أقلام حرة
رافد القاضي: جمال السائق بين عجلة القيادة وضمير الطريق
ليس الجمال في السائق لون مركبته ولا حداثة طرازها ولا قوة محرّكها، بل في المسافة الخفيّة بين يده التي تمسك عجلة القيادة وقلبه الذي يراقب الطريق وهناك في تلك المسافة الأخلاقية الصامتة، يولد ما يمكن أن نسمّيه «جمال السائق» جمال لا يُرى بالعين بل يُحسّ بالأمان ويُقاس بالاحترام ويُختبر عند أول مفترق طريق.
الطريق ليس إسفلتًا فقط بل فضاءً عامًا تتقاطع فيه مصائر البشر. كل سائق يمرّ عليه يترك أثرًا، إمّا طمأنينةً عابرة، أو خوفًا دائمًا ومن هنا تبدأ الحكاية : السائق لا يقود مركبة فحسب، بل يقود سلوكه، ونزعته ونظرته إلى الآخر فبين عجلة القيادة وضمير الطريق تُختبر إنسانية الإنسان في أبسط صورها وأكثرها صدقًا.
جمال السائق هو أن يفهم أن الطريق ليس ملكًا له وحده وأن السرعة ليست بطولة وأن الوصول ليس غايةً تبرر الفوضى وهو أن يتوقف عند إشارة المرور، لا خوفًا من شرطي، بل احترامًا لقانونٍ يحمي الجميع وهو أن يفسح المجال لمشاةٍ لا يملكون سوى أرجلهم، ولعجوزٍ يعبر ببطء ولأمٍّ تمسك بيد طفلها كأنها تمسك بالحياة نفسها.
هنا يصبح السائق الجميل شريكًا في الأمان العام، لا خصمًا له ففي زمن ازدحمت فيه الشوارع وازدادت الضغوط، صار الطريق مرآةً مكبّرة لأخلاق المجتمع. نرى فيه الغضب والأنانية، والتسرّع، كما نرى الصبر والتسامح، وضبط النفس والسائق الذي يشتم، ويزاحم، ويكسر القواعد، لا يفعل ذلك لأن الطريق ضيّق فقط، بل لأن ضميره أضيق وأما السائق الذي يقود بهدوء، ويعتذر بإشارة، ويبتسم حين يُخطئ غيره، فهو إنسان يوسّع الطريق بأخلاقه، حتى لو كان مزدحمًا.
جمال السائق ليس ضعفًا، بل قوة ناضجة فالقوي حقًا ليس من يفرض نفسه بالزمور العالي والاندفاع الأعمى، بل من يملك السيطرة على أعصابه والقيادة امتحان يومي لضبط النفس ؛ كل لحظة فيها فرصة للانزلاق نحو الفوضى أو الارتقاء نحو النظام. والسائق الجميل هو من يختار النظام لا لأنه مفروض، بل لأنه مقتنع.
ثمّة بُعد أخطر في المسألة: السائق مسؤول عن أرواح لا يعرف أسماءها ثانية واحدة من تهوّر قد تغيّر حياة عائلة كاملة، وقد تكتب نهاية حكاية لم تبدأ بعد. لذلك فإن جمال السائق هو وعيه بثقل هذه المسؤولية.
حين يخفف سرعته قرب المدارس، وحين يتنبّه للدراجات وحين لا يستعرض قوته على حساب سلامة الآخرين، فإنه يترجم أخلاقه إلى أفعال ملموسة ففي مجتمعاتنا كثيرًا ما نطالب بالقوانين الصارمة، وننسى أن القانون وحده لا يصنع حضارة طرق والحضارة تبدأ من الداخل، من ضمير السائق قبل كاميرات المراقبة فحين يغيب الضمير، تصبح القوانين مطاردةً بلا نهاية وحين يحضر الضمير، تتحول القوانين إلى شراكة لا إلى قيد.
جمال السائق هنا ليس مسألة فردية، بل ثقافة عامة، تنعكس على صورة المجتمع كله والسائق الجميل يعرف أن الاعتذار ليس هزيمة، وأن التمهّل ليس خسارة وأن احترام الآخر لا ينتقص من كرامته. بل على العكس يرفعه وهو يدرك أن الطريق اختبار يومي للأخلاق، وأن كل رحلة قصيرة هي فرصة لممارسة إنسانيته لذلك لا يستغرب أن يكون أجمل السائقين أولئك الذين لا يُلفتون الانتباه لأن جمالهم هادئ، غير صاخب يشبه الأمان.
وفي النهاية، بين عجلة القيادة وضمير الطريق تُكتب سيرة الإنسان الحقيقية وقد ينسى الناس ماذا قدنا، وأين ذهبنا لكنهم لن ينسوا كيف قدنا بينهم. جمال السائق ليس ترفًا أخلاقيًا، بل ضرورة حياتية، لأنه ببساطة الفرق بين طريقٍ يُعاش، وطريقٍ يُخاف منه وحين يقود الضمير قبل اليد يصبح الطريق أقل قسوة، وأكثر إنسانية ويستعيد السائق أجمل ما فيه إنسانيته.
***
د. رافد حميد فرج القاضي







