اخترنا لكم
أنطوان الدويهي: عن الاستلاب

في رمزية «القصبة التي تفكّر»، يورد الفيلسوف وعالم الرياضيات الفرنسي من القرن السابع عشر، بليز بسكال، ما يلي: «ما الإنسان إلا قصبة، هي الأكثر ضعفاً في الطبيعة، لكنَّها قصبة تفكِّر. لا حاجة لأن يتسلَّح الكون برمّته لسحقه، يكفي بخارٌ، نقطة ماء، للقضاء عليه. لكن حين يسحقه الكون، يكون الإنسان أكثر نبلاً ممّا يقتله، لأنه يُدرِك أنه يموت، ويعي تفوق الكون عليه. أمَّا الكون فلا يُدرِك شيئاً». ويقول رائد الفلسفة العقلانية الفرنسي رينيه ديكارت، من القرن السابع عشر أيضاً، عبارته الشهيرة: «أفكِّر، إذن أنا موجود».
لكنَّ الإدراك والتفكير اللذين يُميِّزان الإنسان عن جميع الكائنات لهما حدودهما. ليس في قصورهما عن معرفة الألغاز الوجودية الكبرى فحسب بل أيضاً في عجزهما عن تحرير الإنسان من حالة الاستلاب التي تمتلكه. ولعل مفهوم الاستلاب هو الأكثر قدرةً على تفسير مآسينا، الفردية والجماعية. وبما أن المجال لا يتَّسع لتحليل ما يرد لدى عدد من الفلاسفة والمفكّرين وعلماء الأنثروبولوجيا والاجتماع عن مختلف أشكال الاستلاب، فلنتوقف اختصاراً عند أحد أشكاله: يكون الإنسان في حالة استلاب حين لا يعي حقيقة الوضع الذي هو فيه، ولا يدرك غاية أفكاره ومشاعره وأفعاله ولا نتيجتها النهائية. وما ينطبق على الأفراد ينطبق على الجماعات أيضاً.
حركة التاريخ المعقَّدة التي تلتئم فيها عوامل جمَّة لا حصر لها، يستحيل التحكُّم بها والسيطرة عليها، حافلة بحالات الاستلاب. سنتوقف عند بعضها، على سبيل المثال، وصولاً إلى ما نحن فيه. حين ظهرت الآلة البخارية في إنجلترا بالقرن الثامن عشر بدأ يتشكَّل عصر جديد لا عهد للبشرية به من قبل، هو «العصر الصناعي». على مرّ الزمان، منذ نهاية «ما قبل التاريخ» وبداية التاريخ، كان الإنتاج الزراعي وتربية المواشي والإنتاج الحرفي العائد لهما هي المهيمنة على حياة البشر المادية. ومع ظهور الثورة الصناعية في أوروبا وتطوّرها برز الإنتاج الصناعي، وتكاثرت المعامل، وتعدّدت الآلات والتقنيات ومصادر الطاقة، محدثة تحولات عميقة في النشاط البشري، كانت لها نتائج اقتصادية ومجتمعية وبيئية وإنسانية وقيمية هائلة. وتكوّنت ظاهرة غير معروفة سابقاً في التاريخ البشري هي «الطبقة العاملة»، المؤلفة من حشود القادمين من الأرياف، رجالاً ونساءً وأولاداً، تاركين وراءهم قرىً وعائلات مفككة وأراضي مهجورة، تائقين إلى التحرّر من قرون طويلة من العمل الزراعي، ومن هيمنة إقطاع النبلاء على قدرهم، ليندمجوا في النشاط الاقتصادي الجديد وفي الحياة الواعدة. لكن «الطبقة العاملة» لم تدرك أنها دخلت حالة استلاب عميقة، حلَّت فيها البورجوازية الرأسمالية محلّ الإقطاع الأرستقراطي، وأنهم باتوا أسرى ظروف عمل متوحشة، تهدف لتحقيق الربح الأقصى لأرباب العمل، من دون أيّ اعتبار لمصيرهم، وهم لا يدرون. وبات الشرط الأساسي لتحريرهم من وضعهم المظلم هو جعلهم يعون حالة الاستلاب التي هم فيها.
هكذا، على مدى القرن التاسع عشر، أطبقت حالة الاستلاب على ملايين العمال، وهدرت في أتونها حيواتهم الشاقة، المعذَّبة، وآمالهم وأحلامهم. لكن خلافاً لنظرية كارل ماركس وفريدريك أنجلز وتوقعهما، لم تقم الثورة الاشتراكية في المجتمع الصناعي الأوروبي على يد «الطبقة العاملة» بل في المجتمع الروسي القيصري، الغالبة عليه الحياة الزراعية، وعلى يد الفلاحين والجنود المتمردين بالدرجة الأولى. كانت غاية ثورة 1917 البولشيفية إقامة ديكتاتورية البروليتاريا، بوصفها مرحلة انتقالية نحو مجتمع المساواة المطلقة، والحرية الفردية التامة، وزوال الدولة. اندرج في هذا الحلم ملايين المناضلين، على مدى أكثر من سبعين عاماً من عمر الاتحاد السوفياتي، الذين أطبقت عليهم هم أيضاً حالة الاستلاب التي هدرت أعمارهم بعيداً جدّاً عن حلمهم، وهم لا يدرون، وكانت نتيجتها ترسيخ الديكتاتورية الـ«ستالينية»، التي قادت في نهاية المطاف إلى انهيار الإمبراطورية السوفياتية من الداخل، ومعها منظومتها الاشتراكية وآيديولوجيتها ومُثُلها.
هي مجرّد أمثلة لا أكثر، وهناك غيرها كثير في مسلسل حالات الاستلاب الفردية والجماعية في القرنين العشرين والحادي والعشرين، وهي الأقرب إلينا، ذهبت فيها حيوات ملايين البشر ونضالاتهم وتضحياتهم كالهباء المنثور، عكس غاياتهم وآمالهم، وهم لا يدرون. وعلى مدى عشرات السنين ضيَّعت حالة الاستلاب حياة الملايين ممن جاهدوا لتحقيق الأحلام الوحدوية العربية، فوصلوا إلى حكم البعثين السوري والعراقي، والناصرية المصرية، والقذافية الليبية. وأخيراً، طوال نصف قرن من تاريخ الثورة الإيرانية أطبقت حالة الاستلاب على حياة الملايين من المناضلين تحت لوائها، لتكون النتيجة ليست تحرير القدس وفلسطين، بل الإسهام الفاعل في الوضع المزري الذي وصل إليه لبنان وسوريا والعراق واليمن وفلسطين، قبل الحرب الأخيرة وبعدها.
***
د. أنطوان الدويهي - أستاذ جامعي لبناني
عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الأحد - 24 شَعبان 1446 هـ - 23 فبراير 2025 م