اخترنا لكم
أمين الزاوي: الخوف من القارئ الجزائري!
الأدب في عيون السلطات السياسية مسألة نخبوية
ملخص
تعمل شرطة أدب محاكم التفتيش الجديدة على فرض تعريف جديد للأدب وإلحاقه بالفقه والشريعة، مع احترامنا لهذين الحقلين المعرفيين، ومن هذا المنطلق فكل كاتب يخرج عن نطاق هذا المفهوم الأخلاقوي الأيديولوجي يعتبر إنساناً غير مرغوب فيه، ولا أخلاقياً وزنديقاً وأن أدبه هو هرطقة ومآله المحرقة.
إن الرقابة المؤسسة والمقننة أهون من الرقابة التي تمارسها الميليشيات الأدبية الهوجاء التي تعرض سجاداتها وألسنتها النارية على مواقع التواصل الاجتماعي، جامعة بين القذف والسبّ والتخوين والتهويد.
من بغداد إلى نواكشوط، تحول كثيرون من القراء العرب والمغاربيين، على قلّتهم، إلى ميليشيات شعبوية أخلاقوية وشبه دينية في مواجهة حق الكتاب في الحرية الخيالية في نصوصهم، وبالأساس ضد الرواية.
والقارئ الجزائري لا يشذّ عن هذه الوضعية الثقافية والكتبية المأزومة.
تجد هذه الظاهرة المَرَضية مرتعها الأيديولوجي المناسب في المدرسة ثم الجامعة وفي كثير من المؤسسات الدينية والثقافية.
إن الأنظمة السياسية الجزائرية المتعاقبة على السلطة منذ الاستقلال، وعلى رغم اختلافاتها النسبية أو الفارقة، وعلى رغم هيمنة الحزب الواحد، ظلت تحتفظ وتحافظ بصورة طبيعية وعفوية على هامش الحرية الخاصة بالإنتاج الأدبي بالعربية والفرنسية على حد سواء.
إن هذا القسط من الحرية المسموح به للأدب، في الكتابة أو في النشر أو في التوزيع أو في الاستيراد، مبرر، إذ إن الأدب في عيون السلطات السياسية مسألة نخبوية، ولكونه يرتبط بنيوياً بالخيال وموجهاً لقلة قليلة، فإنه لا يثير الخوف ولا يخلّ بالنظام.
نادرة هي الكتب الأدبية، رواية أو شعراً، التي تم منعها في الجزائر على مدى 62 عاماً من الاستقلال. من الشاعر جان سيناك إلى الروائي الطاهر وطار مروراً بالطاهر جاووت ومحمد ديب وكاتب ياسين ومولود معمري ومراد بوربون وآسيا جبار ورشيد ميموني وبوعلام صنصال وكمال داود ورشيد بوجدرة...، جميع هؤلاء الكتاب من الروائيين والشعراء نشروا نصوصهم أو بعضها في الجزائر وتم استيراد بعضها الآخر أو إعادة نشرها محلياً وتوزيعها على مكتبات البيع أو مكتبات المطالعة العمومية من دون إقصاء أو تذمر.
ويبدو أن صورة الأدب تظل في عيون الأنظمة السياسية الجزائرية المتعاقبة مرتبطة بفعل التسلية بوصفه (الأدب) يستند في جوهره إلى الخيال البعيد من الواقع، أو يُتصور هكذا، وهو في محصلة الأمر نتاج لغوي ليس من السهل للجميع اقتحام عالمه وفك رموزه.
ويجب الإشارة إلى أمر في غاية الأهمية، وهو أن الأنظمة السياسية في الجزائر كانت تضم في أطقمها السياسية والتنفيذية مجموعة من الأسماء المتنفذة التي كانت معروفة بحبها للأدب وبممارستها للكتابة أيضاً، بخاصة في الفترة الممتدة ما بين عام الاستقلال وحتى نهاية السبعينيات، وقد عرفت بمواقفها الإيجابية تجاه الأدب والفن والثقافة بصورة عامة، وهنا يجب التذكير ببعض هذه الأسماء من أمثال مصطفى الأشرف ورضا مالك ومحمد الصديق بن يحيى وبوعلام بسايح وعبدالحميد مهري وعبدالحميد بن هدوقة وعبدالمجيد مزيان وأحمد طالب الإبراهيمي وزهور ونيسي وعبدالحميد أبركان... هؤلاء وغيرهم، وهم في مواقع القرار كانوا يملكون ثقافة أدبية مميزة سمحت لهم بالدفاع عن القضية الأدبية من دون أن تشكل عائقاً أمام سير ماكينة السلطة المركزية التي يدينون بدينها.
أثناء إقامته في الجزائر، كأستاذ للتعليم الثانوي، بمدينة عنابة ما بين 1970-1974، كتب الروائي والقاص حيدر حيدر أشهر وأجرأ رواياته وهي "وليمة لأعشاب البحر"، وفيها يحلل بكثير من الدقة الحياة السياسية في الجزائر بعد 10 أعوام من الاستقلال وينقد ما آلت إليه أحلام الثورة من انهيارات، كل ذلك في أسلوب نقدي ساخر تارة ودرامي تارة أخرى، ووزعت الرواية في الجزائر وقرئت بصورة كبيرة ولا تزال تقرأ حتى الآن من دون أي تحفظ أو منع أو تهويل.
إلا أنه عام 2000 حين أعيد نشر الرواية في القاهرة، قامت القيامة، وخرج طلاب "الأزهر" في تظاهرات منددة بالكاتب وبالرواية، مطالبة بحرق الكتاب وبرأس الروائي بتهمة الإساءة إلى الإسلام، مما اضطر "الأزهر" إلى منعه.
في رواية "اللاز" للطاهر وطار وهي أشهر نصوصه السردية على الإطلاق وأكثرها شهرة التي نشرت عام 1974 في الجزائر، كتبها بهامش كبير من الحرية وشجاعة أدبية مميزة، فبصورة كلاسيكية تستعرض الرواية تفاصيل مشاركة الحزب الشيوعي الجزائري في الحرب التحريرية وخلافاته مع جبهة التحرير الوطني، كل ذلك من خلال شخصية مناضلة حقيقية وتاريخية هي شباح المكي. وللإشارة نشرت الرواية في الجزائر ووزعت في كل البلاد وقرئت على نطاق واسع، نسبة كبيرة منها تعدّ قراءة نضالية!، وقدمت عنها مئات الأطروحات الجامعية وترجمت إلى الفرنسية وقرئت بصورة واسعة من قبل القراء الفرنكوفونيين، ولأن الرواية في تصور النظام السياسي تحيل الخيال المقطوع عن الواقع، فإن الكتاب لم يتعرّض للمنع ولا للتضييق حتى الآن.
ومنذ صعود قوى الإسلام السياسي السلفي العنيف في الجزائر نهاية السبعينيات، بوضع اليد أولاً على المدرسة ثم الجامعة، ارتفعت أصوات متطرفة تنادي بالحد من حرية الخيال، فتراجع التسامح، وشرع بداية في رجم الساحة الأدبية، ومنح الصفويون والأخلاقويون أنفسهم حق المطالبة بصورة واضحة بمنع رواية أو فيلم أو أغنية.
مع بداية الألفية الجديدة، كرّست وسائل التواصل الاجتماعي قيم الكراهية ورفعت من منسوبها ضد حق حرية الخيال في الكتابة الأدبية، وساعد صمت المثقفين والجامعيين في انتشار هذا الزخف الشعبوي ضد الأدب، وأسهم في تعميم ظاهرة النفاق الاجتماعي والسياسي والثقافي في البلاد.
لهذه الميليشيات المعبأة بالتطرف ولقادتهم، وبكل احترام، عليهم قراءة كتاب "حكايات متحررة مغاربية" للكاتبة نورة أسيفال (منشورات المنار 2008)، بطبيعة الحال إذا كانت القراءة هاجسهم، وهو كتاب اشتغلت عليه الكاتبة مدة 20 عاماً، جمعت فيه كثيراً من الحكايات الشعبية التي يتميز فيها الخطاب الشعبي بعفوية وبحرية عالية، وهي حكايات تجاوزت الزمن لتظل خالدة تروى جيلاً بعد جيل، هي حكايات نسوية من عمق تاريخ ثقافتنا الشعبية، جمعتها الكاتبة من منطقة الهضاب العليا، وفيها تروي النساء من دون مانع أو حرج وبلغة واضحة مواضيع متصلة بالجسد والجنس والعلاقات الحميمة والحب. وللإشارة فهذه الحكايات ليست مقصورة على عالم النساء فحسب، بل هي أيضاً متداولة بين الرجال من دون حرج، ولم يشعر يوماً مجتمعنا المنسجم والمتناسق والمسلم في الهضاب العليا بأن إسلامه مهدد أو أن أخلاقه مهدورة أو شرف أبنائه وبناته منتهك.
***
أمين الزاوي
عن موقع إندبندنت عربي، يوم: لخميس 18 يوليو 2024