أقلام حرة

رافد القاضي: التفاعل البصري - النصي في الفضاء الرقمي.. حدود النقد ومسؤولية الظهور

بين ملامح الكاتب وبلاغة النص

بين الصورة والفكرة تتشكل مساحة شديدة الحساسية مساحة يقف فيها النقد متأرجحًا بين العقل والانفعال، وبين قواعد الذوق العام واستحقاقات الحرية، بينما نقف نحن—الكتّاب وأصحاب الرأي—عند تخوم سؤال يتجدد في كل عصر وكل منصة: هل الصورة امتداد للفكرة أم عبء عليها؟ وهل الانتقاد موجّه لجوهر النص أم موجّه لهيئة صاحبه؟ لقد أعاد الزمن الرقمي صياغة علاقة الإنسان بما ينتجه؛ إذ لم تعد الكلمة وحدها سفيرة الكاتب بل بات الوجه المرافق لها عنصرًا من عناصر الهوية وجزءًا من عملية التواصل ومكوّنًا من مكوّنات الفضاء العام وفي علم الاتصال الحديث يُعدّ هذا الظهور جزءًا من بنية الخطاب، لا زينةً خارجية.

وحين يضع الكاتب صورته إلى جانب نصّه فهو لا يسعى لتجميل الفكرة بقدر ما يعلن مسؤوليته عنها، تمامًا كما هو واضح في نظريات “المصداقية البصرية” التي تشير إلى أن الظهور الإنساني الحقيقي يعمّق جسور الثقة بين المُرسِل والمتلقي فالصورة ليست قفصًا للمعنى، بل نافذة تُطلّ منها النبرة الصادقة للنص.

وأي اعتراض على هذا الظهور لا يجد له سندًا في الشرع أو القانون أو الأعراف الراسخة، لأن جميع تلك المنظومات تنظر إلى الإنسان بوصفه كيانًا حرًا يمتلك الحق في أن يُعرّف نفسه كما يشاء ما دام لم يخالف ذوقًا عامًا ولم يخدش حياءً أو قيمة.

غير أنّ النقد، الذي يفترض أن يكون ممارسة معرفية راقية، كثيرًا ما ينزلق في فضاءات التواصل إلى مستويات لا تمتّ للنقد بصلة، بل إلى ما يسميه علم النفس الاجتماعي “التركيز على الشخص بدل الفكرة” وهي آلية دفاعية يلجأ إليها البعض حين يعجز عن مجابهة المضمون فبدل تحليل الفكرة، يتم تفكيك الصورة، وبدل تفكيك النص يتم تناول ملامح الكاتب.

 وهذا التحويل من الجوهر إلى المظهر ليس نقدًا، بل انفعالًا متنكرًا في هيئة نقد فالنقد الحقيقي يشتغل على بنية الخطاب، على قوة الحجج، على انسجام الفكرة على انسجام النص مع الواقع، لا على إطار الصورة ولا على تفاصيل لا تؤثر في الرسالة.

وفي سياق علم الاجتماع الثقافي، يُعدّ الهجوم على صورة الكاتب—لا على فكرته—جزءًا من صراع رمزي يتولّد عادةً حين يبدأ حضور شخص ما في التشكّل وحين يرى البعض في نجاحه مرآة تعكس عجزهم أو تقصيرهم إذ تشير دراسات “تهديد المكانة الرمزية” إلى أن بعض الأفراد يشعرون بالانزعاج من صعود صوت جديد، ليس لأنه مخطئ، بل لأنه يُذكّرهم بأنهم توقفوا بينما تقدم غيرهم لذلك كثير من التعليقات ليست سوء فهم للصورة، بل ضيق من حضور صاحبها وهذا ما يجعل الكلمة القاسية أحيانًا اعترافًا غير مباشر بقوة الشجرة المثمرة.

وعلى الرغم من ذلك، يبقى النظام القيمي الذي يلتزم به الكاتب هو الفيصل فإن كان قد نشر صورته بما يليق، ولم يتجاوز حدود الأدب، ولم يخرق قانونًا، ولم يمسّ عرفًا سليمًا، فهو إذن لا يدافع عن فعل مشبوه، بل عن حق طبيعي يمارسه كل يوم ملايين الأشخاص في العالم بل إن الامتناع عن الظهور في زمن الشفافية قد يُقرأ أحيانًا كنوع من الغموض بينما الظهور الواضح يُقرأ كتأكيد على المسؤولية والانتماء إلى الفضاء العام بلا مواربة.

والكرامة الإنسانية، في بعدها الفلسفي، لا تُقاس بعدد الانتقادات، بل بقدرة الإنسان على البقاء ثابتًا أمام محاولات التشويش. فالإنسان الذي يعرف قدر نفسه لا يُمزّقه تعليق عابر، ولا يُفقده التوازن رأي متسرّع. من يستند إلى قيمه لا يتأرجح بأمزجة الآخرين ومن يستمد يقينه من داخله لا يضطرب حين يرتفع ضجيج الخارج والراسخون في الأرض يشبهون الجبال: قد تطرقهم الرياح، لكنهم لا ينحنون إلا لخالقهم.

إن الكاتب ليس ظلًا يتخفّى في زوايا نصوصه، ولا صوتًا يخرج من وراء ستار فالكاتب إنسان كامل، له وجه، وله ملامح، وله حضور، وهذه العناصر ليست ترفًا بصريًا بل جزءًا من تكوين الرسالة. الظهور ليس استعراضًا بل تأكيدًا: “أنا هنا، أكتب أمامكم، ولست متواريًا خلف اسم لا يدلّ عليّ” ومن يرى في الصورة عيبًا أو حرجًا فذلك انعكاس لرؤيته هو، لا لحقيقة الأمر فالثقافة الإنسانية عبر آلاف السنين حملت وجوه الفلاسفة والشعراء والعلماء إلى العالم ولم يجرؤ أحد على القول إن ظهورهم انتقاص من قيمة أفكارهم.

ومع ذلك، إن كانت بعض الانتقادات تنطلق من نصيحة صادقة، فهي تُستقبَل بالاحترام لأن النصيحة خيط من النور في طريقٍ مزدحم بالضجيج أما إن كانت تنطلق من تجريح، فإن التجريح لا يُسقِط إلا صاحبه، ويحفر في صورته هو لا في صورة من ينتقده. فالكلمة الجارحة كالحجر الذي يُرمى إلى الأعلى؛ يعود دائمًا إلى يد من ألقاه، لا إلى رأس من وُجّه إليه.

وهكذا نمضي، نكتب ما نؤمن به، ونظهَر كما نحن، ونحمل وجوهنا مع كلماتنا لأن الإنسان لا ينفصل عن أثره. وما دمنا لم نخالف قانونًا ولا خلقًا ولا عرفًا سليمًا، فإن الطريق أمامنا مفتوحة مهما تكاثر حولها الكلام. فالشجر المثمر وحده يُرمى، والكاتب الحاضر وحده يُنتقد والصورة الصادقة وحدها تبقى أقوى من ألف كلمة مغموسة بالحسد أو الشك أو الخوف من ضوءٍ جديد.

***

د. رافد حميد فرج القاضي

 

في المثقف اليوم