مقاربات فنية وحضارية
جمال العتّابي: الفنان التشكيلي مهدي مطشر.. .. شواغل نظرية وجمالية تثير الاسئلة
شواغل نظرية وجمالية تثير الاسئلة
الكتب القليلة التي بين يديه في سني الصبا لم تمنحه أكثر من مفتاح صغير للدخول إلى العصر، كان أول فنان التقاه هو (موندريان)، ولكن بضع عبارات من كتاب (كاندنسكي) (الروحي في الفن) منحته القدرة على التفكير وطرح الأسئلة : ما التجريد؟؟
هذا السؤال ظل يشغل الفنان مهدي مطشر المولود في بابل 1943 كلما وقف على أبواب مدن العالم، ينصت إلى الأصوات الآتية من الماضي فلم يفلح في استرجاع صوت (الهاون)، بل يداهمه ضجيج الآلات، ودويّ المركبات، ثم يبدأ من جديد يعيد صياغة الأسئلة ويبحث عن أجوبة مقنعة لها.
غادر مهدي العراق عام 1967، واستقر في باريس، بعد أن أكمل دراسته في أكاديمية الفنون، وتأثر بأستاذه شاكر حسن آل سعيد في تأملاته الصوفية، وكشوفاته في البعد الواحد، في فرنسا تعرف عن كثب على الأشكال الفنية التبسيطية، بما في ذلك التجريد الهندسي، وكان مطشر قد بدأ محاولاته الاولى في فن (الأوب الآرت)، وعرض أعماله في بغداد، بغية بلوغ لغة بصرية شخصية أثارت جدلاً واسعاً وقتذاك بين نقاد الفن التشكيلي والجمهور المتلقي حول جدوى ومعنى هذا الفن، اذ تجرأ الفنان هاشم سمرجي أن يسبق الآخرين في تجربته الفنية، فكانت مثل الصدمة البصرية التي أنجزها في هذا الفن.
بدايات طفولة مطشر الأولى حين كانت الأيادي تحفر في الطين والتراب طرق سيارات وهمية لنقل الراكبين بين محطات خيالية، الخطوط المحفورة تزداد عمقاً كلما انحسرت أشعة الشمس رويداً رويداً عن عالم القرية، فتبدو الخطوط كما لو كانت نحتاً بارزاً، يجسد انشغالات مهدي مطشر الطفولية غير الواقعية، تلك هي الصورة الأولى للرؤية، والمحاولة في البحث عن عالم بديل للعالم الطبيعي ولظاهراته المختلفة.
غير أن أفق القرية الصغير سيتسع كثيراً كلما تقدّم الزمن حتى يصل المدينة ويلتحم بها، ولكن صورة الأبواب والحصر والبسط، وترتيلات قرّاء القرآن، ستظل كامنة في أعماق لاوعي الفنان مطشر أمداً طويلاً، حتى تستيقظ في زحمة الحياة الباريسية فتدفعه من جديد لتأمل الوطن من بعيد.
كان لمطشر نصيب أن يقتفي أثر سابقيه، بقدر واسع من الجرأة والشجاعة والتفرد ليخوض أولى تجاربه بأسلوب مغاير وحديث متأثراً في مايعرف بفن (الاوب آرت op art) اختصاراً للفن البصري (optical art)، وهي حركة فنية برزت في ستينات القرن العشرين اعتمدت الأوهام الفيزيائية البصرية لتخدع عين المشاهد، وتستكشف الوسائل التي يمكن أن تحفّز الاشكال التجريدية بصر المتلقي، يعد هذا اللون شكلاً للفن الحركي، اذ يعبّر عن التصاميم الهندسية التي تخلق مشاعر الحركة والاهتزاز.
أو امتداداً للتجريد الهندسي، الا انه يركّز على خلق حالة الوهم والادراك الحسّي، يرجح انتسابه لفنون أكثر قدماً مثل trompe i'oeil اي خداع العين، وهو غالباً له علاقة بالتحليل النفسي في تأثير الصورة التي لا يبدو موضوعها واضحاً الا عندما ترى من زاوية مائلة.
منذ نهايات العقد السادس من القرن المنصرم، وجد مهدي مطشر في عمله الفني قضية فكرية طرحت نفسها ضمن التقنية والبحث في الشكل، اذ تبلورت لديه مفاهيم جديدة ازاء اللوحة في تجربة أساسها وحدات بنائية يكون الفضاء والملامح الهندسية هي العناصر المكونة لانضاج الشكل العام لديه، ان معالجته الفنية تخضع لعين الزاوية الرياضية في بنائها الهندسي.
ومع سحر هذا العالم ستظل البداية معلقة برؤية أول كتاب مصور عن الفنان (بول كليه)، وستحيا على خطوط رسومه الشاعرية، خطوط المحاريث في أرض قريته السمراء، وستستيقظ ألوان الفجر بكل انعكاساته وليونتها المائية العذبة، وهكذا رحل من هناك على شراع سندباد يفتش عن كنز يعرف أوصافه ثم ضاع.
الثابت ان بدايات (الاوب ارت) حافظت على ثنائية الاسود والابيض، ولم يلق قبولاً واسعاً لدى النقاد، فلا جديد فيه سوى تحويل القيمة الفنية نحو التجربة الادراكية، كما لم يجد أفقاً واسعاً نحو الانتشار إلا بعد انتباه عالم الإشهار والإعلان الى جمالياته.
هذه اليقظة التي غالباً ما يعبر عنها مطشر في أكثر من مناسبة في مرحلة لاحقة من تجاربه الفنية حين اخذ بأسلوبه نحو فن آخر لا علاقة له بالأوب آرت، هو فن (الأرابيسك)، الذي يعرف بفن التزويق والنقوش أو الزخرفة العربية الاسلامية، ليشكل أنماطاً خطّية إيقاعية ونماذج هندسية معقّدة، تعود أصولها إلى أكثر من ألف عام في فترة امتزاج الحضارة العربية مع حضارات الشعوب الاخرى، وكانت الريادة تعود للاندلسيين في هذا الفن، لذا يقول مهدي مطشر أن فنه يمثل برزخاً صوفياً متوسطاً بين الفن الاسلامي والتيارات الغربية الهندسية المعاصرة، واهتم بالعمارة لأنها تمثل خصوصية الثقافة الاسلامية، وأعاد صياغتها بلغة معاصرة بوصفها ضرورة وشرط لبناء وعي جديد بالنمو الحضري.
هذا التحول يأتي استجابة لمتطلبات تسويقية وذوقية وجمالية تجد لها جمهورها الواسع في معارض الغرب والخليج، مم أهّل مطشر للفوز بجائزة رفيعة عام 2019 في دبي، المخصصة لتكريم الفنانين والمصممين الذين يستلهمون فنون التصميم الاسلامي وثقافته البصرية، تعرف بـ (جائزة جميل للفن الاسلامي) التي شهدت مشاركات واسعة للفنانين من مختلف أنحاء العالم.
يكتشف مهدي عالمه البديل: عالم الأرقام والمعادلات الرياضية والنظريات الهندسية، في مقابل أن تختفي طرق السيارات الحلمية، والسواقي، وخطوط المحاريث، وصور القرية. يذهب الى الزوايا والطيّات والفجوات، والأطر والستائر، فهو كما يرى أحد النقاد معني بالفراغ أكثر منه بالإمتلاء، أعماله تفصح عن مزايا غير متوقعة للفضاء المحيط، تدل على جهد فكري يجد له سبباً في النظرة ذات (البعد الواحد) للوحة الفنية.
في مرحلة مبكرة من الدراسة فكّر مهدي بعبارة (السراط المستقيم)، ودفعه التفكير في البحث عن واقعية العبارة، ووجد أن نوعاً من الألفة والتعاطف غير المفسّر مع ذلك الخط المستقيم، قد تمّتا في نفسه حتى أصبح حباً، وفي مرحلة تالية كان ما يزال يتذكر تلك النشوة السحرية التي امتلكت حواسّه كلما رسم شكلاً هندسياً، أو مارس اثبات نظرية أو حل معادلة.
مطشر في سعي دائم لتطوير أساليبه، فوجد ان (المينيمالزم) الأقرب لأفكاره، وهو فن الاستمتاع بالفراغ والتبسيط في عناصر العمل الفني، في احدى المعارض تصدر واجهة المدخل لوحة من حرفين يمثلان الضمير (هو)، وتعني الآخر، ومنها الهوية، (هو) ذاك الذي يعكس صورتي ويشهد على انسانيتي، واذا تجاوزنا المعاني اللغوية للكلمة، فانها تعني الذات الالهية عند الصوفيين.
تتكشف في أعمال مطشر ريادته حول وحدة العمارة مع الفن التشكيلي، وذلك بتصميمه العناصر البصرية بناء على الشروط الفراغية والجدارية، ونسب الفراغ والامتلاء في صالة العرض. اعتمد المسافات السومرية وطورها بتكنيكه الخاص، وغالباً ماتنفذ أو تعرض كل أعماله بأسلوب (الأنستليشن). أو ما يعرف بفن التركيب الذي يقوم على صناعة اشكال مجسمة ذات أبعاد ثلاثية، يقتبس من فن النحت طابعه التصويري، ومن فن البناء قواعده الهندسية.
***
د. جمال العتّابي