اخترنا لكم

السيد ولد أباه: «الأنوار المظلمة».. والجدل الراهن حول الحداثة الغربية

«الأنوار المظلمة» (Dark Enlightenment)، عنوان كتاب للفيلسوف البريطاني نك لاند، صدر في المواقع الإلكترونية عام 2013، لكنه أصبح محور حركية سياسية وأيديولوجية صاعدة في الولايات المتحدة، وفي العديد من البلدان الغربية الأخرى. ومن أهم رموز هذه الحركة في أميركا، كورتيس يرفين وبيتر تيل، وهما مقربان من نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس، ومن رجل الأعمال النافذ في الإدارة الحالية إيلون ماسك. كما أن لهما ارتباطاً بالتيار المحافظ الروسي الذي يقوده ألكسندر دوغين.

والفكرة الأساسية التي يقوم عليها هذا الاتجاه هي ما عبّر عنه «تيل» بالقطيعة الضرورية بين الحرية والديمقراطية، واعتبار الأنظمة الديمقراطية المنتخبة ضعيفة وفاسدة ومتعارضة مع مفهوم «الخير المشترك»، كما يرى يرفين الذي يدعو إلى تمديد منطق تسيير الشركات إلى الدول ومنح سلطة القرار للفنيين المؤهلين لإدارة المجتمعات لا السياسيين المثاليين.

وفي هذا السياق، يميز يرفين بين الحرية والسلطة، معتبراً أن المجال الحقيقي للحرية هو الوعي والتعبير، وليس الانتخاب الذي هو نوع غير مبرر من السلطة، يولِّد لدى المواطن شعوراً وهمياً بالمشاركة في صنع القرار. السياسة في دلالتها العميقة لا تكون من هذا المنظور سوى تفويض مطلق باتخاذ القرارات المصيرية التي تتعلق بالمجموعة السياسية دون قيود مؤسسية أو قانونية.

وفي عام 2007، نشر بيتر تيل دراسةً مهمةً بعنوان «اللحظة الشتراوسية»، دشّن فيها هذا الخط المناوئ للتنوير، بالرجوع إلى الفيلسوف الألماني المهاجر إلى الولايات المتحدة «ليو شتراوس»، باعتباره انفرد في عصره بالنقد الجذري لحركة الأنوار الأوروبية. لقد ميز شتراوس بوضوح بين تنوير راديكالي حديث بدأه سبينوزا وهوبز، يتأسس على العقلانية المادية، والنزعة الوضعية الإنسانية، وإقصاء الدين والمقدس من الشأن العمومي، وتنوير وسيط «عربي يهودي» يمثله الفارابي وابن ميمون يحافظ على ثنائية الإيمان والعقل، ويربط المسألة السياسية بالفضيلة المدنية، ومشروعية السلطة الحاكمة.

 وهكذا استند تيار «الأنوار المظلمة» على هذا النقد من أجل المطالبة بالفصل الجذري بين مقتضيات الحرية التي هي قيمة حداثية إيجابية، وبين طبيعة نظام الحكم الليبرالي الذي يتعارض في منطقه الأعمق مع السلطة التنفيذية السيادية التي تحتاجها المجتمعات الصناعية الراهنة. والخيار المطروح هنا هو ما أدركه هوبز من وحدة وإطلاقية سلطة القرار في دولة تأخذ شكل جهاز تقني يديره فنيون مؤهلون، وإن كان هوبز قد تأثّر سلباً بالأفكار الليبرالية حول التمثيل والمشاركة المدنية.

لا بد هنا أن نبين الفرقَ بين ثلاثة مفاهيم متزامنة من حيث الظهور ومتداخلة في بنائها النظري، وهي الحداثة والليبرالية والتنوير. الحداثة هي نتاج الوعي التاريخي وأساسها التصوري هو الذاتية الحرة التي هي الخلفية الفلسفية للنزعات الإنسانية المعاصرة، ولا يمكن اختزالها في مشروع سياسي محدود أو منظومة أيديولوجية معينة. أما الليبرالية فهي نمط اقتصادي وسياسي، يقوم على منطق التعددية المتعقِّلة وتنظيم المصالح الفردية في إطار مجتمع مدني حر. بينما يحيل مفهوم التنوير إلى خيارات فلسفية ومجتمعية أساسية تتمحور حول فكرة التقدم الإنساني وما يترتب عليها من توجيه السياسة نحو «تربية الجنس البشري» (عبارة ليسنج)، أي صياغة وعي جمعي يتلاءم مع معايير الاستقلالية الفردية والمشاركة المدنية ومنظومة حقوق الإنسان.

لم يكن فلاسفة التنوير الأساسيين ليبراليين في التوجه السياسي والفكري، كما هو شأن روسو أو كانط، بل رفضوا بشدة حيادية الدول ومنح الأولوية للحريات الفردية، واعتبروا أن السلطة العمومية مسؤولة عن وضع سياسات مجتمعية تكفل التقدم العقلي والفكري للفرد المواطن. ومن هنا ذهب الليبراليون الكلاسيكيون إلى أن مفكري الأنوار يخضعون الحرية للقانون والفرد للدولة، ويحولون السياسة إلى سلطة عليا متعالية على المجتمع.

والواقع أن الثورات السياسية الكبرى في الغرب كانت من نتاج حركية التنوير لا الاتجاهات الليبرالية، خصوصاً الثورة الفرنسية والثورة الأميركية بما قامتا عليه من مشروع فلسفي قبلي قننته مؤسسات عمومية تصنع الرأي العام وتوجهه.

 في الولايات المتحدة، يذهب تيار «الأنوار المظلمة» إلى أن سنوات حكم الحزب الديمقراطي، قضت تدريجياً على الحرية، كما هو الشأن في كل الأنظمة الليبرالية الغربية، بتشكل قوى أيديولوجية مهيمنة غير شرعية فرضت نماذج مجتمعية (كالسياسات الجندرية والتمييزية)، تتعارض مع منطق الديمقراطية الحقيقي الذي هو ديناميكية الاختيار غير الموجه وغير المقيد، وحصر السلطة في نظام الحكم التقني القادر على حماية المصالح الفردية وضمان الأمن الجماعي. ومن هنا، ضرورة تخليص المثال الحداثي من المضامين التنويرية التي لا تنتمي إليه أصلاً.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 6 ابريل 2025 23:45

في المثقف اليوم