إليه كما أُنزِل، فلا يقف على معانيه فحسب، بل يُنصَف بها، ويُستنار بها، ويُطهَّر بها.
ولذلك، فإن تحرير القول في القرآن لا يكون بفصله عن السماء، بل عبر تأكيد ارتباطه بها. ومَن لم يَفهم هذه العلاقةَ، لن يفهم مِن القرآن إلا صوتَه، دون نوره.
***
د. محمد البشاري
عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 24 سبتمبر 2025