مقاربات فنية وحضارية
التشكيلي غسان فيضي.. وجه العراق السومري
غسان فيضي المولود في معقل البصرة، يعرف من أين جاءت السفن، وأين رست؟ حرارة التوابل تخطف رغباته عندما تقع الشمس على أطراف النخيل تطير كالحمامات، ههنا حاضر له زمان ومكان يتذكر فيه موت أبيه، باحة البيت تتوسطها شجرة سدر، طالما تلعنها الأم بإعتقاد منها أنها تجلب النحس إليهم، ها هي العائلة تعدّ نفسها للرحيل، ينسون أيامهم خلفهم.
يشعر الفنان التشكيلي فيضي المقيم في فرنسا بالحزن لأن مدينته البصرة تنسى أبناءها ، حين لا يجد أثراً لاسمه من بين (تشكيليو البصرة)، الكتاب الذي أصدره الناقد التشكيلي خالد خضير الصالحي عام 2017، وهو يستعيد الأيام والأحلام والذكريات كواحدة من صفحات تاريخ الفن في العراق، وقد أدركها الغياب من طول ما بعدت عنه ونأت، إذ تبدو له من وراء شفيف ضباب السنين، وردية قليلاً، شاحبة في أكثر الأحيان:
كنت قد اخترت يوماً غائماً لأغادر البصرة، ورحت أشرب حفنة ماء من نهر (بويب)، وأقول لأهلها: سلاماً أيها الباقون، سلاماً أيها النخل، لم آخذ أدوات قلبي كلها، تركت بعضاً منها هناك، يقول فيضي المولود عام 1948: استحضرها على الدوام في أعمالي الفنية، بعد أن تركت الوطن عام 1974،نحو باريس بعد عام واحد من تخرجي في أكاديمية الفنون الجميلة، كنت أحمل معي حقيبتي الصغيرة وآلة العود. بكفالة صديقه الفنان فيصل لعيبي، الذي سارع هو الآخر للالتحاق بغسان، ينطبق عليهم المثل المحلي (عصفور كفل زرزور واثنينهم طيارة)!
اصنع بنفسك ما تشاء يا غسان، فقد اخترت طريق الرحيل، واسم حضارة الرافدين والموروث العراقي يرنّ على خطاك، ربما امتلأت رئتيك بهواء المعقل وبغداد، فرحت الى مواجهة الزمن المتحرك، بما يحمله من توقعات حادة ومفاجئات قد تعطّل في نفس الفنان تلك الطاقات الحبيسة التي تريد أن تعلن عن ذاتها بسرعة.
ومثل هذه المعادلة الصعبة التي تفضي الى حالة من اللاتوازن مع العالم الذي يحاول الفنان جاهداً أن يبقى على علاقة سليمة به، قد لا تسعفه في المضي بالتجربة حتى نهايتها لانه حينما يقف إزاء كل جبريات الحياة ويواجه امتحاناتها ومعضلاتها، يجد أنه في حاجة الى معين يتجدد من طاقة الحياة لاينضب، حملت عودك الى أنفاق مترو باريس ترسم على جدرانه، وتعزف كي تأكل، مغامراً في آن أو مكتشفاً في آن آخر، كنت تعمل طبقا لمزاج خاص لم تهزّك عواصف التحديث.
أدرك غسان ذلك حين بدأ الدراسة في معهد (البوزار)، وتخرج منه عام 1980. لتغتني تجربته كشاهد للطبيعة وملوّن رصين شغوف بعراقية المنظر، وهو يمنحه قدراً كبيراً من العاطفة المشبوبة، يضيف اليه بصريات ريشة عريضة ذات سحبات جريئة وواثقة، ما يمكن أن يؤلف غنائياً نسيج اللون التعبيري، متأثراً باستاذه الفنان الفرنسي (جان برتول) الذي طالما يحثه وينصحه في العودة الى ثقافته الشرقية ومنابع حضارته وتاريخه، وهو بهذا القدر من الحرية التقنية يتيح لنفسه قدراً من المساحة الكافية بين أسماء فناني جيله (صلاح جياد، نعمان هادي، فيصل لعيبي، منقذ شريدة)، ويبتعد عنهم بمعالجات مغايرة، شكّلت ملامح اسلوبه الخاص.
يطالعنا أبداً وجه العراق السومري في أعمال غسان فيضي التشكيلية، إذ استأثر بالنظرة الصافية للمشهد العراقي، وظل متوازناً مع ذاته من دون مفارقات ولا مواقف دراماتيكية مفتعلة، ولا حتى محاولات فنية تهدم عالماً منظوراً لتشيد نقيضاً له، ربما كان ينظر الى تلك المحاولات نظرات فنان يحلل ويركّب، ويقارن ويجانس ويغاير، لكنه لا يستسيغ الدخول الى التجربة الفنية مغامراً، حين يعمد الفنان الى الكشف عن الجوهر في جماليات الطابع الديني في جداريات نفذها في كنائس فرنسا ضمن اختصاصه الدراسي، سعياً منه الى اقتناص لحظات الإيماض في ولادة الخلود.
تأثر فيضي بمعلميه رواد المدرسة البغدادية، يقدم نفسه كامتداد لمدرسة جواد سليم في موضوعات الحب والحنين والفرح، والأجواء العراقية بطقوسها وقصصها، شناشيل بغداد والبصرة، وألوان الزجاج والأقواس في النوافذ والأبواب. وللمرأة حضور غالب في أعماله، في أوضاع منحنية ومكورة، بحالات حنين وإنسانية مشبعة بالعطف، وجوه النساء مليئة بالرموز والألغاز التي تتطلب لمعالجتها قدرة حلمية ولونية لا حدود لها، عناصر اللوحة لديه في تناغم وانسجام جميل ومتناسق، يبرز لنا دلالة رمزية في الأشكال المكونة لها، والنسب الفنية الظاهرة فيها تعطيها قيمة بنائية عالية في تجسيد اللون والحركة بما يحقق القيمة الجمالية. لوحات (بغداد حبيبتي، وبغداد بين نافذتين).
في ضوء هذه المعطيات، يمكن القول ان لغة فيضي التشكيلية تحولت الى مادة فنية مطواعة مؤهلة للتعبير عن ذلك الإيقاع البصري المؤثر بالمضامين غير معقدة التركيب، بعيدة عن سطوح التجريد، والاستخدام الفج والمباشر للفولكلور لعل أغلب موضوعاته تأخذ نمطاً شكلياً واحداً للتعبير عن أفكاره وعواطفه، في الذهاب نحو النستولوجيا كمتنفس من ضغوط الغربة، فيجد نفسه مشدوداً بقوة الى مصادر وعيه وجذوره الاولى، الحضارية والروحية، فضلاً عن حالة القلق وأسئلة المصير التي منحته قدرة التعبير عن افكاره بنمط صريح يعالج عبره الموضوعات الانسانية والاجتماعية، فكان أكثر أمانة من سواه في حدود تجربته الفنية أن يتمثل بعض ما جاءت به التيارات الفنية المعاصرة، فلم يخضع كلياً لتأثيراتها، كما لم تحمله على التقليد فيسقط في هاوية المماثلة الرديئة.
ينسب بعض النقاد التشكيليين اعمال غسان فيضي الى تأثرها باسلوب الفنان العالمي فاسيلي كاندنسكي بألوانه الراقصة، وايقاعات الانسان الداخلية، والبعض يشبّه رقاب نساء فيضي بأعمال الفنان مودلياني المفعمة بجمال الشرق وسحره.
ان لوحة (على طريق البصرة)، التي تصور نساء جاثمات او منحنيات على دبابة محترقة، تجسد عذابات المرأة العراقية في وطن يتحول الى رماد، كما انا تعبير صارخ ضد الحروب، وفي لوحة (أضواء نارية على سماء بغداد)، تبدو التعبيرية قاسية جداً كونها النداء الداخلي والقوة الخفية التي منحت فيضي صرخته في الاحتجاج على صلف الطيار الامريكي في أثناء لقاء تلفزيوني، راح يتغزل بليل بغداد وهي تحترق بفعل القنابل والصواريخ الامريكية التي سقطت على العاصمة. الفنان هنا قدم عملاً ابداعياً مقاوماً له دوره في التغيير. الحفاظ على مضمون العمل، والجانب الوثائقي فيه.
الوجوه يحددها بإمارات الحيرة والتأمل، الانسان في دوامة الوجود يبحث عن وسيلة يحرر فيها روحه التي تعاني الحصار، انسان غسان فيضي لا يعيش العزلة، انما هو متصل بالآخر، متلاحم معه، في أغلب الأعمال تجد كتلاً من البشر متراصّة، بوجوه مذعورة غارقة في السؤال لمواجهة مصيرها ومحنتها المشتركة (لوحة جراح البصرة)، غير ميّال للاهتمام بأجزاء الجسد الأخرى. جمالية اللوحة تبدأ بالوجه، بتضاد لونين أحدهما السعادة والآخر الحزن، الضوء والعتمة، العالم يبدو هكذا، أقصى حالات التعبير الانساني تجسدها الوجوه، ليس بالضرورة ان تكون وجوه الرجال حاضرة في اللوحة لانها تتجسد في وجه المرأة كذلك، هكذا يقدم لنا فيضي تبريراته عن خلو اعماله الفنية من وجه الرجل. لوحات (انتظار وعودة السنونو).
تجربة غسان تبدأ عادة من نقطة الإشارة الى المرأة ، تتجمع في مختبره الداخلي كل الطاقة التعبيرية على أداء الفعل، لتفرغ في النهاية بالتشكيل الذي يمثل شخصية الفنان وأسلوبه، المرأة في أعماله مثل رغيف الحياة، وجوه مدوّرة بعيون مفتوحة واسعة، الصغار من حولها يتمسكون بأصابعها، يتشبثون بأذيالها لائذون، اللوحة تسبح بلون الضياء، والخدود كلون الأجاص، نجوم شفيفة تضيء، وهمس النساء الغارقات بحزن الفقدان يتحول الى صراخ من خلف الاسوار (لوحة سبايكر) مثلاً.
اللوحة عند فيضي تحفل بمعاني الخط كوسيلة تعبير عن الحقيقة والحركة على رقعة مسطحة ساكنة، و شدّة اللون في عام الأساطير الشرقية، ألوان الزجاج والسجاد، والأقواس الرقيقة، والمثلثات، أعماله واسلوبه على وجه التحديد. عالم ألف ليلة وليلة الذي ينتظره الأوربي أن يقدمه الفنان المقيم في بلدان الغرب. فكان أميناً لما تمناه معلّمه جواد سليم في أن يجد امتداده بتجارب شابة، أصيلة المنابع، منفعلة بالأحداث، غير غائبة عن التأثيرات الاوربية، بما يمنح فن جواد القدرة على النمو والانتشار.
***
د. جمال العتّابي