مقاربات فنية وحضارية
كاظم شمهود: من هي الأسبق الحضارة السومرية ام المصرية؟
كان الناس في القرون القديمة يجهلون قيمة الحضارات الرافدينية والمصرية وأثارها المطمورة تحت التراب حتى اواخر القرن التاسع عشر وينظرون اليها نظرة فضولية اكثر منها اعجاب واعتزاز وانها كانت مغلفة بسحر وشعوذة القرون القديمة وانها وثنية ومحرمة، لهذا كانت عرضة للتخريب والنهب والبيع. ويعود الفضل الى علماء الآثار الاجانب الذين ازاحوا الغبار عن الغموض والشك عن الاثار وحلوا رموزها وكشفوا الوجه الحقيقي لها، وانها تراث الامة وهويتها وكنزها الحضاري الانساني ومجدها الثقافي والقني.
دعونا نذهب الى جوهر الموضوع ونضع النقاط على الحروف دون تحيز او تعاطف فالحضارتين السومرية والمصرية هما اولى الحضارات في العالم دون شك ولا ريب، ولكن من هو الاقدم والاول والسابق على الاخر في فجر الحضارة ؟ كل الدلائل والمؤشرات العلمية والاثار المكتشفة ومن خلال تواريخها تشير الى سبق الحضارة الرافدينية على المصرية بعدة قرون، ويمكن تلخيص ذلك بعدة نقاط :
1 ـ ذكر العالم والمؤرخ الامريكي ديورانت في كتابه ـ قصة الحضارة ـ وكذلك العالم الاثري ستين لويد في كتابه ـ فن الشرق الادنى القديم ـ بان اختراع الكتابة ظهر في مدينة الوركاء السومرية عام 3500 ق م، وقيل قبل ذلك التاريخ بعدة قرون حيث كان الكهنة يدونون النذور والهدايا التي ترد المعابد من المؤمنين وكذلك تدوين رواتب الموظفين والعاملين فيها. وايضا يذكر في احد المصادر بان الكتابة ظهرت في زمن ادريس احد احفاد النبي أدم ـ ع ـ قبل الطوفان وانه سمي بادريس لكثرة دراسته وكتابته. وكان يشكل الرقم السابع بعد اولاد أدم.
بينما ظهرت الكتابة في مصر عام 3300 وقيل في مصدر اخر 3000 وقيل 2600 ق م، وقد انتقلت الكتابة الى مصر عن طريق الهجرات السومرية التي حدثت بعد الطوفان وقبله الى الجزيرة العربية وشمال افريقيا، وهو ما يؤكده بعض المؤرخين وعلماء الآثار مثل الاستاذ طه باقر. حيث انتقلت الثقافة والديانة والتقاليد السومرية الى مصر وتأقلمت ثم اخذت لها خصوصية مصرية. في الواقع ان الهجرية حدثت قبل السومريين وقبل الطوفان في زمن حضارة العبيد التي سبقت حضارة السومريين قبل الالف السادس والخامس قبل الميلاد وهو ما اكده علماء الاثار، حيث وجدت اثارها منتشرة في الخليج والجزيرة العربية وبلاد الشام ومن المؤكد انها عبرت الى مصر القديمة.. علما ان الكتابة مظهر حضاري اساسي اولي في بناء المجتمع والدولة وفي المجالات العلمية والثقافية والاقتصادية والسياسية وغيرها.
2 ـ عثر في تل العمارنة وهو اقدم الاماكن الاثرية في مصر على وثائق منها رسائل تعود الى الملك المصري ـ امنوفس الثالث ( او الثاني ) ـ وابنه اخناتون (امنحوتب الرابع 1367 ق م ) وهي رسائل متبادلة بين عدد من الملوك منهم ملوك بابل، وهذه الرسائل كتبت بالخط المسماري واللغة البابلية، مما يشير الى ان الثقافة البابلية كانت هي المنتشرة في الشرق الادنى في ذلك الوقت. وقد كان هناك اتصالات بين البلدين وعوامل مشتركة تطورت خلال القرون الاخيرة من الالف الرابع قبل الميلاد منها التجارة والسياسة.. ويذكر بعض علماء الآثار ان اقدم الآثار في مصر ترجع الى 5000 ق م، ويطلق عليها بالحضارة التاسية، ثم جاءت بعدها حضارة البداري ثم جاءت بعدها حضارة نقادة حوالي 3400 ق م، وفيها ظهرت المصنوعات العاجية والاواني الملونة بزخارف حيوانية وادمية كما تقدمت صناعة المنسوجات وصناعة التماثيل الصغيرة وفيها مسحة اسطورية.
3 ـ عثر على لوح ذو وجهين في اور منقذ بطريقة السيراميك او الفسيفساء ثبت عليه اشكال صغيرة من الصدف او عرق اللؤلؤ بواسطة القار يدعى ـ لواء اور ـ يعود الى ما قبل الالف الثالث قبل الميلاد. وقد رسمت عليه اشكال صغيرة معقدة متشابهه، وقد اخذت كلها شكل جانبي للوجه وامامي للجذع او الصدر والقدمين جانبي والعيون امامية مفتوحة كبيرة الحجم.. هذه التأثيرات الفنية السومرية انتقلت الى الفنان المصري فاخذ ينقش ويرسم بوجوه جانبية وصدر امامي وعيون امامية واقدام جانبية، ثم تطور الفن المصري وانطبع بطابع المعتقدات الدينية المصرية.
4 ـ كانت الديانة الوثنية سائدة في بلاد سومر ومصر وكانوا يؤمنون بتعدد الالهه ولكنهم يؤمنون في نفس الوقت بالروح الخالقة لهذا الكون الغامض، فاصبح يطلق عليه بالاله الاعظم او الاب الاكبر ـ أن ـ عند السومريين وانو ـ عند البابليين واترع ـ عند المصريين ثم اصبح ـ امون ـ في المملكة الوسيطة، وفي زمن الملك اخناتون (امنحوتب الرابع 1364) اصبح يسمى ـ اتون ـ حيث اصبح الملك يؤمن بالتوحيد اي بالله تعالى. وكان المصريون يؤمنون بالموت وبالخلود بعد الموت وهو نفس المعتقد السومري حيث ان الانسان فاني وانه سيموت وينتقل من هذا الحياة الى حياة اخرى مجهولة عند السومريين وخالدة عند المصريين. واتخذ الملوك المصريين صفة الاله بينما نجدها عند السومريين ان الحاكم هو عبارة عن قائد الدين والسياسة وانه مجرد راعي للشعب وهو بذلك اكثر عقلانية ومنطقية. وكان الملك حمورابي يستلم القوانيين من اله الشمس وكأنه وكيل او ممثل عن الاله في تطبيق القوانيين في الحياة، كما نجد احد الملوك الحيثيين يعانق احد الالهه طالبا الحماية والمساعدة.
5 ـ يذكر بعض علماء الاثار ان مضاهر الحضارتين السومرية والمصرية متشابهه وان اسلوبهما الثقافي والفني متشابه ( رغم تعذر تعليلها ؟ ) فالسومريين يسكنون مناطق الاهوار السهلة ويدجنون الحيوانات مثل الجاموس وصيد الاسماك والطير ويعتمدون في زراعتهم على مياه الانهار من دجلة والفرات وكذلك اهل مصر على النيل.. ولكن اذا كانت الآثار المكتشفة وابحاث علماء الآثار يقرون بان الحضارة السومرية هي الاقدم وان الانسان بدأت هجرته قبل وبعد الطوفان من بلاد الرافدين الى الجزيرة العربية وشمال افريقيا، اذن لا بد انهم حملوا معهم حضارتهم بكل خصائصها الى المناطق التي حلوا فيها وتأثر سكان تلك المناطق بها.
6 ـ الاعمال الفنية في الحفر والنقش والمنحوتاات البارزة نجدها متشابهه في كلا البلدين الا في نوعية الحجر مثل مشاهد صيد الاسود للملوك وان موقف المتفرج في العاج المصري لا يختلف عن مشهد الكهنة العراة في الموكب المرسوم في اواني الزهور في بلاد الرافدين الا في قطعة القماش التي تستر العورة في عصر ما قبل السلالات، اما الخطوط العامة فهي متشابهة. وقد كشف عن نحت اسطوري وحشي في سومر موجود حاليا في متحف بروكلين وهو يشبه قرد وحشي في منطقة ـ نارمر ـ المصرية، وهناك كثير من الرسوم والتماثيل المتشابهه.
7 ـ تذكر بعض المصادر التاريخية والدينية بان هناك 24 الف نبي ظهر اغلبهم في منطقة الهلال الخصيب فكانت هذه المنطقة تعج بحركة الانبياء والمرسلين والمصلحين وكانت بلاد الرافدين مهبط الرسالات السماوية الاولى من ادم الى نوح الى ابراهيم ـ ع ـ ومنبع القوانيين الانسانية الاولى كمسلة حمورابي وصحف ابراهيم التي سبقتها. فاذا كانت هي كذلك اذن منها نشوء الحضارة الاولى وتقدمها على غيرها من الحضارات التي ظهرت بعدها. وتقول بعض المصادر بان النبي ادريس وهو الولد السابع من ولد ادم قد هاجر من بلاد الرافدين الى مصر وانشاء هناك حركة علمية وثقافية وفلكية وعلم الناس الكتابة ودين التوحيد.
8 ـ يشير عالم الآثار سيتن لويد بان هناك منجزات فنية تؤكد على ان فناني السومريين لهم السبق فيها وانهم كانوا بمثابة الاساتذة لمن خلفهم كالتماثيل الطينية للحيوانات ثم يضعونها في افران لتاخذ الصلابة والقوة، كما استخدموا الحجر الملون في نحت التماثيل كالمرمر الشفاف واللون الابيض والاسود واللازورد واعمال الفسيفساء، وايضا استخدموا الالوان في طلاء المنحوتات مثل القيثارة السومرية ناهيك عن الاختراعات الاخرى التي سجلت السبق الانساني على غيرهم.
و لا تعني هذه المقارنة التقليل من اهمية تاريخ مصر الحضاري فهي كما يقول اهلها (مصر ام الدنيا) ولكن نحن نتحدث عن بداية الحضارة ونشأتها وما قدمته من اختراعات للبشرية وتأثيرها على الامم الاخرى.. فالحضارة الرافدينية والحضارة المصرية هما ام الحضارات..
د. كاظم شمهود