مقاربات فنية وحضارية
مصدق الحبيب: في نظرية الفن.. عن المعالجات التكعيبية
جاك ريـــڤـير (1886-1925) Jacques Rivie’re أديب وناقد فرنسي وصف بأنه أحد أقطاب النهضة الفكرية الفرنسية بعد الحرب العالمية الأولى. وهو الذي ترأس تحرير مجلة La Nouvelle Revue التي تعتبر مجلة الطليعة الفكرية في فرنسا آنذاك.
في مقالة تحليلية له بعنوان "عن الاتجاهات المعاصرة في الفن" المنشورة عام 1912 في Revue d’Europe et d’Amerique كان التركيز على اعمال النخبة الاولى من التكعيبيين (بيكاسو وبراك وليجيه وديلوني ودوشامب وميتزنگر وآخرين) ومعالجاتهم التشكيلية وتبريراتها في هذا الاسلوب الجديد.
يؤكد ريفير بأن التبرير الاساسي العام للاتجاهات الحديثة في الفن وخاصة التكعيبية هي تصوير محتوى وجوهر الاشياء وحقيقتها غير المرئية (profound reality; sensible essence) بدلا من مظهرها الخارجي الذي تؤهلنا قدرتنا البصرية على ادراكه. ويرى الناقد في ذلك بأنه من اجل اظهار محتوى الاشياء وترجمة جوهرها بمفردات تشكيلية على الكانفس، لجأ التكعيبيون الى عدة معالجات تشكيلية، كانت الاساسية منها هي:
- إلغاء الإضاءة:
نحن نعرف ان الضوء المسلط على أي شئ يمثل في الحقيقة لحظة معينة من الزمن، وهو بالتالي حالة مؤقتة يتطلبها تصوير مظهر الاشياء كما هي في ذلك الوقت المعين والموضع المعين ايضا، مما يؤدي الى تغير الفورم بتغير مساقط الضوء الناتجة عن تغير الوقت والموضع. نستدل من ذلك بأن رسم مظهر الاشياء كما تبدو لأعيننا ليس بحالة ثابتة انما متغيرة. فاذا كان الرسام لا يهدف الى تصوير الاشياء كما هي بل الى التقاط حقيقتها ومحتواها وجوهرها وهي حالات ثابتة فانه لن يفلح باتباع الطريق المعتاد الى تصويرها بحالها المتغير الذي تجسده الاضاءة. ومن هنا اتضح ان الغاء الاضاءة سيمهد الطريق الى الوصول لكينونة الاشياء الثابتة! ولكن ماذا سيعوض عن الاضاءة عمليا؟ أي كيف سيجعلنا الرسام ندرك المحتوى اذا اختفت الاضاءة من على الاشياء؟ يجيب الناقد على هذا السؤال الصعب بتصحيح العبارة أولا، فيقول ان الاضاءة لا يمكن حذفها بالكامل لكن المقصود هو تخلي الفنان عن تتبع مسار الضوء الفيزياوي الذي يسير بخط مستقيم فيسقط على من امامه من الاشياء والتي قد تحجبه عما يقع خلفها من اشياء اخرى لتصبح هذه الاشياء معتمة. وهذا بالطبع ما ينتهجه الرسام الواقعي فيكون الضوء في لوحته موزعا على الاشياء في اللوحة بشكل غير متساو ولا منتظم تبعا لتضاريس تلك الاشياء وكيفية حصولها على الاضاءة. وهذه هي الخاصية الفيزياوية التي يتخلى عنها الرسام التكعيبي فيسمح لنفسه بتوزيع النور على سطوح الاشياء بطريقة عشوائية تشبع قناعته التشكيلية. وهكذا نرى الضوء في اغلب اللوحات التكعيبية وقد توزع على التضاريس المختلفة بطريقة لاتشبه ما اعتدنا على ادراكه. فقد تكون متجانسة ومتناوبة ومتباينة بدرجة سطوعه وخفوته ، حتى اننا نرى كل مساحة مظللة تتبعها مساحة مضاءة بالتعاقب. وهذا ما يحمل التكعيبي على تحطيم المشهد واعادة بناءه وترتيب اجزاءه بغض النظر عن مساقط الضوء عليها! وهو البديل لمسألة الغاء الاضاءة من اجل الابتعاد عن حالات الاشياء الموقتة الطارئة والسعي لاظهار محتواها الثابت.
- إلغاء المنظور
المنظور ايضا ظاهرة طارئة وليدة اللحظة، تماما مثل الاضاءة. فحين تعكس الاضاءة لحظة معينة من الزمن، يعكس المنظور زاوية النظر التي يحتلها الناظر. وبهذا يكون المكان هو المحدد الاساسي للفورم، وما سيكون عليه ترتيب الاشياء تبعا لقربها وبعدها عن نقطة الموقع تلك. خذ مثلا اذا اراد الرسام ان يرسم كرسيا في وسط الغرفة، فبامكانه ان ينتج عشرات الاشكال لنفس الكرسي وهي تختلف باختلاف موقعه منه في الغرفة، يمينا وشمالا ومن الامام والخلف ومن اعلى وادنى من مستوى النظر الافقي التقليدي.
وهكذا فالفورم تتغير بموجب المنظور الذي يتحدد تبعا لموقع الناظر والمحكوم بقوانين الضوء الفيزياوية المعروفة. وبذلك فخاصية عدم الثبات تحيلنا من جديد الى ان السعي وراء اظهار المحتوى والجوهر يستلزم التقاط ماهو ثابت لايتغير، وهذا يعني التخلي عن المنظور وايجاد بديلا عنه. فما الذي ياترى سيحل محل المنظورالمحكوم بقوانين فيزياوية صارمة لامفر منها؟ يقول ريفير ان البديل يمكن ان يكون عن طريق الاهتمام فقط بزاوية النظر الاهم والاكثر هيمنة على المشهد والتي قد تسهم باظهار المحتوى بأفضل مايمكن. كما يمكن ان يكون البديل متجسدا باظهار اكثر من هيئة، اي مجموعة هيئات متداخلة تمثل كل زوايا النظر الاخرى. وفعلا فاننا قد نتذكر بعض الاعمال التكعيبية الاولى التي يظهر فيها وجه الانسان وقد تجمعت فيه عدة وجوه من زوايا مختلفة. فكل ذلك التحوير هو من اجل الوصول الى تقديم الشكل بما يتطلبه المحتوى حسب ما يعتقد الفنان. فالفنان في هذه الحالة يستطيع الولوج الى داخل الاشياء واظهارها على حقيقتها الجوهرية الثابتة.
اخطاء التكعيبيين
يواصل ريفير فيعيب على التكعيبيين بعض مبرراتهم. يبدأ بذكر المعالجة الانطباعية بقصد المقارنة. فيقول لم يخرج الفن بعد من خيمة الانطباعية، فكل الفنون انطباعية بمعنى انها لا تعكس فقط مانراه، انما مانشعر نحوه ايضا. والقصد واضح وهو ان الانطباعيين قدموا معالجتهم الاساسية على انهم لم يصوروا الاشياء بحذافيرها الفوتوغرافية كما فعل من قبلهم من فنانيين، بل انهم ضخوا في اللوحة ما يشعر به الفنان أزاء المشهد، فالفورم واللون والتكوين ظهرت في لوحاتهم كما تراها العين بل كما تشي به احاسيس الفنان الداخلية أزاء المشهد عموما. وبذلك فان الانطباعية قد وضعت وسيطا فيما بين العين (وفعلها الفيزياوي الثابت) والمشهد (ومظهره الخارجي في تلك اللحظة). هذا الوسيط هو مايتبلور من أحاسيس في دواخل الفنان والمتلقي على اختلافهما. ثم يعرج الناقد الى ما ارتكبه التكعيبيون من هفوات. هفوتهم الاولى تتمثل بما قد يحدث عندما يلجأ الفنان الى تصوير كل وجوه الشئ من مختلف زوايا النظر من أجل ان يمثل هذا الجمع غير المتجانس الحقيقة التي يخفيها المنظور الذي يقدم زاوية نظر واحدة. والخطأ في ذلك ان هذه المعالجة، وبغياب المنظور، ستؤول الى تصفيف الوجوه من زوايا نظر مختلفة على مستوى خط النظر. فماذا ستكون النتيجة ؟ سنشعر بأننا نرى الشئ وقد فُتح امامنا كما نفتح الخارطة على سطح مستو، وهذا ما يعود ليخالف القصد بتصوير حجم الشئ وحقيقته الداخلية الثابتة.
والهفوة الثانية التي يشير لها الناقد هي التي يقول فيها لو جرى حذف الاضاءة والمنظور معا فإن ذلك سيلغي النظر الى الاشياء اصلا، وبالتالي يتعذر النفوذ الى محتواها، مما يؤول الى الفوضى واللامعقول. ويواصل فيذكر الهفوة الثالثة المتعلقة بمعالجة "عمق الميدان" كما يحدث مثلا في رسم بناية من مسافة معينة فان التخلي عن المنظور قد يؤول الى تعويض الفضاء بين نقطة النظر والبناية بامتداد صلد يحاكي رسم جدران البناية! أي ان خطوط المنظور الوهمية الممتدة في الفراغ تتحول الى استطالات مجسمة كونكريتية من أجل تمثيل العمق دون الاستعانة بالمنظور، باعتبار ان وظيفة العمق هي التفريق بين جسم وآخر حسب بعد الاجسام عن زاوية النظر! ولكن حسب ما يقول الناقد ان مثل هذه المعالجة ستؤدي الى اضافة كيانات اخرى تزحم المشهد وتشوش الادراك مما يفسد تبرير الغاء المنظور.
رأي شخصي:
- بادئ ذي بدء، لابد ان اقول انه ليس من السهل عليّ ان اقبل استعارة كلمة "نظرية" في حقل الفن. لماذا؟ النظرية هي مجموعة المبادئ التأملية التجريدية العقلانية التي تفسر الواقع العملي أو أي نشاط أو ظاهرة معينة. والتعريف العلمي للنظرية لايكتفي بالمبادئ التي تقدم تفسيرا ارتجاليا مجردا للواقع، انما ينبغي في التفسير ان تكون له القدرة الكافية على البقاء well-sustained، أي انه قابل للتكرار للحد الذي ينبثق عنه نمط واضح pattern ومعزز ومدعوم بالأدلة والقرائن، ومصمم بالشكل الذي يخضع للاختبارليتسنى من خلاله بناء التنبؤات القادمة وصياغة التعديلات الضروية لضمان تطابق النظرية مع الواقع. فأين الفن من ذلك ؟ وهو حقل تعبير الفنان عن انطباعاته حول موضوع معين، مستخدما وسائل تكنيكية، وهنا اتحدث بالذات عن الفن البصري. فطالما سلمنا بان كل الفنون هي تعبير عن اعتقادات وانطباعات فنانيها، يصبح الفن حقلا ذاتيا بالكامل وليس للموضوعية فيه أي مجال. وأرجو ان لايحدث اللبس بين هذه الموضوعية وبين معناها في الطرح العادل المنصف.
- لديّ مشكلة اخرى مع ذلك الاعتقاد الذي انتشر كالنار في الهشيم منذ بداية القرن العشرين حيث تفجرت تيارات الحداثة ولحد اليوم. ذلك هو الاعتقاد حول السعي لتصوير المحتوى والجوهر! خاصة في تعميم المفهوم على كل ما يرسمه فنان الحداثة. فأي محتوى وجوهر للاشياء اذا كنا نصور الاشياء الجامدة كالبناية والكرسي والشجرة؟ انني أرى ذلك ضربا من التخريف.
نعم، ربما هناك شرعية في التحدث عن المحتوى الانساني اذا كنا نصور شخصا معينا او شعب او ثقافة. ولكن لم يجر الحديث عن هذا المحتوى، وهو المؤلف من عوامل غير تشكيلية ، اجتماعية ونفسية واقتصادية وتاريخية!
- لم أفهم وجهة نظر الناقد في نهاية المطاف! فهو الذي صاغ كل تلك التنظيرات وهو الذي انتقدها وأشار الى فشلها في المعالجة.
- لا اعتقد ان التكعيبيين، الأوائل والأواخر، يحسبون لمثل هذا التنظير حسابا قبل ان يمسكوا بالفرشاة ويشرعون برسم لوحاتهم. فالحقيقة التي ينبغي ان نعرفها جميعا هي ان الرسام، تكعيبي ام غيره، يبني مفردات لوحته ، يختار ألوانها، ويكمل انشائها بوحي من حسه الفني. والحس الفني التشكيلي جزء من الوعي العام الذي يتطور بالمراس والمعرفة ويتأثر بالثقافة والمحيط. فالرسام ابعد ما يكون من ان يلتزم بقواعد فيزياوية صارمة كالتزام الخطاط العربي الكلاسيكي، مثلا، بقواعد تقييس الحروف.
- رغم انني أرى ان قسما من هذا التحليل مفيد لفهم اللوحة التكعيبية، خاصة الغاء المنظور، لكنني لست مقتنعا بموضوع الغاء الاضاءة وادراك المحتوى. كما انني استغربت في ان الناقد همل ذكر البعد التشكيلي الاهم في التكعيبية وهو اختراق خط النظر عبر الاجسام المختلفة وكأن كل الاجسام في اللوحة اجسام شفافة، وهو دليل على وجود الضوء في اللوحة التكعيبية، وليس غيابه!
على انني اعتقد ان التنظيرات المتعلقة في السعي وراء الجوهر، في هذه المقالة وغيرها، هي التي فتحت الابواب امام الطوفان فسمحت لكل من هب ودب أن يتمسك بذريعة اظهار المحتوى والجوهر ويرسم ماشاء من خزعبلات، ليس فقط غير تكعيبية، انما بعيدة عن الحس الفني والذوق العام ومستخفة بوعي المتلقي وادراكه، وغير مكترثة بأي حياء او كرامة. وهذا الطوفان لم يشمل فقط اجيالا عديدة من ادعياء الرسم بل شمل ايضا اجيالا من النقاد والصحفيين واصحاب گاليريهات العرض والمتاحف وكذلك مؤرخي الفن. وهو السبب الذي غالبا ما یضعنا امام سيل من الانشاء الادبي الذي لا قرار له المكتوب من قبل اولئك المحسوبين كخبراء في الفن.
***
ا. د. مصدق الحبيب