أقلام حرة
أكرم عثمان: ما لكم لا ترجون لله وقاراً
في الحياة أنماط متعددة من البشر، تختلف مشارِبهم وغاياتهم وطرقهم. فمنهم من يسير خلف هواه، لا يرى إلا نفسه ورغباته وملذاته، فيسعى لتحقيق ما يسره ويبهجه، غير ناظر إلى الطريق الذي يسلكه والنهج الذي يسر عليه، ولا إلى ما إذا كان فعله منسجماً مع قيم الأخلاق وآدابها، وموافقاً لرضا الله وتعاليمه ودستوره العظيم وسنة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم. غايته المنفعة، وغاية الحكيم النجاة.
وعلى النقيض، هناك من يسير بخطى ثابتة راسخة، منضبطاً بقيم الشرع وضوابط القرآن العظيم، تلاوة وتدبراً وعملاً به وتطبيقاً له. يزن خطواته بميزان الهداية، ويتحرك ضمن نواميس كونية أودعها الله رحمة وهداية وبياناً فصلاً يوضح معالم الطريق السالكة بالنجاح، ليحيا الإنسان حياة طيبة في دنياه، ويهنأ في آخرته بالسعادة الأبدية في جنات الخلد، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، في الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وكيف لا؟ وقد وعد الله: "لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ". سورة يونس: 26
فكما قال المفسرون" الحسنى هي الجنة والزيادة رؤية الله سبحانه وتعالى.
ومن حقيقة الفلاح والنجاح أن يوقر الإنسان ربه، وأن يقف عند حدوده، وأن يدرك أن الوقار لله ليس كلمة تقال، وإنما سلوك يظهر في السر والعلن، وفي القول والعمل، وفي التعامل مع الذات ومع الناس ومع رأفة بالحيوان والشجر والحجر. فمن الوقار أن يستثمر المرء ذاته، وأن يخرج أجمل ما بداخله خلقاً وإبداعاً وأداء، وأن يزن كلامه قبل أن يخرج من فيه، فيختار المهذب اللطيف الرفيق، وأن يتصرف بسلوك راقٍ يقدر قيمة من حوله، ويسمو تجنباً على اللأحقاد والأنانية والتكبر؛ يعامل الناس لكونهم بشراً خلقهم الله وكرّمهم، لا لمراتبهم أو درجاتهم أو مناصبهم، بل لإنسانيتهم ورسالته السامية هذه الدنيا.
والوقار لله أن يرحم الناس، وأن يتعاطف معهم، وأن يدعمهم، ويقوي شوكتهم، ويشاركهم همومهم، ويرفق بالصغير، ويوقر الكبير، ويحفظ لكل ذي قدر قدره ولكل شخص حذوته ومكان من الاحترام والتوقير والإعانة.
فهل من الوقار أن يدمر الإنسان نفسه بالانشغال بما لا يفيد؟ أو أن يقحم ذاته في ما يضعف روحه ويهلك صحته ويعطلها عن أهداف خلق من أجلها؟ وهل من الوقار أن يطلق لسانه كيفما يشاء، ويتصرف وفق هواه دون ضابط يحكمه أو خلق يردعه؟ إن الضوابط لم توضع لتقييد حرية الإنسان، بل لحفظ كرامته، وتوجيه خطاه نحو الإبداع الحقيقي، ومنعه من الانزلاق في متاهات لا قيمة لها ولا وزن، فقد وجدت القوانين الكونية والنواميس الآلهية لسعادة البشر في الدراين.
وهل من الوقار لله أن يقطع علاقاته بالناس بحجة أنهم لا يستحقون قربه؟ أو أن يردد العبارات المثبطة والسلبية التي يؤمن بها العديد من الخلق ": كل شيء بتزرعه بتحصده إلا الإنسان؛ إذا زرعته بخلعك"، فينشر اليأس ويقطع حبل المودة والصلة مع غيره؟ وهل من الوقار أن يحجب خبرته عنهم، أو أن يتسلط عليهم، أو يقسو في حكمه وسلطته ومركزه، في حين أن الله أمر بالرحمة والعدل، والإحسان، لا بالتجبر والتسلط؟ وقهر الموظف والعامل، بل إكرامه ومساندته والملاينة معه.
وهل من الوقار أن يتصرف المدير أو المسؤول بسلطة متعالية، ناسياً ومتناسياً قيم الدين وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، بدل أن يلين للناس، ويدعم جهودهم، ويساند الضعيف والمريض منهم، ويحقق مبدأ العدالة والإنصاف في الرواتب والحقوق والمعاملة؟ الوقار لله أن ترى الموظفين بعين المسؤولية والأمانة، لا بعين الاستعلاء والهيمنة والاستغلال لمن يحتاج عمل يوفر لنفسه وعائلته حياة كريمة وخالية من الهموم والمشكلات.
بل هل من الوقار لله أن يظلم الحيوان الذي لا يملك أن يدفع عن نفسه ولا أن يعبر عن حاجته؟ أليس الرفق به عبادة وخلقاً وميزاناً لرقة القلب؟ فقد دخلت امرأة النار في هرة حبستها، لا أطعمتها ولا تعطي لها حريتها حتى تأكل من فضل الله ومنته. كما قال صلى الله عليه وسلم" دخَلَتِ امرَأَةٌ النَّارَ في هِرَّةٍ، ربَطَتْها، فلَمْ تُطْعِمْها، ولَـمْ تَسْقِها، ولَـمْ تُرْسِلْها فتَأْكُلَ مِن خَشَاشِ الأَرْضِ". أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجة وأحمد
هنا يظهر الفرق العظيم بين من يغفل أحياناً عن توقير الله، وبين من يجاهر بالمعصية ويكسر حاجز الحياء، ويتجبر على العباد ظلماً وعدواناً. فالغافل قد تحجبه شهوته حيناًًا، لكن قلبه ما زال فيه بقية نور، فإذا تذكر ونهض قلبه، عاد إلى رشده واستقام بعد انحراف. أما ذاك الذي يتجبر ويسلب وينهب ويقسو بفعله وقراره ولسانه، فيمضي في معصيته بلا خجل ولا خشية ولا حياء، فهذا قلبه قد تحجر حتى صار لا يعرف للين باباً ولا للإنابة طريقاً؛ يظلم العباد، ويهين الضعفاء، ويأكل الحقوق، فلا يرجى منه خير ولا ينتظر منه رجوع، إلا أن يشاء الله.
فشتان ما بين قلب يغفل ثم يفيق، وبين قلب يقسو حتى لا يستيقظ من غييه وطغيانه. من غفوته وضلالة. وبعده عن ربه وشعوره بالهيبة والوقار له. الأول ترجى له الهداية والعودة للصواب والأستقامة، والآخر قد غلبه ظلمه وعناد نفسه وعقله الذي ضله وأبقاه على هواه وتجاوزاته وتكبره. إن الوقار لله في السر والعلن، في غدونا ورواحنا، وفي أفكارنا وأقوالنا وأفعالنا، هو طريق السعادة، وطريق العلو، وطريق الصلاح، وهو مفتاح بركة في الدنيا، وفوز عظيم في الآخرة.
***
د. أكرم عثمان
-12-202517







