أقلام حرة

عبد الأمير الركابي: العراق الذي "يولد" لانه لن يولد؟ (2)

يبقى" العراق" بناء عليه بلا هوية، هي ارفع واعلى من القدرات المتاحة للعقل البشري من حيث مقاربة الظاهرة المجتمعية، لتظل مغفله كما كان "الاصطراع الطبقي" على الطرف الاخر من المتوسط وظل مستمرا الى القرن التاسع عشر قبل ان يماط اللثام عنه، وهو الادنى مقارنه بالاصطراع الازدواجي المجتمعي  اللاارضوي الارضوي لارض مابين النهرين، الاعلى ديناميات من تلك الازدواجية الطبقية، والذي سيتاخر كشف النقاب عنه الى مابعد الطورين الاول المصنعي، والثاني التكنولوجي الانتاجي من الانقلابيه الالية، وقت تحضر او تصير وشيكه وسيلة الانتاج العقلي مافوق الارضوي، لتبدا ساعتها الاصطراعية الكبرى مع ارث الارضوية المجتمعية وتوهميتها الحداثية الكبرى، المحايثة زمنيا لتاريخ التشكلية الرافدينيه المبتدئة مع القرن السادس عشر.

  وعليه وهكذا يكون العراق كهوية وذاته قضية كبرى كونيه شامله للمعمورة، عندها يحصل الانقلاب الالي مجتمعيا كما كان مقررا له ان يكون، فلا انتقال آلي على مستوى المعمورة الا بحضور الحقيقة الرافدينيه مجتمعيا بما هي حقيقة فوق يدوية اصلا وابتداء، ان من يبحثون اليوم في وضع العراق وترديه الاقصى مستعملين وسيلتهم المستعارة باسم الدولة المدنيه والديمقراطية، ارتكازا على الحداثيات التوهمية الغربيه المنقرضة في ارضها، هم بالاحرى الظاهرة الاكثر تهافتا مقارنة بما يحاولون انتقاده، والتحذير من مغبه استمراره، وهؤلاء بالاحرى ليسوا سوى عنصرا وعاملا من بين عوامل الانحطاطية المدمرة الحالة على العراق اليوم مثلهم مثل من ينتقدونه.

  فالعراق  على النمطية الغربيه لن يوجد، ولاهو قابل لان يولد على الاطلاق، ومانشهده اليوم هو مآل هذا المشروع المركب من خارج الكينونه الذاتيه وقد ثبت بالتجربة انتفاء صلاحيته، لابل ثقل وطاته على العراق  كصيغة مفروضه، القصد منها امحاء العراق باجباره على الرضوخ للمشروع التوهمي الغربي بصيغته ونموذجه " الدولة / الامه" الادنى كينونة ونمطية، مقارنه بالكينونه التاريخيه الرافدينيه مابين النهرينيه الازدواجية المجتمعية الذاهبه الى مابعد مجتمعية جسدية حاجاتيه ارضوية.

 يوم دخل الانكليز من الفاو وذهبوا صعدا الى العاصمه الامبراطورية المنهارة، ساد مجتمعية اللاارضوية شعور بالخطر الوجودي، مصدرة نوع الطرف الغازي وعدته، ماقد استدعى في حينه النهوض العشريني اللاارضوي الاول غير الناطق، والناطق  بالدلالة العفوية ب" الطوب احسن لومكواري" لنصبح وقتها امام عراقين، العراق الاسفل الذي استدعى عزم القوات البريطانيه على الانسحاب من العراق، والعراق الاعلى البراني، حيث تقرر استعمال سلاح الدولة البرانيه كوسيله لضمان ماممكن من نفوذ في هذا الموضع من المعمورة، وهو ماقد حدث باقامه دولة برانيه من خارج النصاب المجتمعي،  مع مايقتضية سلوك كهذا من "سردية" تكفل بها الضابط الملحق بالحملة البريطانيه "فليب ويرلند" مقررا عراقا لاوجود له في تاريخ المكان، راى انه مؤلف من ثلاث ولايات هي بغداد، والبصرة، والموصل، لتكتمل عناصر الافنائية للافق ومجال انبثاق ثورة العشرين مياعني واقعا ان العراق بعد دخول المحتل البريطاني صار عراق ثورة العشرين مقابل عراق الدولة المفتعله المركبه من اعلى من خارج التشكلية الوطنيه والمدعومه من الاحتلال.

  اقيمت الدولة البرانيه الحديث عام 1921 ، ولم تلبث ان اقيمت بوجهها دولة لاارضوية مستبدله بسبب تعذر النطقية الذاتيه في حينه، كان مقرانطلاقها عاصمة المنتفك / الناصرية/ حيث تاسس الحزب الشيوعي اللاارضوي، وحزب البعث الذي من نوعه، بعد محاولات "افندوية" تاسيسيه فاشله جرت في بغداد على يد حسين الرحال، واخرين حاولوا اقامة حزب البعث، منهم عرب، وماكان على "فهد" والزنجي  الباقي من ثورة الزنج غالي الصويح، ومعهم " فاسيلي" البعوث الروسي الى الناصرية المتخفي بصفة خياط، ان يفعلوا اكثر من اعلان مايحملونه من افكار وصلت الى ارض اللاارضوية ضمن اشتراطات اصطراعية افنائية، قبل تتوفر اسبا ب النطقية، و بلا حركة فكرية او من هم بموقع القدرة على ازاحة النقاب عن منطوى الذاتيه، فالواقع كان مهيئا حينها للقيام بما يلزم استبدالا، بالاخص في مكان هو الارقى كينونه على الصعيد اليوتوبي المجتمعي، ففي ارض كوراجينا وحمدان قرمط الاشتراكية تعاش كوجود دائم، ارفع من الطبقية الماركسية واكمل، ولهذا شهدنا في حينه وبمواجهة دولة الانكليز البغدادية البرانيه، مرحله ثالثة بعد القلبية، والانتظارية النجفية، هي المرحلة اللاارضوية الشيوعيه المستعارة شكلا، والغامرة لدرجه ستستدعي لاحقا من النجف اصدار فتوى بتحريمها بعدما حولت وجود الدولة البغدادية الى استحالة، وصولا ل"جبهة الاتحاد الوطني" المرتكزة للاليات المجتمعية بغض النظر عن الاتباعية الايديلوجيه، وصولا الى عام 1958 يوم امكن اجتثاث دولة البرانيه الافنائية البريطانيه  وسحقها بعد ثلاثين سنه  من الاحتدام الاقصى، من الاضرابات والانتفاضات التي لم تهدا بعد اختراق الدولة السفلى للعراق الاعلى، وللعاصمه المنهارة، وصولا لساعة الثورة اللاارضوية الثانيه غير الناطقة، والتازم الكبير بين الثورة بصفتها دولة لادولة لاارضوية، واشتراطات الدولة والمفهوم الويرلندي الاوربي الذي ستتبعه وتذهب لتبنيه الاحزاب الاكثر فاعلية،  من التي تشكل "جبهة الاتحاد الوطني" ماقد اوقع الافتراق بينها وبين الاساس والخلفية التي اعطتها الحضور  والفعالية التي حظيت بها، لينتهي طور بدا في الثلاثينات وانتهي مع الستينات، مع اصرار هذه الاحزاب على تحقيق"العراق"الويرلندي، ومنجزات الثورة البرجوازيه، وهو ماكان الحزب الشيوعي قد اعتمده ليخرج من ساعتها من عالم "اللاارضوية".

 والاحزاب الايديلوجيه ليست وطنيه بل ويرلندية، تتبنى المنظور البريطاني للعراق بلا ذاتيه وطنيه، ولا اي محاولة  لارساء منظور وسردية تشكلية عراقية راهنه، مستنده الى رؤية في الديناميات الاساس التكوينيه والتاريخيه،  مقابل السردية  الافنائية المفروضه من قبل المحتل، فاذا كانت هي قد اكتسبت خلال الفترة الاولى وحتى ثورة تموز، صفة القوى الوطنية فان ذلك قد لحق بها جراء  مفعول الديناميات الاصطراعية الواقعية غير الناطقة، بالرغم منها، ومن دون ان يكون لها اي دور فيما تمتعت به من مكانه وموقع.

   والحزبان  الشيوعي، وحزب البعث،ماعدا الوطني الديمقراطي، يمران بنوعين متباينين من الكينونه تجعل منهما حزبان لاعلاقه لاحدهما بالاخر،اولى لاارضوية بحسب اشتراطات الواقع الازدواجي العراقي ودينامياته،  وتستمر من الثلاثينات الى ثورة تموز1958 في الفترة الفاصلة مابين الثورتين اللاارضويتين غير الناطقتين، والثانية من الستينات الى الوقت الحاضر، الاولى لاارضوية،  بالنسبه للحزب الشيوعي تاسس على يد " فهد" يوسف سلمان يوسف في مدينة الناصرية، وصار راس حربة الاصطراع مع الدولة والمشروع الاحتلالي، زعيماه الاول " فهد"، والثاني سلام عادل، قتلا اعداما للاول، وتحت التعذيب للثاني، واما الطور الثاني الارضوي فمؤسسه عزيز محمد، منذ ان سطى على قيادة الحزب عام 1964، هو ومن جاء بعده الى اليوم،  لم  يعرفوا لاالقتل ولا حتى الازورار، واخرهم جاء من الوزارة المحاصصاتيه الامريكيه، الى سكرتاريا الحزب. والبعث يبدا في الناصرية مع فؤاد الركابي الذي سيقتل لاحقا على يد محوري الحزب الى حزب سلطوي، الى جانب النواة القرابيه والريع النفطي، وقد انتقل الى الاعلى، الى تكريت للعسكريين واحمد حسن البكر، ثم صدام حسين، اما الحزب الوطني الديمقراطي فهو حزب بغدادي غير مؤثر، وبلا فعالية جماهيرية، ينتهي بالذوبان عند الستينات ذاتيا ومن دون تدخل من خارجه لانتفاء الضرورة.

 ـ يتبع ـ 

***

عبد الامبر الركابي

في المثقف اليوم