اخترنا لكم
عبد الله فيصل آل ربح: النسوية و«الحبة الحمراء»
لعلنا لا نبالغ إذا وصفنا الحراك النسوي بأنه من أبرز المنتجات الثقافية للحداثة. فالثورة الصناعية، التي أدخلت الآلة مكان الجهد البشري، الذي غالباً ما يقوم به رجل؛ لعبت دوراً في طرح التساؤل على المجتمع الأبوي الذي يُعطي سلطة للرجل على المرأة. وعليه، ظهرت الحركات التي تدعو إلى مساواة المرأة بالرجل بوجه عام، وتغيير الصورة النمطية للدور الجندري، ومن أجل إعادة ترتيب الدور الاجتماعي على أساس المفاضلة الفردية، وليس على أساس الجنس/الجندر.
على مدى التاريخ ظهرت أربع حركات نسوية عالمية، تميّزت اللاحقة على السابقة برفع سقف المطالب بخصوص فكرة المساواة. لن نخوض في تاريخ هذه الحركات، لأنه ليس موضوعنا، ولكن يهمنا هنا التركيز على فكرة المساواة مقابل العدالة. فالتقدم التقني أغرى دعاة النسوية بإلغاء الفوارق الجندرية، ومحاولة تحديها باستشهادات من قبيل: ثمة نساء أقوى جسدياً من بعض الرجال، وثمة رجال أكثر عاطفية من بعض النساء.
غير أن أخطر ما يُتداول من أفكار تُوصف بالنسوية تلك التي تطالب بالامتيازات التقليدية التي يعطيها المجتمع الأبوي للمرأة، مع إضافة الاستحقاقات الجديدة التي منحتها إياها القوانين الحديثة التي راعت مطالب الحراك النسوي. إن المرأة القوية المستقلة -حسب النظرة النسوية- ما زالت تتمسّك بكونها الطرف الأضعف الذي تجب مراعاته في حال النزاع مع الرجل؛ وهنا يكمن التطرف في الطرح.
في السنوات القليلة الماضية، ظهر خطاب ينادي بعودة ترسيخ الأبوية في المجتمعات، وتقوم بالدفاع عن موقفها بشكل حثيث. وتأتي فكرة «الحبة الحمراء» بوصفها مصطلحاً مجازياً لحبة يتناولها الشخص؛ ليتمكن من رؤية الحقيقة المرة كما هي، مقابل «الحبة الزرقاء» التي تُبقي الإنسان في الوهم، وهذه الفكرة ترتبط بشكل واضح بأفكار سيغموند فرويد، الذي يقسّم المبادئ إلى مبدأ الواقع ومبدأ المتعة التي غالباً ما تكون وهماً. وقد سبق استخدام هذه الفكرة المجازية في أفلام «هوليوود»، ابتداءً من فيلم «The Matrix» عام 1999.
في عالمنا العربي، ظهر كثير من الحسابات على مختلف منصات التواصل الاجتماعي تحمل معرفاتها اسم الـ«Red pill» يجمعها قاسم مشترك هو الدعوة إلى توعية الرجال حول قدراتهم الحقيقية، ومكانتهم التي تحاول النسويات سلبها منهم. وعلى منصة «X» فُتح كثير من النقاشات التي تردّ على المحاججات النسوية الرامية إلى المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة. ولعل أبرز نقاط القوة في حِجاج جماعة «الحبة الحمراء» يتلخّص في فردانية السلوك. فليس مطلوباً من رجال العالم أن يتحدوا ضد النساء، وليس مطلوباً منهم المطالبة بتغيير القوانين، ولا شيء يمتّ إلى رفع راية المظلومية؛ كل ما هو مطلوب من الرجل أن يعي طبيعة المرأة ونظرتها إلى الرجال وتصنيفها لهم، ثم يحمي نفسه منها من خلال «عقلية الوفرة».
وفي حِجاجهم، يرى ذكور «الحبة الحمراء» أنهم لا يعتنون بأنفسهم لكسب الإناث بصفتهن هدفاً، بل هم يعتنون بأنفسهم؛ لأن الرجولة استحقاق جندري يجب على الذكر المحافظة عليه عن طريق تنمية القدرات الطبيعية التي يمتلكها، وهذا ما سيجعله رجل «ألفا» في موضع القوة الذي يعطيه جاذبية عليا. ومصطلح الـ«ألفا» يقابله الـ«بيتا» الذي يأتي في مرتبة أقل منه بكثير. تأتي هذه المصطلحات من خوارزمية يستخدمها لاعبو الشطرنج، التي يرمز فيها الـ«ألفا» إلى الحركة التي تضمن الأفضل للاعب، والتي تضعه في موضع قوة، بينما الـ«بيتا» حركة تضع اللاعب تحت رحمة خصمه، فقد تعطي الخصم فرصة للقيام بـ«كش» ملك عبر خطوة أو خطوتين.
وبالاستعارة من الحقل الدلالي للعبة الشطرنج، رُسمت صفات الـ«ألفا» والـ«بيتا». فالرجل الـ«ألفا» يمتاز بالثقة في النفس والجرأة في الإقدام؛ لأنه يحسب خطواته بصفتها عاملاً مستقلاً في المعادلة. في المقابل، الرجل الـ«بيتا» تابع لغيره -المرأة- لأنه قد قبل أن يقوم بخطوات تضعه تحت رحمة غيره الذي يستطيع التخلص منه متى ما وجد خياراً أفضل منه.
يرى البعض في طرح جماعة «الحبة الحمراء» تطرفاً ضد المرأة، وتحريضاً للرجال عليها، ويرون هم في أنفسهم أنهم يضعون أنفسهم في الموضع الذي يستحقونه. ويرى خصومهم أنهم مجرد ذكور يريدون تطبيق قانون الغاب، في حين يرون هم أنفسهم أنهم يحافظون على وضعهم الطبيعي من دون أن يجبروا أحداً على تبنيه. وفي الوقت الذي يتفهمون كره دعاة النسوية لهم، فهم يُضاعفون القسوة على الرجال الذين يساندون النسويات؛ إذ يرون فيهم مجرد ذكور «بيتا» قبلوا بالخضوع لسلطة المرأة.
خلاصة القول: إن ظهور جماعة «الحبة الحمراء» اليوم أمر طبيعي جداً، بعد تكاثر الحسابات التي تصف نفسها بالنسوية والنسوية الغاضبة، إذ طغى عليها الخطاب المعادي للرجال. وكما هو معروف، فإن استعداء الآخر بخطاب ممنهج ضد النوع/الذكور لن يأتي بخصم يتبنى خطاباً محايداً يضع الذكور والإناث في سلة واحدة. وبين النسوية و«الحبة الحمراء» على الإنسان أن يهتم بمميزاته التي وُلد بها ويعزّزها بكل وسائل القوة المتاحة. وفي حال وُفق إلى الارتباط، على الشخص الاستمتاع بحياته بعيداً عن الصراعات. ولا ننسى أن السلام والبعد عن الصراع يجب أن يكون من الطرفين وليس من طرف واحد؛ تلك هي السعادة المنشودة.
***
د. عبد الله فيصل آل ربح
عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الأربعاء - 27 ذو الحِجّة 1445 هـ - 3 يوليو 2024 م