مقاربات فنية وحضارية

حبيب ظاهر: عرض مسرحية هاملت في المدينة

مغايرة التفاصيل وتوافق النهاية

تناولت أدبيات المسرح (هاملت) أكثر من أي نص آخر، وقدمت (هاملت) على مسارح العالم أكثر من أي مسرحية أخرى، على مدى تاريخ المسرح كله، يكمن السر بالاهتمام المضطرد بهذه المسرحية في أنها مثيرة للجدل وقابلة للقراءات المتعددة بشكل لا تمتلكه المسرحيات الأخرى. وهذا الرأي يخالف مع ما يفترضه الناقد الإنجليزي (ت.س. اليوت) بقوله: " أن المسرحية ليست ابدا اروع ما كتب شكسبير، بل انها دونما ريب إخفاقا فنيا" (جون دوفر ولسون: ما الذي يحدث في هاملت، ترجمة: جبرا إبراهيم جبرا، بغداد، دار الرشيد،1980 ص278) ولسنا هنا بصدد تقييم (هاملت) لانها اكتسبت شهرتها ومساحتها الادبية والفنية لقرون عديدة وما زالت تتبلور الرؤى بناءا على ما جادت به (هاملت) ومنها رؤية المؤلف منير راضي والمخرج عبدالرضا جاسم. ذلك أنه لا قيمة لنص ولا عرض مسرحي اذا كان يعيد طرح رؤية سابقة كما هي، دونما مغايرة ولا تجديد.

صنفت مطوية العرض مسرحية (هاملت في المدينة) على أنها (مونودراما) ولكن ظهور شخصية (هوراشيو) في المشهد الختامي أوقع العرض بإشكالية مع المصطلح الذي لا خلاف فيه على المونودراما مسرحية الشخصية المنفردة في النص والعرض.1802 habib

ولأن العرض قدم شخصية (هاملت) فكتابة عن الشخصية هي المسرحية كلها، ذلك ان محور النصوص المونودرامية هي الشخصية الواحدة التي منها ينطلق الحدث وبداخلها يتم الصراع وهي من يتخذ القرار بالاتجاه نحو الحل، أما في العرض المونودرامي فيشترك الممثل والمخرج والسينوغراف، فضلا عن حوار وإرشادات المؤلف، إلى جانب الشخصية المنفردة.

أشغلت الة قص الحديد بصوتها الخشن وانطلق الشرار في زاوية المكان ليعلن بدء الفعل الدرامي، اما فعل التلقي فقد بدأ باستقرار المتلقي في مقعده، حين تأمل القفص او الزنزانة التي احتلت وسط باحة منتدى المسرح، الخامة المتسيدة في إنشاء سينوغرافيا العرض هي الحديد، وأدوات الحدادة، وحور الفعل الدرامي هو عمل (هاملت) مانيكانات واقنعة من الحديد، الحديد الذي يعد من المواد الأكثر صلابة والعاملون بالحديد هو الاكثر خشونة وقوة، وهذا أول عوامل المغايرة الرؤيوية التي انتهجها الإخراج، وفارق فيها بناء شخصية (هاملت) الشكسبيرية الأمير ابن البلاط الملكي الرقيق صاحب التأملات العميقة بعمر دون العشرين عاما، الذي لم يحمل صدمة موت والده الملك، وزواج أمه من عمه الملك الجديد، ولم يمض بعد شهرين على موت زوجها، في حين ظهرت شخصية (هاملت) المؤلف منير راضي والمخرج عبد الرضا جاسم عمره تجاوز الأربعين عاما، يرتدي بدلة عمال، على شيء من الشراسة، يحاكم الذين يعتقد أنهم مشتركون بجريمة مقتل أبيه.1803 habib

كتب (جون دوفر ولسون) في كتابه (ما الذي يحدث في هاملت) " هاملت مأساة - مأساة عبقري وقع في شبكة لا يستطيع أن يخلص منها . وشكسبير يكشف لنا عن هول وضع هاملت تدريجيا، مضيفا حملا وراء حمل إلى العبء الذي عليه أن ينهض به إلى أن نشعر انه لابد ان ينهار تحت ثقله" (جون دوفر ولسون: ص42) وقد سار المؤلف منير راضي على المنوال نفسه في بناء نص (هاملت في المدينة) حين حَمَّل (هاملت) أثقالا بعد أثقال حتى انه في النهاية استعان بصديقه الاقرب (هوراشيو) ليدخل القفص الحديدي وليكمل لحام الاقنعة والمانيكانات الحديدية مع بعضها ويعلقها على جدران القفص، ويغلق سرير الزوجية البائس -ربما- إلى الابد، وفي هذه النهاية توافق مع ما آلت اليه الامور إلى (هوراشيو) التي وضعها شكسبير.

(هاملت) شكسبير لم يحسم الصراع بايجاد ومعاقبة قتلة والده الملك، أما (هاملت) المخرج عبد الرضا جاسم  فقد تسلح بالحديد والنار لمحاكمة قتلة أبيه الذين صنعهم بنفسه ووضعهم في قفص العدالة، وطرحهم ارضا في النهاية بعد مونولوجات طويلة على الطريقة الشكسبيرية مع البدائل الحديدية التي صنعها، والتي هي في جوهرها معادلات موضوعية لشخصيات (الملكة جروترد، الملك كلوديوس، الوزير بولونيوس، الحبيبة أوفيليا) ومنح الاخراج كل منهم بعدا دلاليا عبر التشكيل من الحديد، فكانت (أوفيليا) وردة مصنوعة من الحديد، وكانت الأم الملكة مانيكان كامل الجسد، في حين كان بولونيوس قناعا حديديا، … تعامل الممثل (جاسم محمد) مع جميع بدائل الشخصيات الموضوعية ومنحها الحياة عبر أفعال مضطردة بدأت بأدوات الحدادة ثم الإمساك بتلابيب كل شخصية ومحاوراتها وتصاعدت في النهاية إلى تجميع الشخصيات فوق بعضها البعض كركام خردة غير مفيدة، والتي شكلت جميعها مفردات ابتكرها الإخراج، بالتفارق مع توصيفات نص المؤلف، إذ كانت رؤية (منير راضي) أن الأحداث تقع في حياة الاخرة وليس في الدنيا، وأن تتعامل شخصية هاملت مع جماجم (الملكة الأم والعم كلوديوس والوزير …)، يبدو ان المخرج اخذ بناء الشخصية ولغة الحوار الشعرية  الفخمة التعبير، والمحملة بدلالات عميقة، وعمل على معالجتها عبر انشاء مقاربات عصرية وربما هوية محلية.1804 habib

لم تقتصر البطولة في هذا العرض على الممثل (جاسم محمد) ذي الحضور الممسك بإيقاع العرض منذ البداية وحتى النهاية، كانت البطولة الأخرى لحضور السينوغرافيا كنص موازي لنص المؤلف والمخرج وبتفاصيل دقيقة مثل تكوين الوردة الحديدية التي هي المعادل الموضوعي لشخصية (أوفيليا) التي منحها حجم يعادل الكف ولون الحديد مع شيء من صبغةًحمراء، لقد ان السينوغراف (سهيل البياتي) تولى زمام المبادرة الاستهلالية للعرض عندما حفز المتلقين على تفحص مكونات وتفاصيل الكتلة الديكورية والتفكير الأفعال التي يمكن أن تنبثق منها، وقد فَعَّل الاخراج القطع الحديدية وخلق بيئة عرض ملؤها الكآبة والحزن المقترن بتهديد خطر جاء من تلك القطعة الحديدة المعلقة في السقف التي ولدت قلقا وتساؤلا : هل ستسقط؟ هل تنزلق لحكم إغلاق القفص من جميع أبعاده؟ ولكن الإخراج عمل على إبعاد توقعات المتلقي وأبقى على التهديد وحسب.

وكان للمؤثرات الصوتية الحية والموسيقى والأصوات المسجلة - وهي من توليف وتنفيذ حسين زنگنة-  دور كبير في صناعة أجواء العرض وجذب انتباه المتلقي، مع الإشارة إلى أنها تنوعت بين الموسيقى الغربية والشرقية، في الوقت الذي جرت فيه العادة أن تكون الموسيقى احادية الأسلوب والهوية لئلا تندرج في تحولات غير منسجمة. اما منظومة الاضاءة أسهمت بتنوع بصري ورسمت لوحة من خلال التوازن بين الضوء الظل.

تجدر الاشارة ان المسرحية عرضت في المنتدى المسرح التجريبي للأيام ٦-٨ /٨/ ٢٠٢٥ الساعة السابعة مساء - إنتاج نقابة الفنانين العراقيين-المركز العام بالتعاون مع دائرة السينما والمسرح.

***

ا. د. حبيب ظاهر

في المثقف اليوم