اخترنا لكم

أحمد شافعي: اقتصاد السماء.. كيف تتنافس الأديان على الثروة؟

كتاب جديد يتناول العقائد وكأنها شركات ليؤكد أن كثيراً منها سقط على مدى قرون حين عجز عن المنافسة في سوق التقوى

***

ملخص

لو أن هناك عالماً لا يكترث فيه الناس إلا لحساب مصالحهم الشخصية والاقتصادية فستتهاوى فيه سلطة الدِين، لكن العالم اليوم ليس على هذا النحو.

تطرح قواميس اللغة الإنجليزية معاني عدة لكلمة platform (المنصة)، فهي الرصيف في محطة قطارات والأحذية سميكة النعال والسياسة المعلنة لحزب ما، وتشير الكلمة في الاقتصاد إلى تنظيم يتيح تكوين العلاقات والعمل بمزيد من الفعالية، ومن أمثلة المنصات بهذا المعنى محركات البحث ومواقع التواصل الاجتماعي وبعض تطبيقات الهواتف الذكية، وهذا هو المعنى الذي يراه بول سيبرايت منطبقاً على الدِين.

وسيبرايت البريطاني أستاذ في معهد الاقتصاد الصناعي وكلية تولوز للاقتصاد في جامعة "تولوز" الفرنسية، وقد صدر أحدث كتبه بعنوان "الاقتصاد الإلهي: كيف تتنافس الأديان على الثروة والسلطة والبشر" عن مطبعة جامعة برينستن.

يستهل الأستاذ المساعد للدراسات الإسلامية في "فولر سيميناري" شادي حامد مقالته المسهبة حول الكتاب ["فورين أفيرز"، يوليو (تموز) - أغسطس (آب) 2024] مستعرضاً مؤشرات حديثة على تراجع الدِين، فبازدياد الناس ثراء وتعليماً ابتعدوا من طلب السلوى في الدِين، وانخفضت معدلات الانضمام إلى الكنائس في أوروبا الغربية، وزعم أنصار نظرية التحديث أن الدِين يزدهر بوصفه واقياً من الفوضى، وحينما ينتظم المجتمع يتراجع حضوره.

سوق التقوى

"لكن قصة الدِين في القرن الماضي ليست قصة انحسار وإنما قصة نمو ورسوخ مطردين، وهذا ما يؤكده كتاب بول سيبرايت الجديد الذي يصر على أن "العالم يتنقل على نحو غير مشهود من قبل إلى الخضوع لحفنة أديان، من أهمها الإسلام والمسيحية اللذان يباهيان الآن بقرابة 2 مليار من أتباع الأول و1.8 مليار للثاني، مع توسعهما ونموهما وسط الشعوب سريعة النمو السكاني وبخاصة في أفريقيا".

"وخلافاً لنبوءة نظرية التحديث وتنويعاتها فلم يقض الرخاء والنمو على الدِين، ففي الصين الآن، بحسب سيبرايت، "من الممارسين النشطين للمسيحية والإسلام ما لا يقل عدداً عن أعضاء الحزب الشيوعي"، وفي الهند يلعب الدِين دوراً متنامياً في الحياة العامة، وفي الولايات المتحدة تهاوى الانتماء إلى الكنائس لأدنى من 50 في المئة عام 2020 بعد اقترابه من 70 في المئة في معظم القرن الـ 20، لكن 88 في المئة من الأميركيين، وفقاً لاستطلاع رأي عام 2023، لا يزالون يؤمنون بالإله الإنجيلي أو بقوة عليا أو قوة روحية أخرى".

يكتب سيبرايت أن من يتصورون انسحاب الدِين أمام تقدم العلم والرخاء يغفلون عن أبعاد أخرى للدِين، فهو ليس مسألة اعتقاد شخصي وحسب، ولكنه ممارسة جماعية تظهر في تجربة طقوسية مشتركة عامة، ويقول إن الأصل الإغريقي لكلمة creed (العقيدة) الإنجليزية وهو symbolon يشير إلى "آلية يتحقق بها المرء من هويته عبر المطابقة بين نصفي جسم، فكأن العقيدة تتعلق بلجوء المرء إلى سلطات صحيحة أو انتماء إلى جماعة معينة أكثر مما يتعلق بلاهوت".

"والنظر إلى الدِين بوصفه فعلاً اجتماعياً في الأساس، أي شيء يحيا بممارسته رفقة آخرين، يسمح بالابتعاد من الانشغال بجوهر المعتقد الفردي.

"الاقتصاد الإلهي" كتاب طموح يحاول أن يفكر تفكيراً اقتصادياً في شيء كثير مما يبدو بعيداً من متناول فهم العلوم الاجتماعية، إذ يذهب سيبرايت إلى أنه يمكن فهم أنجح الرسائل الدينية وأدومها في ضوء الكلفة والربح والعرض والطلب والمصلحة الذاتية المنطقية، وقد تبدو للمؤمنين في هذا النهج غلظة، فهم يرون إيمانهم شيئاً فائقاً للوصف وغير قابل للاختزال في مصطلحات مادية سقيمة، غير أن فهم سيبرايت للدِين يعيننا على تفسير سر استمرار قوته في عالم علماني".

ويذهب سيبرايت في "الاقتصاد الإلهي"، بحسب ما يكتب حامد، إلى أن الدنيوي هو أساس الروحاني في تكوين التنظيم الديني ويفكر في الأديان وكأنها شركات، فقد سقطت عقائد كثيرة على مدى القرون لعجزها عن المنافسة في سوق التقوى، ويستعين سيبرايت بآدم سميث في استكشاف كيفية استعمال الأديان كمحفزات سوقية لصياغة طبيعة الرسائل الدينية وفحواها، فلتجتذب الحركات الدينية أتباعاً لا بد من أن تكون ديناميكية ومرنة ومتقبلة للتنوع.

وينقل سيبرايت عن سميث مقارنته في القرن الـ 18 بين الوعاظ "الميثوديين" النشطين والحماسيين في معظم الأحيان، وقساوسة كنيسة إنجلترا الأميل إلى التحفظ والرزانة، فالأوائل كانوا بحاجة إلى اجتذاب جماهير جديدة ليكسبوا لقمة عيشهم، فكانوا يعظون بمزيد من الحميّة، أما الآخرون فكانوا ينعمون برواتب مضمونة ورعاية سياسية ومزايا مؤسسية فما كانوا يشعرون أنهم مرغمون على تغيير سلوكهم".

"هذه المزايا شبيهة بالدعم الذي تقدمه الحكومات لبعض شركات القطاع الخاص فتقل دوافعها إلى المخاطرة، والأديان شأن الشركات فلا بد من أن تتنافس على الزبائن، ويعني هذا في بعض الأحيان أن تؤكد جوانب تميزها، ويعني في أوقات أخرى أن تخفف من دعاواها اللاهوتية المنفرة وصولاً إلى جمهور أوسع، وفي بعض الأحيان قد تحدد القوى المادية الغاشمة النجاح أو الفشل"، إذ يكتب سيبرايت أن "أجمل الرسائل صوغاً قد تعاني غياب موارد اقتصادية تدعمها، ويصعب عليها أن تجد آذاناً مصغية وسط صخب الحياة".

لكن حامد لا يقتنع كثيراً بذلك التحليل، "ففي بداية المسيحية والإسلام، وهما بمنزلة 'وول مارت' و'أبل' في سوق الدِين اليوم، لم يكن لديهما إلا أقل القليل من الموارد، وقبل أن يكتسبا القوة كانا بلا حول ولا قوة، ويتجسد ذلك بجلاء في صلب المسيح، ولا يتعمق سيبرايت في الأسباب الدقيقة لجاذبية هذين الدينين بالذات لدى الناس دون غيرهما، لكنه يقنعنا بأن الأديان تنجح وتنتشر لأنها تقدم سلعاً يحتاج إليها الناس ويرغبون فيها، والبيانات تؤكد هذا إذ يميل المؤمنون في العادة إلى أن يكونوا أكثر من غير المؤمنين سعادة وامتلاء وارتباطاً بغيرهم من المواطنين"، ويضرب سيبرايت المثال بامرأة تدعى غريس قابلها في غانا.

توضح الكاهنة الأنغليكانية وأستاذة تاريخ الدِين بجامعة أوكسفورد جين شو في استعراضها للكتاب ["فايننشال تايمز"، 17 مايو (أيار) 2024] أن سيبرايت يفتتح "الاقتصاد الإلهي" بحكاية غريس ذات الـ 24 سنة، وهي بائعة المياه المثلجة في إشارات المرور بشوارع أكرا وتكسب من عملها دولاراً ونصف الدولار يومياً، وتقتطع 10 في المئة من هذا الدخل الزهيد، فضلاً عن تبرعات أخرى، لتقدمها إلى كنيستها البروتستنتية على رغم أن ذلك يعني أنها تستطيع دفع ثمن بعض علاج عمتها التي تعيش معها في بيت صغير داخل حي عشوائي، وتزداد صعوبة فهم ما تفعله غريس حين نعلم أن قسيسها في الكنيسة ثري متبجح الثراء يقود سيارة من طراز مرسيدس ويرتدي حزاماً ذا قفل كبير عليه علامة الدولار.

يفكر سيبرايت في تفسيرات محتملة لسلوك غريس فلا يجد إلا أن للتقوى في بعض الأحيان منافع ملموسة، "فبانتماء غريس إلى كنيسة تضم أمثالاً لها في التفكير يمكن أن تقابل رجالاً منضبطين يستيقظون في التاسعة صباح الأحد [أي يوم الإجازة]، ولديهم الاستعداد لقضاء ثلاث ساعات في الاستماع إلى عظة مطولة، ومن الواضح أن العثور على شريك جيد محتمل في الحياة وأب لأبناء لا يزالون في علم الغيب ليس بالأمر الذي يمكن تسعيره".

وعلى رغم أن هذا التفسير لدوافع الصدقة لدى غريس قد يكون مقززاً في نظر مؤمن، مهما يكن دينه، لكن المرء لا يستطيع استبعاد الاحتمال لأن الناس يبحثون في الدِين عن عشرات الأشياء المختلفة ويجدونها، بدءاً من علاقة مباشرة مع خالق الكون ونزولاً حتى العثور على عريس، بل إن بوسع من يبحث في دِين عن دفاتر حسابات وموازنات أن يجد ما يريده.

يكتب شادي حامد أن الدِين يعالج حاجة أعمق من الحاجة المادية، "فالبشر صناع معنى يسعون إلى عالم فاتن هم نتاجه أيضاً، ولا يمكن لعلمنة المجتمعات أن تلغي هذا أو تبطله، فكلما بقي الناس بحاجة إلى المعنى فستظل الأديان معيناً فريداً له، ولقد حاولت أيديولوجيات في العصر الحديث أن تحاكي الدِين في ما يقدمه من اليقين والقناعة والجماعية لكنها لم تحقق إلا نجاحاً عابراً ومعرضاً لتقلبات السياسية، إذ حاكمها الناس دائماً وفق نجاحاتها وإخفاقاتها المباشرة القريبة، بينما تنعم الأديان بميزة أصيلة فيها وهي أنها معنية بالمعنى النهائي، وذلك ما يستعصي على الأيديولوجيات العلمانية، فقد فشلت الشيوعية والفاشية على سبيل المثال فشلاً لا يمكن أن تمنى به المسيحية والإسلام".

"غير أن النجاح الأسطوري للمسيحية والإسلام في القرن الأخير لم يتحقق على حساب العلمانية بالذات، وإنما على حساب الموروثات الشعبية المحلية التي يصفها الدارسون بـ 'الأديان المتوطنة' في مختلف أرجاء العالم، وبخاصة أفريقيا وأميركا اللاتينية، وفي المجتمعات متزايدة التعولم تخسر هذه الأديان المحلية ويأتي الدِينان العالميان المستقران، أي المسيحية والإسلام، فيوفران من هياكل الدعم والشعائر ما يخفف أثر التغير السريع والاضطراب الناجم عن الهجرة من الريف إلى المدن متسارعة النمو"، أي أن المسيحية والإسلام استفادا من العولمة وكانا علاجاً لها في الآن نفسه.

تجارة مع الله

يبرز حامد إشارة سيبرايت إلى أن "ارتفاع ما يعرف بوفيات اليأس في الولايات المتحدة يتركز بالقدر الأكبر لا في المناطق التي شهدت أكبر الانخفاض في الاعتقاد الديني، وإنما في مناطق الانخفاض الأكبر في الممارسة الدينية، وبعبارة أخرى لا يزال معظم الأميركيين مؤمنين لكنهم فقدوا قدرتهم على التعبير عن إيمانهم بطرق تربطهم بجماعة فيوجهون هذه القدرة وجهة أخرى وهي التحزب على وجه التحديد، ومعروف تماماً أن المسيحيين البيض يؤيدون دونالد ترمب بأعداد مختفلة النسب، لكن غير المعروف بالقدر نفسه هو أن المسيحيين غير المنتمين إلى كنائس هم الموالون له بخاصة".

ويشير شادي حامد إلى ما يسميه سيبرايت بـ "مفارقة التعلمن"، وهي أنه "حتى حينما تقل أهمية الدِين لدى الأفراد فإنه قد يظل مهماً للمجتمع الأوسع، ويبقى الدِين حاضراً في الحياة العامة في معظم أرجاء العالم لأنه يعبر عن هموم أساس وتأسيسية تحتل الصدارة وسط فوضى الصراعات السياسية".

يكتب حامد، "لو أن هناك عالماً لا يكترث فيه الناس إلا لحساب مصالحهم الشخصية الاقتصادية فستتهاوى فيه سلطة الدِين كثيراً، لكن العالم ليس كذلك اليوم، ولو أن لنا دليلاً في تحليل سيبرايت فلن يكون العالم كذلك عما قريب".

وتكتب جين شو أن نظرة سبرايت الاقتصادية للدين تجعله يرى فيه جانبي العرض والطلب، "إذ يطلب الأتباع أشياء من الأديان قد تكون مادية مثل التعليم أو الصحة أو الخدمات المالية، وقد تكون روحانية من صلوات وشعائر، وثمة جانب العرض حين يرى سيبرايت أن المنصات الدينية "تجمع بين الأفراد في علاقات منفعة متبادلة لا يستطيع أولئك الأفراد إقامتها بمفردهم".

هل هذا "العرض" هو جوهر ما يختفي وراء دفء النصوص الدينية من قبيل أن المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى؟ أم أن هذا الدفء جزء جوهري من "العرض" لا يبقى لنا إذاً تعامينا عنه إلا جفاف الاقتصاد والسوق؟ وهل فعلاً تتصدق غريس لأنها لا تحتكم إلى المنطق؟ أم لأن الدِين غرس فيها مفهوماً لا يلتفت إليه الاقتصاد، وأعني الإيثار؟

تكتب جين شو أن "كثيراً من الأديان تجعل من معاونة الناس قيمة جوهرية، وتواجه بها ما يوصف كثيراً بالأنانية المطبوعة في نفوس البشر"، أما سيبرايت فيرى "أن بحوث علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع تبين أننا نكون أقرب إلى أنفسنا الحقة عند عطائنا للآخرين أكثر مما نكونها عند تلقينا السلبي لإحسانهم، والأديان التي تتيح لنا فرصة خدمة الآخرين تكون جذابة".

وتضيف أن "الشعائر تعزز هوية الجماعة وتخلق إحساساً بالانتماء"، ويرى سيبرايت أن "المعبد أو المسجد أو الكنيسة قد تكون منصات ناجحة للمواعدة الغرامية أو شبكات تجارية جيدة لأنها تجتذب أناساً لا ينظرون إليها هذه النظرة".

وبوسعي شخصياً، ولست على علم عميق بالإسلام، أن أجد لسيبرايت ما يدعم طروحاته، فإعلاء الممارسة الجماعية على الاعتقاد مثلاً قد يدعمه أن الإسلام يجعل صلاة الجماعة خيراً من صلاة الفرد بـ 27 مرة، والقول إن الصدقة تشبع حاجة إنسانياً شبه غريزيو قد يدعمه أن اليد العليا خير من اليد السفلى، وقوله إن الدِين أفضل من أي تطبيق زواج يدعمه القول "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه" أو "اظفر بذات الدِين تربت يداك"، وهناك فوق ذلك آية مباشرة في القرآن تستعير تعبير "التجارة" مع الله، لكن لا ينبغي أن يعني هذا بالضرورة أن الإسلام، أو أي دين، مشروع اقتصادي يحركه ما يحرك المشاريع التجارية من أهداف وغايات، فلماذا لا يعني بدلاً من ذلك أن الدِين يستوعب مجمل جوانب النفس البشرية، السماوية والأرضية والروحانية والتجارية وغيرها؟ ولماذا لا يكون معناه أن الأديان التي تعني ببناء روح الفرد تحرص في الوقت نفسه أن تقيم لهذه الروح المجتمع الحاضن الذي يسهل أن تتناغم معه؟

ينهي شادي حامد مقالته عن الكتاب بقوله "لو أن هناك عالماً لا يكترث فيه الناس إلا لحساب مصالحهم الشخصية الاقتصادية فستتهاوى فيه سلطة الدِين، لكن العالم اليوم ليس على هذا النحو، ولو أننا أخذنا حقاً بتحليل سيبرايت فلن يكون عالمنا على هذا النحو عما قريب".

العنوان:

The Divine Economy: How Religions Compete for Wealth, Power, and People

تأليف:

Paul Seabright

الناشر:

Princeton University Press

***

أحمد شافعي - كاتب ومترجم

عن موقع اندبندنت عربية

الاثنين 2 سبتمبر 2024 13:37

في المثقف اليوم