اخترنا لكم
محمد عثمان الخشت: الدين والعلم نحو مربع جديد (2)
"لا يمكن دخول الدين والعلم إلى مربع جديد، إلا بتجاوز الأيديولوجيات المغلقة الصلبة التى تحصر الحقيقة فى إطار ضيق. ويجب أن ندرك أن الدين والعلم ليسا فى منافسة، بل هما جزء من رحلة البحث البشرى المستمر عن الحقيقة والمعنى. كما يجب أيضاً إعادة تصويب الفكرة القائلة بأن التقدم العلمى يؤدى بالضرورة إلى تراجع الدين. إن المجتمعات الأكثر تقدماً علمياً ليست بالضرورة أقل تديناً، بل أحياناً تكون أكثر وعياً بالحاجة إلى الميتافيزيقيا والأخلاقيات التى يعجز العلم عن تقديمها.
وعلى مرّ العصور، كان الدين والعلم يشكلان محورين رئيسيين فى تشكيل فهم الإنسان للعالم من حوله. وكان إرث الماضى يدور داخل أربعة مربعات رئيسة: إما مربع الاتفاق، أو مربع الصراع، أو مربع الفصل بين الساحات، أو مربع التوتر واتساع مناطق الجدل.
وتجلى مربع الاتفاق فى الشرق القديم والعصر السكندرى والحضارة الإسلامية فى أغلب الأوقات، بينما نجد مربع التوتر والحوار الجدلى عند اليونان، فى حين أن مربع الصراع المباشر كان فى أوقات متعددة من مختلف العصور خاصة فى العصور الوسطى الأوروبية ومطلع العصر الحديث، وفى هذه المرحلة، اعتبرت الكنيسة الكاثوليكية العلم تهديداً للنصوص المقدسة والتفسيرات الدينية السائدة.
ومن أشهر الأمثلة على ذلك، قضية محاكمة العالم غاليليو، الذى اصطدم مع الكنيسة، بسبب نظرياته حول عدم مركزية الأرض، وأنها تدور حول الشمس، بينما كانت الكنيسة الكاثوليكية تؤمن بأن الأرض هى المركز. فى تلك الفترة، وُضع الفكر الدينى والعلم فى مواجهة مباشرة، حيث حاول كل طرف الدفاع عن رؤاه المطلقة.
أما مربع الفصل بين الساحات، فجاء فى القرون اللاحقة. ومع تطور العلم وتنوع مجالاته، برزت فلسفة الفصل بين الدين والعلم، حيث انفتحت الساحة أمام العلم فى الغرب ليهتم بالجوانب المادية والتجريبية والرياضية للعالم، بينما ركز الفكر الدينى على القيم الروحية والأخلاقية والطقوس والمعتقدات الغيبية. وعلى الرغم من أن هذا الفصل خفف حدة الصراع، فإنه خلق فجوة معرفية بين الجانبين. ويجب أن نعيد التذكير هنا أننا نتحدث عن الفكر الديني، وليس عن الدين نفسه فى نصوصه المقدسة، فالمشكلة كانت تحدث دوما بين بعض رجال الدين الذين يفهمون الدين بطريقة معينة ورجال العلم الذين يركزون على الوقائع التجريبية والرياضية.
وفى العقود الأخيرة، بدأت تظهر محاولات لإقامة حوار بين الدين والعلم. ومع ذلك، بقى هذا الحوار مشوبًا بالجدلية الشديدة ومحاولة إثبات أسبقية طرف على الآخر، وظل النقاش التقليدى عالقًا فى قوالب قديمة، غالبًا ما تُبنى على الطريقة الهجومية أو الدفاعية أو السعى لإثبات التفوق على الأخر.
لذا، أصبحت الحاجة ماسة لتجاوز إرث الماضى وتجاوز القوالب والمربعات القديمة إلى مربع جديد من التعاون والحوار الخلاق الذى يهدف إلى معالجة القضايا الإنسانية الملحّة، خاصة أنه فى عصرنا الحالي، توجد خطورة حقيقية على مستقبل البشرية، ويواجه الكوكب تحديات غير مسبوقة، تتطلب تضافر جميع الجهود والمعارف، من أزمة تغير المناخ إلى انتشار الأوبئة، ومن الفقر المدقع إلى مشكلات الذكاء الاصطناعي، ومن تدهور البيئة إلى تهديدات انقراض الحياة البرية.
وتأسيسا على ذلك؛ بات من الضرورى إيجاد صيغة جديدة للتعاون تجمع بين القوتين المعرفيتين: الدين والعلم؛ حيث ينبغى أن يقدّم كل منهما أدوات، ومناهج ضرورية، لفهم المشكلات والتحديات التى تواجه الإنسانية والتصدى لها بفعالية.
إن القضايا والتحديات المعاصرة ليست مجرد مشكلات تقنية أو مادية، بل هى أزمات حياة، ومعضلات قيمية وأخلاقية، تتطلب تكاملًا بين العلم والدين؛ لبناء عالم أفضل وأكثر عدلًا.
ومن منظور إنساني، لا يجب النظر إلى الدين والعلم كمتنافسين طوال الوقت، بل يتوجب تحليل تفاعلهما، عبر إطار منهجي، يتجاوز الاختزال الثنائي. فالدين، بما يقدمه من معنى كلى عميق وإطار روحى وقيمى وأخلاقي، والعلم، بما يمتلكه من أدوات تحليلية ورياضية وتجريبية، يملكان إمكانيات فريدة إذا ما تم تعاونها فى مقاربة تكاملية. وكما يُفهم من الفيلسوف الألمانى «إيمانويل كانت» فى رؤيته الأخلاقية، فإن الدين عندما يُفهم فى حدود العقل يُسهم فى توجيه الإرادة الإنسانية نحو الخير الأسمى، وهو ما يجعل التكامل بين العقل والقيم الدينية مساراً ضرورياً لمواجهة تحديات الإنسانية. ففى كتابه «الدين فى حدود العقل وحده» (Religion within the Limits of Reason Alone)، يؤكد «كانت» أن الدين يجب أن يفهم فى حدود العقل، وأن العقل بحاجة إلى الأخلاق الدينية ليحقق غاياته العملية. وقديما أكد البارزون من علماء الإسلام موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول.
إن التكامل بين الدين والعلم، لا يعنى خلط الحدود بينهما، بل احترام استقلاليتهما، مع العمل على إيجاد أرضية مشتركة للحوار والتعاون، خاصة أن العلم والدين يشبهان عدستين مختلفتين يمكن استخدامهما لفهم الواقع. والجمع بينهما يمنحنا رؤية أكثر اتساعًا وعمقاً.
إن التحديات التى تواجه البشرية اليوم، مثل: الحروب، والإبادة الجماعية، والتغير المناخي، والأزمات الصحية العالمية، والتفاوت الاقتصادى الشديد، والنزاعات الثقافية ـ لا يمكن مواجهتها بمنظور علمى أو دينى منفرد. فعلى سبيل المثال، يمكن للعلم أن يوفّر تقنيات مبتكرة لحل مشكلات البيئة، لكن الدين بعامة يُضفى بُعدًا أخلاقياً يحفّز الناس على حماية الأرض كأمانة إلهية. والإسلام يعد تعمير الأرض مهمة إلهية كلف الله تعإلى بها الإنسان.
والسؤال الآن: كيف يمكن تجاوز أساليب النقاش القديمة؟
هذا ما نرجو أن نجيب عليه فى المقال القادم إن شاء الله تعالى".
***
د. محمد الخشت
عن جريدة الأهرام القاهرية، يوم: الأحد 15 ديسمبر 2024: