مقاربات فنية وحضارية
كاظم شمهود: الفخار من الفنون التشكيلية الاولى في التاريخ
الفخار، من الفنون التشكيلية الاولى التي مارسها الانسان القديم، يعاد احيائها اليوم على يد احد الفنانين المميزين، وهو الخزاف الرائد موسى جاسب الميساني.
الفخار – هو كل ما يصنع من الصلصال – الطين – ثم يحرق بعد جفافه. والخزف – هو الطين المزجج المفخور او منتج فخاري مع الطلاء الزجاجي ثم يحرق مرة ثانية.. وفي اوربا يطلق على الخزف بالسيراميك...
كان ظهور صناعة الفخار عند الانسان القديم وليدة الحاجة المعيشية، ففي عصر الزراعة احتاج الانسان اشياء لحفظ حبوبه وبعد ان عرف النار اخذ طينا وصنع منه قدورا واوعية فجففها ثم حرقها في النار.. بعد ذلك عرف الرمال تنصهر بفعل النار وتتحول الى زجاج.. ثم اهتدى الى طلاء الفخار بطبقة زجاجية شفافة واحيانا ملونة.. وقد اشتهرت بلاد وادي الرافدين ومصر بصناعة الخزف وظهر ذلك واضحا في باب عشتار وقصور الآشورين في نينوى. كما اشتهرت الصين بصناعة الفخار والخزف... واطلق على الخزف في اليونان بالسيراميك وهي كلمة اغريقية تعني صانع الفخار او الخزف. ولازالت تستخدم لحد هذا اليوم...
الفنان موسى جاسب شنين
الخزاف موسى جاسب احد الخزافين العراقيين المميزين والذين لهم باع طويل في هذه الحرفة وكان احد روادها في القرن العشرين كان قد اسس له جمعية للخزافين وكالري للتشكيليين التعاونيين في مطلع السبعينات في شارع ابو نؤاس في بغداد، وكانت هذه الجمعية ملتقى لكل الفنانين التقدميين الرواد ودردشاتهم الثقافية الدائمة في ذلك الوقت. وهو من مواليد مدينة ميسان عام 1943 كما كان لديه كالري في السوق البغدادي تحت عنوان كالري الخزاف موسى وعيسى ثم اغلق بعد احداث عام 2003.. واخيرا استقر مع عائلته في مدريد ولديه صفحة تحت عنوان قصص قصيرة وخواطر متنوعة كما لديه مشغلا للخزف في مدريد (موستلس). وقد التقيت معه عدة مرات وعملنا معرضا مشتركا في في مؤسسة اهل البيت في مدريد.
ان الخاصية التي تميز اعمال موسى يمكن حصرها في قسمين الاولى هي استخدام وسائل العمل بشكل واعي يعني انه يصور وينحت بدافع مشاعر واحاسيس ذاتية اي انه يصنع بوعي وطريقة ارادية طبقا لمشروع ذهني سبق له ان صممه. ويتمثل ذلك بالاشكال التقليدية الاسلامية من لوحات بارزة ذات طابع ديني وغير ديني وهي اشكال متوارثة عن الاجداد كالشناشيل واالقباب والكفوف والاعين والكتابات الشعرية والدينية والصحون والعلب والجرات وغيرها والتي تعج بالزخارف المختلفة الملونة والاخاذة. وفي هذه الاعمال يبرز العقل الواعي كاساس للفن ويسميه البعض بالتصورات العقلية وهو منهج لبعض الفنانين المعاصرين مثل بيكاسو الذين يمكن ان تعتبرهم رواد التنظيم والحساسية الحديثة للفن. فاذا تراجع نشاط العقل فهناك نشاط الغرائز بمعنى الميل والمشاعر والعواطف وفي كل الحالتين يصبح كلا مركبا. والفن الاسلامي ينحو في اصله الى ابراز العنصر الجمالي خاصة في الاشكال الزخرفية السرمدية حيث يعتقد ان العنصر الجمالي قادر على عكس صوره سلوكية للانسان جميلة تؤدي بالاخير الى الابتعاد عن الممارسات القبيحة والشريرة.
القسم الثاني في اعمال موسى هي الاشكال الفطرية والتي تشبه الاشباح او الاقزام اذ تبرز فيها العيون كبيرة والايدي والارجل قصيرة ويطغي عليها الطابع الطفولي ولكنها معبرة بشكل مثير للتامل والتفكير وتذكرنا باعمال الفنان الفطري منعم فرات. وهناك فرق بين عمل الاطفال وعمل الفنان حيث الاول يعتمد في عمله على الغرائز والعواطف بينما الثاني يعمل بعقلية ذهنية ناضجة.. وهذه الاعمال التي نراها، تشبه اعمال الانسان البدائي وافكاره الغيبية المرتبطة بالسحر والدين والخرافة وهي تنحو نحو العقل الباطني. وكان الفنان البدائي يحاول اخراج العالم المخفي المخزون وراء الحجب فهو يريد ان يكشفه ويبرزه الى عالم المدركات الحسية معتمدا على وعيه الثقافي البدائي وايمانه بذلك العالم الميتافيزيقي... وقد يتبادر الى الذهن ان اعمال موسى تمثل عالم اخر غير عالمنا فهي اشكال مشوهة واقزام مخيفة خرجت من عالم اللاواعي او الغيبي الى العالم المرئي مجسدة ومحسوسة ماديا في ساحة الذهن الواعي...
والفن الفطري يمارس بدون تدريب او دراسة رسمية وكانت هذه من صفات الفن البدائي الافريقي خاصة العيون المفتوحة وملامح الوجوه المتشابهه مثل الاقنعة المصنوعة من الخشب والفخار. وقد طغت الرمزية والاسطورة الدينية والسحر على هذه الاعمال كما نجد انها تفتقر الى الواقعية ولكنها لها سمات انسانية وغالبيتها اشكال صغيرة توحي بصناعة الدمى للاطفال..
ونجد هذه الظاهرة ايضا في اعمال هنري روسو.
التماثيل الفخارية عند موسى تمتاز بالتعبيرية والمهار والحرفة والتجربة الطويلة حبث صنع من مادة الطين روائع فنية صادمة. اضف الى ذلك ما توحيه من اشكال تعبيرية وافكار وجمالية تتجسد في المنحنيات والجسم المبالغ فيه والتشويه في الشكل والعيون البارزة.. وقد تخلى موسى عن التفاصيل لصالح الرمزية كما كان الفنان البدائي يفعل ذلك حيث كان يطيل شكل الثور ليوحي بالقفز وهو من نوع الرمزية ذات المغزئ الاسطوري. كذلك نرى موسى يقزم الاشكال من اجل التعبير عن افكار قد لا نفهمها بسهولة.
وقد هرب كوكان من الحضارة الغربية وزيفها وذهب الى جزر هاواي ليرسم هناك النقاء الروحي والفن الفطري في مجتمع يكاد ان يكون بدائي..
بعض النقاد عد هذا اللون من التشويه في الاشكال يعود الى مشاكل نفسية او اجتماعية او قد تكون ايضا نقد للمجتمع وانحطاطه الاخلاقي وامراضه النفسية.. يقال في قصة طريفة ان احد فلاسفة الاغريق كان في يوم من الايام يسير وسط النهار بين الناس وهو يحمل شمعة او مشعلا مضيئا فقيل له ماذا تبحث قال عن رجل طيب. ؟.
اما المعري فيصف مجتمعه بالجهل.. فقال (لما رايت الجهل في الناس فاشيا.. تجاهلت حتى ضن اني جاهل).
***
د. كاظم شمهود