مقاربات فنية وحضارية

مصدق الحبيب: المدرسة الوحشية في الفن Fauvism

باديء ذي بدء، أقول ان من الأنسب ان نصف الوحشية بأنها حركة movement أكثر من كونها مدرسة فنية، خاصة وان زمنها لم يطُل وتأثيرها لم يدُم أكثر من ثلاثة أو أربعة أعوام، من 1904 الى 1908، على الأكثر. كما ان نشاط أعضائها الفعلي لم يتجسد بأكثر من ثلاثة معارض.

مع انفجار ثورة الحداثة في الفن والأدب، كانت "الوحشية" أولى الحركات الطليعية Avant-garde التي انبثقت في فرنسا في مطلع القرن العشرين. وقد اطلق على فنانيها هذا الاسم Les Faves الذي يعني بالفرنسية "الوحشيين". وللاسم حكاية طريفة. فقد روي ان الصحفي والناقد الفرنسي لوي فوكسيلز Louis Vauxcelles كان قد زار المعرض الذي اقامته المجموعة الأولى لفناني هذه الحركة في صالون d’Automne عام 1905، إلا انه خرج من صالة العرض صارخا:

 " لقد رأيت دانتيللو يقف بين الوحوش"!68 Fauv2. Andre Derain The Trees

كان هذا الناقد يشير الى قطعة نحتية فيها روح عصر النهضة للفنان ألبرت ماركي Albert Marquet وهي تقف يتيمة وسط لوحات بأشكال غريبة تستغيث سطوحها من تقنياتها الشاذة وألوانها الصارخة. وسرعان ما قامت الجريدة اليومية Gil Blas بوصف هذا المشهد ونشر ما تفوه به ذلك الناقد عن المعرض في عددها الصادر يوم 17 أكتوبر عام 1905. ومنها تلقفته صحف أخرى فشاع بين الناس ان هناك بعض التشكيليين الذين بدأوا يرسمون كما ترسم الوحوش، مما أساء للحركة وهي في باكورة تكوينها فاثار استهجان قسم كبير من الجمهور حتى قبل ان يزورا المعرض.

قاد هذه الحركة الفنان أندريه ديرينAndre Derain والفنان هنري ماتيس Henri Matisse. ومن أبرز أقطابها روبرت ديبورن Robert Deborne وألبرت ماركيAlbert Marquet وجين پوي Jean Puy وچارلس كموين Charles Camoin وجين متزنگر Jean Metzinger وموريس فلامنك Maurice Vlaminck وهنري مانگون Henry Manguin وروبرت پنچن Robert Pinchon. كما انظم اليها جورج براك Georges Braque وراؤول دفي Raoul Dufy وجورج رو Georges Rouault .

استمر عدم قبول هذه الحركة من قبل الجمهور حتى بعد إقامة المعرضين الثاني والثالث لعدد اکبر من الفنانن الذين انضووا تحت لواء هذه الحركة الجديدة. أقيم المعرض الثاني في صالون des Independents في عام 1906. في هذا المعرض أثير الكثير من اللغط حول الأساليب الفنية غير المألوفة التي واجهت الجمهور لأول مرة. وبشكل خاص أثارت لوحة هنري ماتيس المعنونة "متعة الحياة" Le Bonheur de vivre موجة من القرف والاستهجان عند قسم لا يستهان به من جمهور المعارض، وحتى عند بعض النقاد. كان احد النقاد قد وصفها بأنها عمل سطحي استخدم فيه الفنان الأسلوب التجميعي والمواد المختلفة ذات التقنية الساذجة والألوان البراقة المغالية في توناتها، مما لم يكن مألوفا في عالم التشكيل آنذاك.

أما المعرض الثالث والأخير فقد أقيم مرة أخرى في صالة d’ Automne وفي نفس العام، 1906. كانت الثيمة العامة في هذا المعرض هي الپورتريه وبأسلوب المجموعة الجديد. فقد رسم بعض الفنانين انفسهم في بورتريهات ذاتية، أو رسموا زميلا آخر لهم. رسم روبرت ديلونيه Robert Delaunay وجه جين متزنگر ورسم ماتيس وجه زوجته فيما رسم أندريه ديرين نفسه. كما اشترك في هذا المعرض پول سيزان Paul Cezzane كضيف شرف بعشر لوحات باسلوبه المعروف، ولكن للأسف فقد توفى في 22 اكتوبر 1906، وما زال المعرض قائما.69 Fauv3. Maurice Vlaminck

لقد زعم هؤلاء الفنانون بأن حركتهم هذه لم تأت عن فراغ أو ترف، انما كانت استجابة تلقائية وذاتية لتغير ادراك وذائقة تلك المجموعة التي شعرت بضرورة الثورة على التقاليد التشخيصية والتمثيل الواقعي في المحتوى والشكل والتكنيك والتلوين، الصفات التي تميزت بها الفنون قبل ذلك الوقت، بما في ذلك الانطباعية، ولذا فقد اعتقد اغلب ما في هذه المجموعة من فنانين بأن تغير الزمن وما يحمل من معالجات فنية هو تغير حتمي يعني ان ما كان سائدا من معالجات فنية قد انتهى، ومن الضروري أن يبدأ بعده زمن جديد يحمل معه معالجات وتقنيات فنية جديدة.

يقال ان البروفسور گُستاف موريه Gustav Moreau الذي درّس ماتيس وماركي في مدرسة الفنون في باريس كان المؤثر الروحي والفلسفي الذي ألهم أغلب أعضاء هذه الحركة، خاصة فيما يتعلق بتشديده على الحكمة من وراء الخروج عن المألوف في الفن والتي تعدت الى التشجيع والحث على ضرورة التجريب في تجاوزالقواعد المدرسية والأصول الاسلوبية في التشكيل. عملياً، قام ماتيس بحمل هذه الراية فاضطلع بالدور الذي كان بروفسور موريه يأمل ان يراه عند الفنانين الشباب.

ينحو معظم مؤرخي الفن الى تحديد المؤثرات التي أثرت على تلك المجموعة من الشباب في تشكيلهم لهذه الحركة بثلاثة تأثرات أساسية:

- التأثر بأسلوب ما بعد الانطباعية post-impressionism الذي تجسد باعمال الفنان الهولندي ڤان گو Van Gogh والفنانين الفرنسيين پول سيزان Paul Cezanne وپول گوگن Paul Gaguin ، وخاصة الانبهار بالاعمال التي رسمت في جزر تاهيتي وما تضمنته من ألوان نقية ذات درجة عالية من التشبع وحركات الفرشاة غير المنضبطة. ومن المعروف ان هذه الاعمال كانت قد اشعلت فتيل الحداثة ليس فقط عند الوحشيين انما عند غيرهم من الفنانين الذين كانوا يطمحون بخوض تجارب جديدة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

- التأثر بأسلوب الانطباعية الجديدة Neo-impressionism وخاصة اعمال الفنانين الفرنسيين جورج بيير سورا Georges Pierre Seurat وهنري أدمند كروس Henry Edmond Cross خاصة فيما يتعلق باهمال تجسيد البعد الثالث واللجوء الى التسطيح اللوني الفاقع.

- التأثر بأسلوب التعبيرية الألمانية German Expressionism خاصة فيما يتعلق بضربات الفرشاة العريضة والسريعة واستخدام الألوان الخام البراقة.

أما ما يتعلق باستخدام الوحشيين لألوانهم المتميزة بتوناتها الفاقعة البراقة، فيزعم بعض النقاد ان فناني الوحشية اعتمدوا في تنظيم ألوان باليتاتهم على نظرية اللون التي صاغها العالم الألماني يوهان ولفگانگ ڤون گوث Johann Wolfgang von Goethe في القرن التاسع عشر والتي تفيد بأن الألوان ليست فقط وليدة النور انما هي حصيلة التفاعل بين النور والعتمة وان الألوان التي تكمّل بعضها complementary colors هي التي تبدو متناقضة مع بعضها، لكنها اصطفافها جنبا لجنب يعمل على زيادة بريق ونصاعة بعضها لبعض. ومن هنا اختار الوحشيون ألوانهم التي بدت تصرخ بوجه من ينظر اليها.

مما تقدم، نستطيع تحديد الميزات الأساسية للاسلوب الوحشي بما يلي:

- الابتعاد عن الموضوعات السردية الثقيلة والمعقدة والاكتفاء بالمعالجة البسيطة والمجردة مما آل الى التركيز على المناظر الطبيعية والحياة الجامدة والبورتريهات.

- الاعتماد على الألوان النقية وتجنب مزج الألوان أوتخفيفها. وغالبا ما يقوم الفنان بعصر علب الألوان مباشرة على الكانفس.

- تفضيل الألوان المشبعة والتونات الصارخة والبراقة.

- تجنب العناية برسم الخطوط وتجسيد الاشكال وبدلا من ذلك اعتماد ضربات الفرشاة العريضة والسريعة والعنيفة والمنفلتة أحيانا.

ختاما، يمكن القول ان قصر عمر هذه الحركة كان انعكاسا لافتقارها الى الاتجاه الواضح والمتوازن مما حدا بأغلب أعضائها ان يعتبرها مجرد مرحلة تجريبية انتقالية أخذت اغلبهم فيما بعد الى مدارس أخرى كالتكعيبية والسريالية والتجريدية.

***

ا. د. مصدق الحبيب

في المثقف اليوم